لجريدة عمان:
2025-05-14@14:45:09 GMT

بين ضفتين: لورينزو سيلفا... كرب البلشفي

تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT

على الرغم من مرور ما يقارب الثلاثة عقود على تحول كلمة «البلشفي» (نسبة إلى البلشفية، المذهب الذي تبنّاه أنصار الجماعية الماركسية في روسيا 1917) إلى مجرد كلمة مُعجمية بحتة، بمعنى أنها أصبحت تشكل جزءا من تاريخ محدد، ولم تعد قيد التداول الراهن، إلا أنها عادت مؤخرا، لتشكل جزءا من عنوان أدبي، ولنقل لتشكل «شخصية روائية».

هذا ما قام به الكاتب الإسباني لورينزو سيلفا في كتابه «حزن البلشفي» (وفق الترجمة الفرنسية، (منشورات «جان كلود لاتيس»)، بينما العنوان الأصلي الإسباني هو «La flaqueza del bolchevique» أي «ضعف البلشفي».

في أي حال، ثمة سؤال يُطرح بداهة: هل يشكل البلشفي حقا بطل الكتاب؟

ربما كان أول بلشفي يعمل موظفا في أحد المصارف. أما بالنسبة إلى اليأس الذي يسكنه، فنجد أنه يُقرّبه أكثر فأكثر من شخصيات الكاتب الأمريكي إيستون إيلليس أكثر ممّا يقربه من شخصيات الروائي الفرنسي إميل زولا على سبيل المثال، لأننا نقع على هذا البؤس السيكولوجي أكثر ممّا نقع على أي يأس آخر. لذلك يُشكل الحزن البلشفي، بالنسبة إلى الراوي، نوعا من «مرض» محدد. وهذا العذاب، يحيلنا إلى إغواء الجمال المخزي، إلى البراءة. فمنذ فترة طويلة، كانت هذه المحاولة كامنة عند الراوي، إلا أنها عبر هذه الفرصة السانحة، التي جاءت عن طريق الصُدفة، تمظهرت بمختلف أوجهها.

مع بداية أحد الأسابيع «السوداوية»، في مدينة مدريد، عند الساعة الثامنة صباحا، يقع هذا «البطل المضاد» في زحمة سير خانقة، وفي لحظة من عدم الانتباه، يصطدم غفلة، وبشكل خفيف، بالجزء الخلفي من سيارة مكشوفة كانت تقودها إحدى السيدات. جاءت المعاينة الصاخبة، لتدخله في بحر من الاضطراب، فالسائقة «الهيستيرية» أهانته وشتمته، ليغادر بعدها المكان وهو يشعر بالذل، لدرجة أنه يقرر الانتقام. ليلعب القدر لاحقا دوره في معرفة عنوان هذه المرأة، كما رقم هاتفها، لتتخذ حياته من بعد ذلك منعطفا غير متوقع.

جعلته رغبته في الانتقام يقوم بدور التحري ليكتشف أن لها أختا شابة، اسمها روزانا، تبلغ من العمر خمسة عشر عاما، وهي لا تزال على مقاعد الدراسة الثانوية. كانت شابة جميلة، بل أكثر من رائعة وتثير مئات الرغبات، كما تثير فيه «حشدا من العواطف المتناقضة». فيقع في حبها وغرامها بجنون. هل نحن أمام شخصية جديدة من لوليتا؟ من الواضح أنه لا يسعنا إلا أن نفكر في الكاتب الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف وفي روايته «لوليتا». إذ إن قصة هذه الفتاة «الملهمة» تتأرجح حتى النهاية ما بين الكوميديا ​​والمأساة، السخرية والغنائية، الخفة والثقل، السعادة والألم وتقترن بنظرة، بدون تنازلات، على العالم من حولنا.

عند هذه النقطة يتركنا الراوي في حيرة، إذ لا نعرف ما الموقف الذي سيتخذه: هل سيشكل هذا اللقاء، المناسبة التي طالما تمناها وحلم بها كي يحقق انتقامه الذي وعد نفسه به مرارا؟ هل ستكون هذه اللحظة هي المفتاح، حيث ستجد فيه، هذه المرارة المتراكمة عبر السنين الطويلة، أخيرا، الوسيلة للإفلات من معاقلها كي تروي غليلها؟ (مرارة العمل والعلاقات الإنسانية تجاه النساء)، أم ستكون على العكس من ذلك كله، أي ستشكل لحظة خلاص؟

كلّ أهمية الرواية تكمن في هذه الموضوعة المتفردة التي تتشكل منها رواية «حزن البلشفي»، كما في هذا العلاج، الساذج قليلا، لهذا «المرض» الذي يقترحه علينا سيلفا. بيد أن هذا الأخير يمتاز بخاصية خيار التشويق كما بِحَبكِ سطوح الحكاية ببعضها البعض، ما يجعله يربط الأحداث المتداخلة والمتشابكة بشكل حيوي، مضحيا في الوقت عينه، بهذه المحاولة التي تشبه «التصوير الشعاعي» المتدرج لروح بطله مقابل صيغة الجملة التي تلعب الدور الأكبر في التغلغل داخل هذا السر، والكشف عنه.

من هذه النقطة، يقترب الكاتب الإسباني من زميله الروائي الأمريكي كما من الكاتبة جويس كارول واتس، أيّ يندرج ضمن فئة هؤلاء الكتّاب الذين أطلق عليهم اسم «رسامي الدناءة». فلكي يقدم «بطلا محتقرا»، لجأ إلى تشكيل حافز للرواية كي تحفر لها مكانتها؛ لذا يميل سيلفا إلى كتابة هذه «الدناءة» بدقة متناهية، أو لنقل بــ«مينيمالية» تجعلنا حقا، نفهم شيئا حول هذا «المرض» الذي يطرحه الكاتب.

السؤال الآخر الذي نجده أمامنا: من أين جاءت صفة البلشفي لِتَسِمَ هذا المصرفي؟

على الرغم من أنه ليس من هواة الــ«لوليتا»، إلا أنه يحتفظ بصورة لبنات القيصر نيقولاوس الثاني في منزله. كان يشعر بانجذاب خاص إلى الدوقة الكبرى أولغا، وغالبًا ما يتساءل عمّا شعر به البلشفي الذي كُلّف بقتلها. من هنا، يأتي عنوان الرواية من افتتان بطل الرواية ببنات آخر قياصرة روسيا. كان يقارن حزنه الذي تسببه له هذه الفتاة، روزانا، بحزن ذاك «الموجيك» وهو أمام الدوقة الكبرى التي كانت تستعد للزواج والتي أطلق عليها النار في يكاترينبورغ عام 1918. إلا أن الراوي، وفي مواجهة ذكاء روزانا الشديد، وجاذبيتها القوية، بدا ضعيفًا وقد أثبت أنه أسوأ مائة مرة من أي حادث سيارة.

هكذا من العنوان، يعطينا الكاتب النغمة، نغمة السرد المكرر الذي تلعب فيه الشخصية الذكورية بسهولة على المراجع التاريخية والأدبية والموسيقية. تتحول الفتاة الملهمة إلى مأساة، والصفحات الأخيرة المؤثرة تعطي معنى لمقاربة الرجل المنهك الساخر: لقد خسر كل شيء، ولم يندم على شيء.

يمكن أن تكون رواية «حزن البلشفي» رواية كوميدية بدون الطابع الدرامي الذي تكتسبه عندما تصبح مخططات الراوي أكثر تعقيدا. لكن ربما تكمن قوة المؤلف في صورة روزانا، وهي حورية لا مثيل لها من شأنها أن تزعج القراء الأكثر لا مبالاة. فبكل انفصال وروح دعابة وحنان يروي لنا بطل الرواية قصة هذا الحب المجنون الذي سينتهي به الأمر إلى الانفجار مثل القنبلة. لأن هذا الكتاب هو قصة كابوس أيضا: فروزانا، الفتاة الصغيرة، ستموت بغباء في كمين نصبه مدمنون وحشاشون ليلقى اللوم على بطل الرواية في كل شيء.

كأننا أمام كتابين في «حزن البلشفي»؛ القسم الأول منه، مضحك وساخر على الرغم من أنه مبتذل إلى حدّ ما، أما القسم الثاني، فينتهي نهاية درامية.

ثمة روايات نفتحها صُدفة، ولا نستطيع أن نغلقها قبل أن نقرأها بالكامل، «حزن البلشفي» هي إحداها. لكن علينا أن نؤكد: من يبحث عن كتاب مسلّ، تبدو شخصيته الرئيسة، بطلا «مكشوف البصيرة» ومليئا بالتشويق، من دون شك سيجد متعة في القراءة. أما الباحث عن «أدب» فعلي، عميق، فمن الأفضل له أن يدعها تمرّ من أمامه. إذ لا بدّ أن يصيبه «كرب القراءة».

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلا أن

إقرأ أيضاً:

سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب

 

 

د. أحمد بن علي العمري

 

سلطنة عُمان… بلد الأمن والأمان والسلام والإسلام والاعتدال والحياد والأعراف والعادات والتقاليد وحسن التعامل والتسامح، حيث إن الأعراف والتقاليد لدى العُماني أقوى من أي قانون؛ الأمر الذي جعلها محل ثقة وتقدير واحترام العالم أجمع دون استثناء.
ومع ذلك؛ فالرأي مفتوح للجميع، وسقف الحرية مرتفع بحكم القانون العُماني. ولقد لفت انتباهي الانطباع الذي خرج به المشاركون في معرض مسقط الدولي للكتاب من زوار ومؤلفين وناشرين؛ حيث عبّروا عن الحرية التي وجدوها؛ فهناك الكثير من الكتب التي يُمنع نشرها في العديد من الدول وجدت حريتها في عُمان تنتظرها، وأكدوا أن في عُمان مجالًا رحبًا للرأي والرأي الآخر، وأفقًا للرأي الواسع، كما أشاروا إلى حفظ الحقوق واحترام وتقدير الآخرين.
لقد وجدوا التطبيق الفعلي لعدم مصادرة الفكر؛ بل حمايته وتهيئة الجو المناسب له، فقد قالها السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه -: "إننا لا نصادر الفكر.. أبدًا"، وأتت النهضة المتجددة لتؤكد على استمرارها ونموها وتوسعها؛ فأضحت عُمان بلا منازع محل تقدير ومركز تسامح وموقعًا لثقة الجميع.
المعروف أن الودق هو المطر الذي يُنهي الجفاف ويحيي الأرض، وفي السياق الأدبي أو الثقافي يُستخدم كرمز للخير والسلام، وعندما نقول إنه يطفئ الحروب، فهو تعبير مجازي عن دور عُمان التاريخيّ في إخماد النزاعات بالحكمة والدبلوماسية، كما فعلت عبر تاريخها في الوساطة بين الأطراف المتنازعة.
إن سلطنة عُمان معروفة بسياسة الاعتدال والحوار؛ سواء كان ذلك في محيطها الخليجي أو العربي أو على المستوى الدولي، مما جعلها صانعة للسلام بامتياز. وهكذا فإن الودق العُماني ليس مجرد مطر مادي، وإنما هو إشارة للغيث الأخلاقي في البوتقة السياسية الذي تقدمه عُمان لتهدئة الصراعات ومسبباتها ووأد الفتنة في مهدها.
لقد وقفت السلطنة كعادتها الدائمة والثابتة والراسخة على الحياد؛ فلم تقطع العلاقات مع جمهورية مصر العربية إبان اتفاقية كامب ديفيد، وكذلك الحياد في اتفاقيات مدريد وأوسلو ووادي عربة، وبقيت محايدة في الحرب العراقية الإيرانية، ولم تتدخل في الحروب التي تستعر هنا وهناك من حينٍ لآخر؛ فلم تتدخل في حرب ليبيا، ولا الصومال، ولا اليمن، ولا السودان؛ بل أغلقت أجواءها أمام الاستخدام العسكري لأي من الطرفين المتنازعين.
وقد كانت الوسيط لإطلاق عدد كبير من المحتجزين للعديد من الدول، كما إنها كانت وسيط الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، وحاليًا تقوم بالوساطة ذاتها بين أمريكا وإيران للوصول إلى اتفاقية ثابتة وملزمة ومحكمة.
ومؤخرًا تدخلت السلطنة لإطفاء الحرب الملتهبة بين أمريكا واليمن، والتوصل للاتفاق على وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهي حرب بالغة في التعقيد، لكن الدبلوماسية العُمانية المعهودة كان لها التأثير السلس الذي يتواصل مع الفرقاء برقة النسيم، وعذوبة الودق، وشذى الياسمين.
كل ذلك بهدوء ودون صخب إعلامي أو ضجيج القنوات الفضائية أو جعجعة الحناجر، كعادتها عُمان تبتعد عن المنّ والأذى.
إن الطائر الميمون الذي يقلّ المقام السامي لحضرة مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - بين العديد من عواصم العالم بين الحين والآخر، إنما يحمل على جناحيه غصن الزيتون ومرتكزاته وأهدافه، هو نشر السلام والتسامح؛ فعُمان تلتقي ولا تودع، وتجمع ولا تفرّق، وتلمّ ولا تشتّت، وتمُدّ يد السلام والوئام والتسامح والأُلفة للجميع.
حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)
  • ألفونس دوديه.. الراوي الحزين لحياة البسطاء ما قصته؟
  • وزير الثقافة يزور الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم بعد خضوعه لجراحة أمس ويطمئن محبيه على حالته الصحية
  • بعد جراحة دقيقة.. وزير الثقافة يزور الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم
  • الكاتب والشاعر السوري بشير البكر  يوقّع “بلاد لا تشبه الأحلام” في معرض الدوحة للكتاب
  • وزير الثقافة: يصعب التدخل جراحيا لعلاج الكاتب صنع الله إبراهيم
  • خطوة تقرب سيلفا من قيادة الهلال
  • بدء حفل تأبين الكاتب الراحل عادل درة بنقابة الصحفيين
  • سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب
  • " ناصر" الذي لَمْ يَمُتْ.. !! (٢-٢)