هل يملك التنظيم قدرةً على البقاء بعد اهتزاز الشرعية الدولية؟
منذ الشروع في مسار تصنيف بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين كـ«منظمات إرهابية أجنبية» داخل الولايات المتحدة، بدا وكأن التنظيم يدخل مرحلة انعطاف حاد، لا بسبب القرار ذاته فحسب، بل لأن القرار أعاد فتح سؤالٍ أكبر ظلّ معلقًا طوال عقود: هل ما زالت الجماعة قادرة على تكييف وجودها مع حقائق الدولة الحديثة، أم أنها رهينة بنيتها الأولى التي تأسست على ثنائية الدعوة والتنظيم السري، وعلى مفهوم «الطليعة» كما رسّخه الجهاز الخاص بقيادة عبد الرحمن السند وبإشراف مباشر من المرشد المؤسس حسن البنا؟.

إن استقراء المشهد التاريخي يكشف أن الجماعة لم تتطور في خط مستقيم، بل في مسار متعرج تحكمه موجات تمدد وانكماش، وأن التحولات الكبرى في تاريخها لم تكن نتاج قرار واحد، بل حصيلة عوامل تراكمية صاغت وجدانها السياسي. فمنذ الأربعينيات، حين برزت كقوة شعبية متنامية في سياق الصراع السياسي بين القصر والقوى الوطنية ـ تارة تقف هنا وتارة هناك ـ ارتبط ذكرها بسلسلة من الأعمال العنيفة والاغتيالات، من الخازندار إلى النقراشي، ثم اغتيال البنا نفسه في سياق ثأري معقّد حاول التنظيم لاحقًا إعادة تأويله سياسيًا.

وجاءت ثورة الضباط الأحرار لتمنح الجماعة فرصة زمنية قصيرة قبل أن تعود المواجهة إلى ذروتها في حادثة المنشية 1954، التي دشنت مرحلة جديدة من الصراع المكشوف. وتعمّق الشرخ أكثر في تنظيم 1965 وما تبعه من إعدام سيد قطب، لتبدأ الجماعة مسارًا داخليًا شديد الحساسية حول العلاقة بين النص والواقع، وبين الدعوة والانقلاب، وهو النقاش الذي سيرافقها ـ بطرق مختلفة ـ حتى يومنا هذا.

وخلال عهدَي السادات ومبارك، بدا أن التنظيم يحاول العودة إلى واجهة الحياة العامة عبر العمل النقابي والبرلماني، غير أن بعض أجنحته، سواء المتصلة بالتنظيم الخاص أو المتأثرة بسيد قطب، عادت إلى ممارسة العنف، فحدثت اغتيالات وتفجيرات وعمليات مسلحة، وصولًا إلى مذبحة الأقصر 1997، التي تركت ندبة عميقة في صورة الحركات الإسلامية عمومًا. وعندما اندلعت ثورة يناير، لم تفوّت الجماعة فرصة ركوب الموجة الثورية، وبلغت السلطة عبر محمد مرسي، لكن التجربة انهارت سريعًا نتيجة أخطاء جوهرية، وضعف القدرة على بناء توافق وطني، وتآكل الثقة المجتمعية.

وفي سياق هذه التقلبات المتراكمة، بدأت دول عربية عديدة تكتشف أن التنظيم يمس أمنها القومي مسًّا مباشرًا، سواء عبر التحريض أو اختراق مؤسسات الدولة أو صناعة استقطاب مجتمعي يهدد السلم الداخلي. ولهذا، اتخذت مصر والإمارات والسعودية ودول عربية وإسلامية أخرى قرارًا واضحًا بتجريم الجماعة، بعدما تبيّن لها ـ وفق معطيات ملموسة ـ أن نشاط التنظيم تجاوز حدود الدعوة ليصل إلى تهديد بنية الدولة نفسها. وقد كان هذا التحول الإقليمي أحد أهم الخلفيات التي جعلت القرار الأمريكي في اتجاه التجريم يبدو منسجمًا مع المزاج الدولي العام لا شاذًا عنه.

وعندما صدر إعلان البدء بالإجراءات الأمريكية، ظهر الارتباك بوضوح داخل التنظيم. فهو يعيش في الوقت نفسه أزمة شرعية تنظيمية بسبب الانقسام بين جبهتَي لندن وإسطنبول، وأزمة هوية فكرية بعد سقوط مشروعه السياسي في مصر، وأزمة نفوذ دولي بعد تراجع الحاضنة الغربية التي احتضنته منذ السبعينيات. 

وقد حاولت الجماعة استعادة خطاب «المظلومية» وتحريك شبكاتها الإعلامية والحقوقية في أوروبا، لكن اللحظة الدولية تبدلت: فقد ظهرت ملفات مالية وتنظيمية ذات صلة بجماعات متطرفة، وبدأت دول غربية تعيد تقييم علاقتها بالإسلام السياسي، ما جعل أدوات التأثير القديمة غير قادرة على أداء وظائفها السابقة.
في ضوء هذا التحول، تبدو الجماعة مقبلة على مفترق طرق. 

فإما أن تعيد صياغة خطابها بما يسمح لها بالاندماج في المجال الاجتماعي بعيدًا عن الطموحات السياسية المباشرة، وإما أن تنزلق إلى مزيد من الانغلاق الأيديولوجي ومراكمة التبريرات، وهو خيار يُعمّق الانقسامات الداخلية ويجعل التنظيم أكثر هشاشة. وقد ظهرت بالفعل بوادر توجهات راديكالية داخل بعض الأجنحة (تيار الكماليين)، مقابل تمسك قيادات أخرى ببراغماتية تنظيمية تهدف إلى احتواء الصدمة والحفاظ على الخيط الأخير الذي يربط الجماعة بفضاء العمل العام (تيار حلمي الجزار).

لكن السؤال الأكبر يتجاوز مستقبل الجماعة إلى مستقبل الإسلام السياسي نفسه. فالقرار الأمريكي ـ وإن كان موجّهًا إلى تنظيم الإخوان مباشرة ـ إلا أنه يعيد طرح سؤال جوهري حول قدرة التيار بكامله على إنتاج مشروع سياسي يتوافق مع منطق الدولة الحديثة. فقد أثبتت التجارب أن المجتمعات العربية التي عانت كثيرًا من الاستقطاب السياسي أصبحت أكثر حساسية تجاه أي مشروع يوظف الدين في المجال السياسي، وأن قدرة هذا التيار على الاستمرار باتت مرتبطة بقدرته على الفصل الصارم بين الديني والسياسي، وبناء خطاب وطني جامع لا يقوم على التمييز بين «جماعة» و«مجتمع».


وهكذا، تدخل الجماعة مرحلة تاريخية فارقة: مرحلة يتراجع فيها تأثيرها الاجتماعي والسياسي ليس بفعل الضغوط الأمنية فحسب، بل بفعل انهيار الحواضن الفكرية والنفسية التي كانت تمدّها بشرعية ممتدة. 

إن المشهد الإقليمي يتحرك بسرعة غير مسبوقة، والتوازنات التي تأسس عليها وجود التنظيم منذ منتصف القرن الماضي لم تعد قائمة، والفاعلون الجدد في المنطقة لا ينظرون بعين الود إلى أي حركة عابرة للحدود تتجاوز منطق الدولة الوطنية.


في هذا المفصل التاريخي، يبدو أن السؤال الجوهري الذي يجب طرحه ليس: «كيف ستواجه الجماعة القرار؟» بل: هل تملك الجماعة أصلًا ما يكفي من المرونة لإعادة تعريف ذاتها؟ وهل يمكن لتيار بُني على منطق التنظيم السري أن يتحول إلى مكوّن مدني شفاف يخضع لمعايير الدولة الحديثة؟ أم أن البنية العميقة للتنظيم تجعل هذا التحول غير ممكن؟.

أسئلةٌ مفتوحة على تعدد التأويلات، لكنها تبقى ضرورية لفهم ما إذا كانت هذه اللحظة هي مجرد أزمة عابرة، أم بداية النهاية لتاريخ طويل من الحضور الإخواني في المنطقة.

طباعة شارك الاخوان جماعة الإخوان مقالات صدى البلد محمد بشاري مصر

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الاخوان جماعة الإخوان محمد بشاري مصر

إقرأ أيضاً:

شوقي علام يكشف عن خطورة التفسير الحركي للسيرة النبوية

كشف الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية السابق، عن خطورة ما يُعرف بالتفسير الحركي للسيرة النبوية، موضحاً كيف استغلته بعض الجماعات — أو جماعة بعينها تحديداً — لتمهيد الطريق نحو التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة، تحت غطاء ديني ومفاهيم شرعية جرى توظيفها بشكل خاطئ.

شوقي علام: استغلال المتطرفين للنصوص لبناء دولة داخل الدولة تكرار لنهج الخوارج شوقي علام: تاريخ دار الإفتاء يسطِّر جهودًا كريمة لبناء المجتمع المصري

وقال شوقي علام، خلال حلقة برنامج "بيان للناس"، المذاع على قناة الناس اليوم الجمعة، إن توظيف مرحلة الدعوة السرية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لإسقاطها على واقع جماعة تعمل داخل مجتمع مسلم هو قياس مع الفارق، مؤكداً أن السرية في صدر الإسلام كانت لحماية الدعوة من المشركين والكفار، بينما تلك الجماعات كانت تعمل داخل مجتمع مسلم، فيه علماء ومؤسسات راسخة كالأزهر الشريف.

وأوضح أن الجماعة لجأت إلى مفهوم السرية و"العمل في الظلام" للوصول إلى أهدافها، ثم انتقلت لاحقاً إلى ما سمّته "المرحلة الجهرية"، والتي بدأ معها تجنيد الشباب وإعلان مشروع سياسي موازٍ للدولة، أشبه بما يسمى "حكومة ظل" أو "دولة داخل الدولة"، تضم جهازاً تعليمياً وتنظيمياً وأمنياً خاصاً بها.

وأشار المفتي السابق إلى أن هذه الجماعة أعلنت صراحة أن دعوتها "وصلت إلى الآفاق"، ولم يبقَ إلا الوصول إلى النخبة الحاكمة. ونقل عن وثائقهم أن الوزراء والعلماء إن أطاعوهم "كانوا في ظهورهم وردءاً لهم"، وإن لم يطيعوهم "كانوا حرباً عليهم"، في إشارة إلى صدام مباشر مع مجتمع مسلم، لا مع مشركين أو كفار.

وبيّن الدكتور علام أن هذا التوجه بلغ ذروته حين أعلن منظّرو الجماعة في الستينيات أن العقيدة في المجتمعات الإسلامية "فاسدة" وأن الإسلام "غاب"، وأنه لا بد من إعادته على أيدي "فِتية" بصفات محددة، يتبعون الجماعة وحدها. وهؤلاء — بحسب تصورهم — سيصطدمون بالواقع، ولن يستطيعوا فرض ما يسمونه "العقيدة الصحيحة" إلا بقوة السلاح، الأمر الذي أدى إلى عسكرة التنظيم وأدلجة الشباب.

 قراءة انتقائية حركية للسيرة

وأكد المفتي السابق أن هذا الفكر اعتمد على قراءة انتقائية حركية للسيرة؛ ركزت على مراحل السرية والغزوات والقتال، وتجاهلت الجوانب الأخلاقية والعمرانية والتربوية التي أسس لها النبي صلى الله عليه وسلم. بينما تؤكد التجربة التاريخية — كما قال — أن العلم الشرعي كان دائماً لصيقاً بالدولة، داعماً للمصلحة العامة، وأنه لم تتبنَّ منطق استغلال الدين للغرض السياسي سوى جماعة واحدة عبر التاريخ، هي الخوارج، الذين انفصلوا عن الأمة ليؤسسوا كياناً موازياً.

مقالات مشابهة

  • مجلة أمريكية: حرب الحوثيين على الأمم المتحدة.. يعضون اليد التي تطعم الشعب اليمني (ترجمة خاصة)
  • شوقي علام يكشف عن خطورة التفسير الحركي للسيرة النبوية
  • عاجل | وزير الداخلية السوري للجزيرة: نفذنا عمليات عدة ضد تنظيم الدولة واعتقلنا قادة في التنظيم
  • الإخوان من واشنطن إلى السودان
  • تسابق أجنحة الحوثيين على الشهادات العليا يصل مرحلة الهوس.. التعليم الأكاديمي رهينة شبكات الولاء الحوثية
  • جورج كلوني يعترف: زوجتي تعمل لدى جماعة الإخوان المسلمين
  • المجلس السياسي يتفق على إعداد ورقة لإدارة الدولة
  • 200ألف دولار.. سرقة مستشار وزير إخواني سابق تفضح قيادات الجماعة في الخارج
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الجيش حَكَم.. لا عزاء للسابلة والمخذلين