الإبل.. ذاكرة متدفقة وهوية نابضة وتقنية تعيد اكتشافها من جديد
تاريخ النشر: 6th, December 2025 GMT
في قلب صحراء الصياهد، حيث يعانق شتاء الجزيرة دفء الرمال، يجمع مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل الحدث الأكبر من نوعه عالميًا، التراث والثقافة والاقتصاد في لوحة تعكس عمق علاقة الإنسان السعودي بالإبل عبر التاريخ.
ويواصل المخيم الثقافي في مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل جذب زواره، مستعيدًا مشاهد الحياة كما عاشها الأجداد.
ويقدم مخيم بانوراما صورًا حيّة لطريقة العيش القديمة، من خلال جلسات الحوار التي يتداول فيها الرواة قصائد البادية، وحكايات الإبل والصحراء، في مشهد يكتمل بطقوس استقبال الضيوف، وإعداد القهوة العربية وتحميصها على النار، باستخدام أدوات تجاوز عمر بعضها قرنًا كاملًا.
ويستعيد المخيم مسكن أهل البادية، ومنتجاتها القديمة، فيما يتعرف الزائر على اختلاف مساحات بيوت الشعر بين المخومس والمثولث وغيرها، بحسب حجم العائلة واحتياجاتها، مقدما بذلك صورة شاملة لزواره من مختلف دول العالم، لاعتماد سكان الجزيرة العربية قديمًا على الإبل في تفاصيل حياتهم اليومية؛ بدءًا من التعايش مع الإبل قديمًا في استخراج الماء من الآبار وحفظه في القرب، وصولًا إلى الترحال والتنقل والكلأ.
ويقترب الزوار في رحلتهم من عالم الألوان المميزة للإبل، التي تشكّل جانبًا مهمًا في تقييم السلالة والجمال، حيث تنقسم الإبل حسب ألوانها إلى قسمين رئيسين: المغاتير والمجاهيم، وتُعرف المغاتير وواحدتها “مغتر” بلونها الفاتح، وتتفرع إلى الوضح البيضاء الناصعة، والصفر ذات اللون الأصفر وسنامها الأسود، والشعل التي تتميز بصفار خالص بلا سواد، والحمر بلون بيج يميل إلى الحمرة، أما المجاهيم وواحدتها “مجهم” فهي السوداء وما يدخل في نطاقها من درجات، مثل المجهم الخالص السواد، والملحاء، والصهباء ذات الأسود الفاتح، والزرقاء التي يظهر في بطن يديها وأسفل رقبتها بياض.
وتظهر أيضًا ألوان أخرى مثل البرصاء البيضاء الخالصة، والقمراء التي تجمع بين الأبيض والرمادي، وتُعرف الناقة البيضاء بعدة أسماء، منها: عفراء، شقحاء، برصاء، قمراء، وضحاء.
وتُعد المجاهيم الأضخم حجمًا والأهدأ طبعًا، وأكثرها إنتاجًا للحليب، وهي المفضلة لدى بعض البادية لصفاء لونها وحسن طباعها، بخلاف المغاتر التي تظهر فيها الشوائب ويبدو لونها حساسًا للتغيرات، مما يجعل المجاهيم أجود إدرارًا للحليب في المملكة، إضافة إلى الإبل الساحليات التي تتكاثر في سواحل المملكة والمناطق الغربية من المملكة.
اقرأ أيضاًتقاريرمبادرات وبرامج تعزز مشاركة ذوي الإعاقة في سوق العمل
ويتفاوت تركيب حليب الإبل باختلاف السلالة ونوعية الأعلاف والنباتات الرعوية والمياه، بالإضافة إلى عمر الناقة وفترة الإدرار، وعادة ما يكون لبن الناقة في الغالب أبيض مائلًا إلى الحمرة، حلو المذاق لاذعًا، وقد يكون أحيانًا مالحًا أو شبيهًا بمذاق الماء تبعًا لطبيعة العلف والماء، حيث يصل محتوى الماء فيه إلى ما بين 84% و90%، وهو ما يجعله مصدرًا حيويًا لصغار الإبل، ولسكان المناطق الصحراوية في بيئة الجفاف.
ويمتد الاهتمام العلمي بالإبل نحو آفاق جديدة، إذ طور فريق بحثي في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست” بقيادة الدكتور باسم شحادة نظامًا ذكيًا يستخدم طائرة مسيّرة منخفضة التكلفة ومرتفعة الدقة للتعرف على الإبل وتتبع حركة قطعانها دون الاعتماد على الأطواق المكلفة، وجمع الفريق آلاف اللقطات عبر كاميرا واحدة ثُبتت على طائرة الدرون، لتدريب النموذج على أنماط الحركة والسلوك، وأظهرت النتائج قدرة الإبل خصوصًا الكبيرة منها على اتباع مسارات يمكن التنبؤ بها أثناء الرعي، لتعود إلى مربّيها قبل الغروب بمتن بيولوجي دقيق، ولأن الإبل تستشعر الصوت بقوة، حافظ الفريق على ارتفاع 120 مترًا أثناء الرصد، فيما تشمل المرحلة المقبلة دراسة قطعان أكبر وأكثر تنوعًا من حيث الألوان والأحجام.
وتزداد أهمية هذه التقنيات مع معرفة أن الإبل قد تجوب نحو 50 كيلومترًا يوميًا في المناطق المفتوحة، ما يجعلها عرضة للضياع أو الاصطدام، إلى جانب تأثيرات الرعي الجائر.
ويسهم قطاع الإبل بأكثر من ملياري ريال سنويًا في الاقتصاد السعودي عبر المنتجات الغذائية والمنسوجات والسياحة والخدمات البيطرية، حيث تشير بيانات وزارة البيئة والمياه والزراعة لعام 2024م إلى أن عدد الإبل في المملكة بلغ 2,235,297 متنًا، تتصدرها الرياض بـ 656,423 متنًا، تليها الشرقية بـ 361,178، ثم مكة المكرمة بـ 281,164 متنًا، وهو ما يشكل 58.1% من الثروة الوطنية، مع تفوق واضح في أعداد الإناث التي تمثل أساس النمو والإنتاج.
وفي جانب توثيق معلومات الإبل، توثّق دارة الملك عبدالعزيز هذا الإرث عبر معارض ودراسات متنوعة، فيما أصدر مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية “معجم مصطلحات الإبل” ليحفظ الثراء اللغوي المصاحب لهذا الموروث.
وتشهد الفنون الصخرية على وجود الإبل في الجزيرة العربية منذ أكثر من 120 ألف عام، فيما امتدت رحلتها الحضارية إلى الأندلس في القرن الرابع الهجري.
وتحضر طقوس البادية القديمة مثل: “الشديد” وهي رحلة موسمية تتنقل خلالها القطعان بين السهول الدافئة والمرتفعات الرطبة كجزء من ذاكرة المكان، حيث يعتمد الرعاة على معرفة دقيقة بطبيعة الأرض وروائح أشجار السمر، والرمث، والأرطى، ومسارات السيول، ويُعد خفّ الإبل بصمة فريدة يمكن من خلالها تمييز العمر والجنس والحالة الصحية، وهو علم متوارث بين أهل البادية.
وتستحضر الذاكرة الوطنية ارتباط الإبل بمسيرة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وناقته “مصيحة” التي رافقته في توحيد البلاد، وقيمه في الإحسان إلى “الهمّل”.
ويزداد الحضور الرمزي لهذا الكائن الحي بارتباطه في التاريخ الديني بناقة صالح عليه السلام، وناقة النبي ﷺ “القصواء”.
ويتجلى حضور الإبل المعاصر عبر مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل وسباقات الهجن، ومنافسات المزاين، والطبع، والمشالع، والتطبيع، فيما تسجل بعض السلالات الأصيلة أسعارًا قياسية، مع تصنيف منظمة “الفاو” لحليب الإبل كغذاء عالمي عالي القيمة الصحية.
وقال المهتم بشأن الإبل المربي خالد العتيبي: “إن الإبل ليست مجرد ثروة حيوانية، بل إرث حيّ يحمل ذاكرة المكان والإنسان، مؤكّدًا أن المملكة اليوم تعيش نهضة غير مسبوقة في العناية بهذا القطاع، سواء عبر المهرجانات المتخصصة، أو عبر التطوير البيطري والتقني”.
وأضاف أن مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل أسهم في رفع الوعي بقيمة السلالات الأصيلة، وتعزيز الممارسات الصحيحة في التربية، ودعم اقتصاديات المنتجين، حتى أصبح المربّي يعيش حالة من الافتخار بما يقدّمه من رعاية وسلالات تسهم في صون الموروث الوطني، ورفع جودة الإنتاج.
وفي سياق التطوير الاقتصادي المرتبط بالإبل، أعلن صندوق الاستثمارات العامة مؤخرا تأسيس شركة “سواني” التي تهدف إلى تمكين نمو قطاع منتجات حليب الإبل، والإسهام في تطوير منظومة الإنتاج المحلية للوصول إلى قطاع مستدام، بما يعزز مكانة المملكة في هذا المجال الحيوي.
وتهدف الشركة إلى تحقيق الريادة في منتجات حليب الإبل، ودعم قطاع الزراعة والأغذية، وتنويع الاقتصاد المحلي، تماشيًا مع رؤية المملكة 2030، حيث تعمل “سواني” بالشراكة مع القطاع الخاص على رفع القدرة الإنتاجية لمنتجات حليب الإبل، ورفع معايير منظومة الإنتاج عبر تبني أفضل الممارسات التشغيلية الحديثة، وتوطين المعرفة وأحدث التقنيات لزيادة كفاءة الإنتاج وجودة المنتجات.
وبامتزاج الماضي بالحاضر، يبقى هذا الكائن العريق رمزًا للشموخ والصبر والهوية الوطنية، وصوتًا متجددًا يمتد من خطى القوافل القديمة إلى أجنحة الطائرات الذكية، ومن معارف البادية إلى مختبرات الذكاء الاصطناعي، ومن اقتصاد التراث إلى شركات المستقبل, في رحلة تعيد اكتشاف الإبل بلغة تجمع بين الأصالة والابتكار، وتحمل الماضي بثبات نحو المستقبل.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية مهرجان الملک عبدالعزیز للإبل حلیب الإبل
إقرأ أيضاً:
حفاوة ذاكرة….
#حفاوة_ذاكرة….
حفاوة ذاكرة….
من الدوغمائية…وتباريحها …. إلى ساح الحقيقة )…… ولكن اكثر الناس لايعلمون
الآن حصحص الحق من ربي …….
احياء موات مع فلاحة بل ارضنة……….. لماذا؟…
فيما مضى من ذاكرة
كنت كثيرا مااسمع من الدهماء وتشمل ارهاطا من الاكاديميين الذين لم يزل الكثير منهم حبوا على بساط المعرفة تركتهم امهاتهم ولم يزل عند كثير منهم( حليب اللبا)..لم يبرح الرضعة الاخيرة ما قبل فطامه وفصاله وان تجاوز عامين كاملين لمن اراد فصالا.. لم اكن استغرب إذا صدر من الطلبة ولكن الغربة في السؤال حتى وصل الامر عندما يذكر بسام هلول من لدنهم ينهضون جريا على أمشاط اصابعهم اه نعم هذا الذي عرف عنه في الأمية الاكاديمية سؤال عنونته( لماذا…؟ والجواب…لإن..يالحماقة الصبية الكبار ولم يقف الامر هذا عند شأو الذي بلغ في عقول الزملاء ومن سمع من اكاديميي( الأنصاف)..اه هذا الذي طرح على طلبه سؤالا ضميمته وجواله مستخلص( لماذا)..حتى بلغ بهم الجهل والسذاجة عند تناهي الخبر إلى أسماعهم في اصقاعهم إذا ذكر الدكتور بسام الهلول فورا تسعى بهم مالم يقف الواحد منهم( ولا تقف ماليس لك منه من علم)..وهذا على سبيل الوشاية الأمر الذي تشنأه نفر من حملة علوم الشريعة( وكثير منهم شذاذ آفاق)..لايدرون ان المئوية الان تحتفل بمرور قرن على الفيلسوف( قراءه في مئويه الفيلسوف مراد وهبه.. قرن من المقاومة الفكرية… وهاانت تراني مقابسا بين يدي مناسبة…
لم يكن ميلاد مراد وهبه قبل مئة عام مجرد حدث في سجل الزمن، بل كان ولادة عقل سيصبح لاحقا واحدا من أكثر العقول العربية تمردا على المألوف، وأشدها إصرارا على أن تسير الفلسفة في الشارع لا في الرفوف. جاء في لحظة كان فيها العقل العربي يخاف الأسئلة، فتجرأ على طرحها. وفي زمن كانت فيه الحقيقة حكرا على أصحاب السلطة، فانتزعها منهم ووضعها فوق طاولة النقاش. لم يكن فيلسوفا ينتظر أن يتغير العالم من حوله، بل كان هو من يطرق جدرانه، ويهز يقيناته، ويضيء زواياه التي أطفأها الخوف.
حين نقترب من مئوية مراد وهبة، ندرك أننا لا نحتفل بعمر رجل، بل نحتفل باستمرار صراعا بدأ منذ قرون. معركة خاضها ابن رشد ضد فقهاء زمانه، ويخوضها مراد وهبة اليوم ضد الأصوليين وجماعات الإسلام السياسي.
المشهد ذاته يتكرر عبر الزمن، لكن الأسماء وحدها هي التي تتغير.
كما نفي ابن رشد وأحرقت كتبه، تعرض مراد وهبة للفصل من الجامعة، ومنع من التدريس عامين كاملين، لأن العقل الحر في عالم يخشى التفكيرجريمة لا تغتفر.
وكما رد ابن رشد على تهافت الفلاسفة بكتابه العظيم تهافت التهافت، سخر مراد وهبة من الذين يحتكرون اليقين وسماهم «ملاك الحقيقة المطلقة»؛ووهو اسم إحدى مؤلفاته الهامه..ذلك اللقب الذي يكشف جوهر المعركة: حرب بين من يرى الحقيقة أفقا واسعا مفتوحا، وبين من يختزلها في رأي واحد جامد لا يتغير
مئة عام مرت على ميلاد الفيلسوف الذي ظل يحاول ان يوقظ فينا شهوة التفكير، ويعيد للعقل مكانته المفقودة في حضارتنا المنهكه
لم يكن مجرد استاذ فلسفة، بل مشروع نهضوي كامل يمشي على قدمين، يسعى الى ان يعيد للعرب ما فقدوه منذ قرون: القدرة على التفكير الحر.
مراد وهبه هو ذلك الصوت الحاد الذي اصطدم مرارا بجدران الجمود، ولم يمل، ولم يهادن. امن بان التنوير ليس رفاهية، وبان العقلانية ليست خيارا تجميليا، بل شرط الوجود الانساني ذاته. وفي لحظة كان فيها العقل العربي محاصرا بين التطرف والانكفاء، خرج وهبه ليقول عبارته الشهيرة: لا نهضة بلا عقل، ولا عقل بلا حرية، ولا حرية بلا فصل بين الدين والسياسة.
كان يرى ان معركتنا الكبرى ليست مع الواقع، بل مع طريقة التفكير التي تصنع هذا الواقع. لذلك دعا الى نزع القداسة عن الافكار، والى اخضاع كل شيء دون استثناء لمبدأ الشك. فالحقيقة عنده ليست ميراثا جاهزا، بل رحلة في المجهول، وان التفكير هو الفعل الاخلاقي الاول.
ولم يكن التنوير عنده مجرد تنظير اكاديمي؛ فقد حاول ان يمنحه جسدا ومؤسسة، فاسس مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، بوصفها مساحة تجتمع فيها العقول التي تؤمن بان الحضارة لا تبنى باليقين المغلق، بل بالنقاش المفتوح. كانت المؤسسة امتدادا طبيعيا لفكر الرجل، ومنصة تعاون فيها مفكرون واكاديميون واعلاميون بهدف احياء سؤال التقدم في عالم عربي انهكته الازمات.
لقد امن وهبه بان تحرير العقل هو الخطوة الاولى نحو تحرير المجتمع، وبان ابن رشد ليس مجرد رمز تاريخي، بل وصفة انقاذ: ان نعود الى جذوة العقل التي اطفئت يوم احرقت كتبه، وان نعيد وصل ما انقطع بين الفلسفة والحياة، بين الايمان والحرية، بين الانسان وقدرته على التفكير.
ومن هنا كان إصراره على استعادة ابن رشد؛ ليس بوصفه صفحة من التاريخ، بل بوصفه قوة فكرية حية، ما زالت قادرة على خوض المعركة إلى جانبنا.
فمعركتنا اليوم كما يرى وهبة ليست إلا امتدادا لمعركة ابن رشد: مقاومة الجمود، والانتصار للعقل، والدفاع عن حق الإنسان في التأويل.
والتأويل عند مراد وهبة ليس لعبة لغوية، بل مبدأ وجودي:
إنه الامتناع عن التكفير، لأنه يفتح الباب للتعدد، ولإمكان أن يكون للعقل أكثر من بديل وأكثر من طريق.
العقل الذي يكتفي ببديل واحد يسقط في الدوغمائية، يتوهم أنه يملك الحقيقة المطلقة، وحين يقع في هذا الوهم يتوقف التطور، ويُغلق المستقبل أبوابه.
التأويل كما يفهمه مراد وهبه هو رحابة، تسامح، واعتراف بأن الحقيقة لا تنزل على عقل واحد، ولا تختصر في رأي واحد، ولا يمكن أن تختذل في نصٍ مغلق.
وهكذا تصبح الرشدية المعاصرة دعوة إلى التحرر، وإلى أن نعيد للعقل قدرته على تنويع البدائل، وعلى مواجهة العالم بلا خوف.
وها نحن اليوم، في ذكرى ميلاده المئوية، نقف امام ارثه لا لنجله فقط، بل لنسال انفسنا:
هل نستطيع ان نحمل المشعل من بعده؟
هل ما زال لدينا الشجاعة لطرح الاسئلة التي كان يطرحها؟
ام اننا ما زلنا ندور في الدائرة نفسها التي حاربها طوال حياته؟
في النهايه. يظل مراد وهبة واحدا من القلائل الذين حملوا مشعل التنوير دون أن ترتعش أيديهم.
مائة عام قضاها وهو يقف في الصفوف الأولى للمعركة من أجل أن يبقى العقل حيا، وأن تبقى الفلسفة في قلب الحياة، لا في أطرافها.
سلام على هذا الرجل الذي أعاد للرشدية أنفاسها، وللعقل العربي حقه في السؤال، وللفكر مساحته التي يستحقها.
ان حديثي اليوم عن الفيلسوف الكبير مراد وهبه ليس استدعاء لماض بعيد، بل محاولة لاستعادة بوصلة فقدت.
فهذا الرجل لم يكتب ليصفق له احد… بل كتب ليحررنا من الخوف، وينتزع من اذهاننا وهم المسلمات، ويذكرنا دائما بان الحضارة تولد حين يجرؤ الانسان على ان يقول: لماذا؟
في مئويته…
نقول له: شكرا لانك ظللت واقفا في وجه الريح.
شكرا لانك كنت ضوءا حين كان الظلام سيد الموقف.
في مئويته، لا نحتفي برجل تجاوز العمر، بل بفيلسوف تجاوز زمنه. لا نحتفل بمن عاش مئة عام، بل بمن منح هذه الاعوام معناها.
لقد ترك مراد وهبه لنا ما هو ابقى من السيرة وما هو اكبر من الاعمال: ترك لنا سؤالا مفتوحا لا يموت، وسعيا لا يتوقف، وجرأة لا تنكسر امام سلطان او خطاب او جماعة.
وحتى لو غاب جسدا سيظل الفيلسوف مراد وهبة حيا في وعينا لا بذكراه، بل بما ايقظه فينا من شغف لا ينطفئ نحو النور….واحمده تعالى ان جاءت المناسبة نعيا على مرور وفاة( وهبة)..في حين قطعت مع طلبتي ( ولكن اكثر الناس لايعقلون).. لايسؤوك ان تأتيك المرارة من العوام فهذا ديدن الجاهلية حتى مع أنبيائها …حتى وصل الأمر بنبي الله( لاتخزوني في ضيفي)…لكن شذوذ الفطرة اقلهم بعيدا عن رشدها فإذا هم مبلسون)…نعم فإذا بهم مبلسون ….وقد تركتهم وبقية من أنسالهم لم يرعووا …فلا تخزوني في ضيفي….. نعم وان استجديتها ان ينبري منهم( رجل لم يفته رشده)..ولكن هيهات….عملا بوصفة الدهر النطاسي الامهر( اليس فيكم من رشد)..لأتعمى الابصار وانما البصيرة في القلوب …لعمري ايها الجاهل بل الساذج وان كنت من حملة اللحى وتأبطت كرتونة دكتوراة في علوم الاسلام لو سئلت فيمن تبدأ ؟ لقلت لك بمن يحمل اسفارا لايدريها وغالبهم ممن شاع نعيهم فينا وخاصة ممن حملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا…