محمد بن رامس الرواس
إنَّ رعاية الموهوبين وأصحاب الابتكارات من أجمل أشكال الإبداع الإنساني لرقي الأمم خاصة عندما يتم الاعتناء بهم منذ نعومة أظفارهم وهم بلا شك من ثوابت نجاح الدول والحضارات، ولقد حرصت رؤية "عُمان 2040" على أن تكون المواهب والابتكارات في مقدمة اهتماماتها؛ لأنَّ المواهب والابتكار توأمٌ ضروري لقياس مؤشرات نتائج المستقبل واستشرافه مبكرًا.
لقد سعدنا خلال الأسبوع الماضي بمناسبتين؛ الأولى "مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة" والذي ركّز على التوجهات المعاصرة في تربية النشء واليافعين من الموهوبين والمجيدين لدعم وتمكين واستمرارية إبداعات الناشئة من بحوث علمية وغيرها ليكونوا روادا للمستقبل؛ حيث تنسجم مثل هذه المؤتمرات والملتقيات مع الرؤية المستقبلية للسلطنة لاستشراف الغد والكشف عن الطلبة الموهوبين والمبدعين والمجيدين لأنهم دعامة الوطن.
أما المناسبة الثانية فكانت "جائزة الإبداع الأدبي لطلبة المدارس"؛ وهي ثمرة تعاون بين وزارة التربية والتعليم والجمعية العُمانية للكُتَّاب والأدباء، ولقد أفرزت هذه المسابقة التي التحق بها فئة الناشئة واليافعين من طلبة المدارس إنتاج كتابات ومواهب أدبية مميزة أولًا على مستوى المحافظات ومن ثم على مستوى السلطنة فاحتفل بهم وتم تكريمهم بمقر جمعية الكتّاب والأدباء بمسقط والثناء على إبداعاتهم ومواهبهم مما يضع أبناءنا على الطريق الصحيح نحو الإبداع والتميز.
اليوم في ظل التكنولوجيا وعصر المعرفة يمكن تحقيق ريادة متميزة لجيل الطلبة والشباب من خلال المخزون الهائل من المعلومات المتاح أمامهم من ثروات معرفية تعزز قدراتهم في شتى المجالات وعلى رأسها قطاع التعليم والتطوير، وهذا الأمر بلا شك يخدم بالدرجة الأولى قدرة الدول على التنافس في مجالات العلم والأدب والثقافة والابتكار. ومثل هذه الملتقيات والاحتفالات التكريم تُعد منابر إفساح للطاقات والمهارات للتنافس من أجل مجالات الابتكار والكشف عن مواهب الطلبة والشباب، وتدفع بالمؤسسات التعليمية نحو التطوير المستمر وتشجع الطلبة وتنشر ثقافة الإبداع بالسلطنة وتغرس بحفاوة حقيقية بالمجتمع بذور التنافس للمبدعين وتكشف عن الموهوبين من مختلف طلبة المدارس والفئات العمرية وعن قدراتهم الإبداعية، وتصنع لهم بيئة محفزة تتبنى اختيار الأفضل وكشف اللثام عن المواهب مبكرًا لكي يلتحقوا بركب تطلعات رؤية بلدهم.
ختامًا.. إن رؤية "عُمان 2040" بخططها واستراتيجيتها تنطلق نحو قطاعاتها الأساسية وعلى رأسها التعليم والابتكار من أجل الوصول إلى المكانة المرموقة التي تسعى لها عبر تحقيقها لأهداف مستقبلية تتطلبها المرحلة القادمة المستندة على الموهوبين ومهاراتهم وابتكاراتهم، والمهمة مناطة بمؤسسات الدولة لتحرص كل الحرص على احتواء الموهوبين لأنهم الإضافات النوعية المطلوبة لتطوير كفاءات المستقبل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقيادية، واكتشاف واجتذاب أفضل هذه المواهب والمهارات خاصة الأدبية والتقنية منهم.. فلتكن هناك ديمومة لوضع برامج ومؤتمرات وملتقيات بالموهوبين والمبتكرين والمجيدين والاحتفاء المستمر؛ لأنها حاضنات حقيقية لهم.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الدين المعرفي.. هل يتحول الذكاء الاصطناعي إلى عكاز يعيق الإبداع الفردي؟
أصبحت نماذج اللغة الضخمة مثل "شات جي بي تي" مساعدا فوريا للطلاب والكتاب والمبدعين، فبضغطة زر تتشكل المقالات وتصاغ الإجابات وتختصر ساعات من البحث والجهد. لكن، بينما نعجب بهذه السهولة التي تخفف الجهد والعبء المعرفي لحدوده الدنيا، تدق دراسات علمية حديثة ناقوس الخطر حول ثمن خفي قد ندفعه على الأمد الطويل، وهو ما يعرف بـ "الدين المعرفي".
تماما كما يتراكم "الدين التقني" في عالم البرمجة حين يتم اختيار حلول سهلة ومؤقتة، يتراكم "الدين المعرفي" في عقولنا عندما نعتمد على إجابات الذكاء الاصطناعي الجاهزة دون خوض رحلة التفكير والتحليل. يبدو الأمر مريحا في الحاضر، لكنه قد يخلف فجوة في مهاراتنا وقدراتنا المعرفية في المستقبل. فهل يتحول هذا المساعد الذكي، مع فرط الاعتماد عليه، إلى "عكاز معرفي" يضعف من قدرتنا على المشي فكريا بمفردنا؟
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الإسلاموفوبيا القاتلة.. كيف دفع خطاب اليمين المتطرف نحو سفك دماء المسلمين في أوروبا؟list 2 of 2محمد حليقاوي: الاستشراق الغربي والصهيوني اندمجا لإلغاء الهوية الفلسطينية عبر الكراهية والإقصاءend of listللإجابة على هذا السؤال المقلق، سعت دراسة علمية لباحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأميركي، لاستكشاف التكلفة المعرفية الحقيقية لاستخدام نماذج اللغة الكبيرة في مهمة تعليمية أساسية هي كتابة المقالات.
صمم فريق من الباحثين تجربة دقيقة امتدت 4 أشهر، بمشاركة 54 متطوعا، بهدف قياس أثر هذه التقنية على الدماغ والأداء. تم تقسيم المشاركين منذ البداية إلى 3 مجموعات رئيسية، خاضت كل منها تجربة كتابة مختلفة.
وهذه المجموعات الثلاث هي: مجموعة الذكاء الاصطناعي (إل إل إم) التي استخدم أفرادها نموذج شات جي بي تي للمساعدة في كتابة مقالاتهم، ومجموعة البحث الإلكتروني واعتمد أفرادها على محركات البحث التقليدية لجمع المعلومات، دون مساعدة مباشرة في الصياغة، وأخيرا مجموعة "الدماغ فقط" التي كتب أفرادها مقالاتهم بالاعتماد الكلي على معارفهم وجهدهم الذهني، دون أي أداة مساعدة خارجية.
ولرصد التأثيرات الطويلة الأمد، استمر كل مشارك ضمن مجموعته 3 جلسات متتالية. أما الجلسة الرابعة، فقد حملت تغييرا مفاجئا وحاسما، حيث طلب من مجموعة الذكاء الاصطناعي التخلي عن مساعدهم الذكي والكتابة بعقولهم فقط، بينما منحت مجموعة "الدماغ فقط" فرصة استخدام شات جي بي تي لأول مرة. كان الهدف من هذا التبديل هو اختبار ما إذا كانت آثار الاعتماد على الذكاء الاصطناعي مؤقتة أم أنها تترك بصمة دائمة.
إعلاناعتمدت الدراسة على منهجية شاملة، حيث تم قياس النشاط العصبي للمشاركين باستخدام تقنية تخطيط أمواج الدماغ (إي إي جيه) لرصد الانخراط الذهني، كما تم تحليل جودة النصوص بمساعدة معلمين وبنماذج تقييم آلية، بالإضافة إلى إجراء مقابلات شخصية مع المشاركين بعد كل جلسة لفهم تجربتهم الذاتية وشعورهم بملكية العمل.
عقل أقل اجتهادا ومحتوى أقل إبداعاجاءت نتائج الدراسة لتكشف عن فروقات واضحة ومثيرة للقلق بين المجموعات الثلاث، وتؤكد وجود مقايضة حقيقية بين راحة الاستخدام الفوري وتكلفة التعلم الطويلة الأمد.
أظهرت بيانات تخطيط الدماغ أن مجموعة "الدماغ فقط" سجلت أقوى وأوسع ترابطات عصبية، مما يشير إلى انخراط ذهني مكثف وعميق في عملية الكتابة. في المقابل، كانت مجموعة الذكاء الاصطناعي هي الأضعف نشاطا على الإطلاق. بعبارة أخرى، كلما زاد الدعم الخارجي قل اجتهاد العقل، فالاعتماد على شات جي بي تي ولّد أضعف تفاعل دماغي، مما يعني "عقل أقل اجتهادا مع المساعدة الخارجية".
وخلال المقابلات، أفاد المشاركون الذين استخدموا شات جي بي تي بأن شعورهم بملكية ما كتبوه كان ضعيفا، وكأن النص ليس نتاج أفكارهم الحقيقية. وقد انعكس ذلك على قدرتهم على التذكر، حيث واجه الكثير منهم صعوبة في استرجاع أو اقتباس أجزاء من مقالات صاغوها قبل دقائق معدودة. في المقابل، شعر أفراد مجموعة الكتابة الذاتية بملكية وفخر أعلى تجاه نصوصهم، وتذكروا تفاصيلها بشكل أفضل، وهو ما يعني -وفق الدراسة- تجربة "تذكر باهت وملكية منقوصة" لمن استخدموا نماذج الذكاء الصناعي.
وكذلك لاحظ الباحثون أن مقالات مجموعة الذكاء الاصطناعي كانت متشابهة إلى حد كبير في الأسلوب والأفكار، مما يشير إلى أن استخدام الأداة نفسها يولد نتاجا نمطيا ويقضي على التنوع. فالنموذج اللغوي يميل إلى تقديم صياغات موحدة للمستخدمين، مما يقلل من مساحة الإبداع الفردي. على النقيض، جاءت مقالات مجموعة "الدماغ فقط" أكثر تباينا وأصالة، وعكست الصوت الفريد لكل كاتب.
ولم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد، فقد جاء الدليل الأقوى على تراكم "الدين المعرفي" عندما حرم المشاركون الذين اعتادوا على دعم شات جي بي تي منه فجأة، أظهروا نشاطا دماغيا أضعف وأداء أقل. لقد بدا كأن عقولهم، التي اعتادت على "العكاز المعرفي"، تجد صعوبة في العمل بمفردها. في المقابل، عندما أتيحت أداة الذكاء الاصطناعي لمن كتبوا بعقولهم فقط، أظهروا قدرة فائقة على الاستفادة منها دون أن يفقدوا انخراطهم الذهني، إذ ظلت أجزاء الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والتفكير النقدي نشطة.
لا تدعو الدراسة إلى إقصاء التقنية، بل إلى استخدام حكيم ومدروس. بناء على هذه النتائج، يقدم الباحثون رؤى مهمة لصناع القرار في التعليم والثقافة، أولها هو مبدأ "التعلم أولا، المساعدة ثانيا"، أي يجب أن يظل التعلم النشط هو العمود الفقري، خاصة في المراحل الأساسية. ينبغي تمكين الطلاب من بناء مهاراتهم ذاتيا قبل تقديم الأدوات المساعدة، لتكون التقنية معززة للتعلم لا بديلة عنه.
إعلانوأيضا أوصت الدراسة أن تكون أدوات الذكاء الصناعي تحفز التفكير لا تستبدله، وقالت الدراسة إنه على المطورين تصميم أدوات ذكاء اصطناعي تطرح أسئلة إرشادية وتلميحات، بدلا من تقديم حلول جاهزة، للحفاظ على تفاعل المستخدم الذهني.
وطلبت الدراسة الحفاظ على التنوع الثقافي، وحثت المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي أن تضع آليات مراجعة بشرية لضمان عدم إنتاج محتوى نمطي وموحد، وللحفاظ على ثراء وتعددية الأصوات.
ودعت كذلك إلى توعية المستخدمين، فهناك حاجة ملحة لرفع وعي المستخدمين بمخاطر الاعتماد الكلي، وتشجيعهم على التحقق من المعلومات وإعادة صياغة المخرجات بلغتهم الخاصة لضمان حدوث تعلم حقيقي.
وأكدت الدراسة الرائدة أننا أمام عصر يتطلب موازنة ذكية بين الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي الهائلة وحماية وتنمية ملكات العقل البشري التي لا غنى عنها، فالرسالة واضحة يمكننا تسخير التقنية لتعظيم إمكاناتنا، ولكن فقط إذا حرصنا على ألا نفقد في خضم ذلك ما يجعلنا مبدعين ومفكرين مستقلين.