لجريدة عمان:
2025-06-23@05:22:25 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

مرّ زمن طويل على هذا المشهد الذي حدث في منطقة نائية من مناطق اليونان القديمة. يومها، كانت السماء تمطر بغزارة. ومع ذلك، وجد عدد كبير من الغرباء، الجرأة لقطع مسافة طويلة، سيرًا على الأقدام؛ كلّ ذلك لكي يحظوا بمقابلة «الفيلسوف». كانوا يأملون في لقاء عظيم، كما في مواجهة مخيفة؛ وكيف لا؟ فالسمعة التي كان يتمتع بها هيراقليطس، على أنه الرجل «الحكيم» ولا أحد سواه، تغطي جميع أنحاء العالم اليوناني.

بيد أن خيبة أملهم، كانت كبيرة ولا توصف، حين رأوا الفيلسوف متحصنا بمطبخه، حيث تلفه نيران الموقد من أجل التدفئة. هذا ما رواه أرسطو عنه، ومن ثم ديكارت من بعده. جاءت خيبة الأمل، بالطبع، من المكان الذي استقبلوا فيه، إذ كان غاية في التواضع، وهو يتناقض كليّا، مع صورة الفيلسوف، بكون الفلسفة، ليست سوى ممارسة نبيلة للروح.

يمكن أن تجعلك هذه السمعة التي اكتسبتها الفلسفة تبتسم، عند قراءة هذه الحكاية التي وصلت إلينا من أعماق العصور القديمة. لكن معناها لم يفقد أهميته وراهنيته. في واقع الأمر، في مواجهة خيبة أمل ضيوفه، الذين أتوا من بعيد، أخبرهم هيراقليطس، لتهدئتهم، أن « الآلهة موجودة هنا أيضًا»، أي حتى في هذا المكان التافه المخصص لاحتياجات الجسم (الطعام والدفء)، الذي لا يليق بالفيلسوف.

لم يكن ما قاله هيراقليطس مجرد تنازل بسيط، أو استراحة، في نشاط الفيلسوف، بل هي لحظة تملك حقًا بُعدًا فلسفيا كاملا. لننتبه إلى كلمة «أيضًا» التي تفوه بها: الآلهة ليست في المطبخ فقط، بالطبع، ولكنها موجودة هناك أيضًا. في مفرداتنا المعاصرة، يمكننا من دون صعوبة كبيرة تبديل كلمة «آلهة» بعبارة «مجال يستحق الاهتمام بالفلسفة».

بمعنى ما، منذ الأُسس الأولى لهذه الممارسة التي نسميها الفلسفة، كان العادي موجودًا وحاضرا. يجب على الفيلسوف أن يكون متيقظا إلى ما يحيط به، وما يحيط به يشكل حياته اليومية. نحن بعيدون كل البعد عن صورة الرجل الحكيم الذي لا يحلم إلا بأنقى المفاهيم، بالثابت في سماء طاهرة. بل على العكس من ذلك، لا شيء يبدو أكثر انسجاما مع مهمة الفلسفة من الاهتمام بالعالم الحقيقي، الذي في متناول اليد، والذي يشكل طريقتنا في الوجود في العالم كما في وجودنا مع الآخرين. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نزعم أن ظهور الهواتف المحمولة، التي أصبحت، من خلال الرقائق وشكل «سمارت فون» المصغر – أي الهواتف الذكية – تشكل شيئا شائعا إلى حدّ رهيب، لذلك هو، بهذا المعنى، يستحق الاهتمام الفلسفي.

فكما لاحظ هيغل -ولم يكن مخطئا في ذلك- «إن الفلسفة هي ابنة عصرها»، لذا علينا أن نعترف أن الفلسفة اتخذت المنعطف الرقمي بشكل مثالي، عندما نلاحظ تطور بوابات المعرفة، والمجلات عبر الإنترنت، والأرشيفات الإلكترونية، وحتى تطبيقات الهواتف الذكية، بما أن الغالبية منكم – ثمة يقين في ذلك – تقرأون هذه السطور، في هذه اللحظة بالذات، عبر موقع الصحيفة على الشبكة.

بهذا المعنى، يمكننا ملاحظة التقارب بين الدعم وموضوع الدراسة. فمن ناحية، لا يمكن لفلسفة المألوف أن تتجاهل استخدامًا أصبح يوميًا مثل الهاتف الخلوي. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفلسفة (والثقافة بشكل عام) استثمرت هذا الدعم. يوضح لنا هذا التطور كيف ستبقى الفلسفة ممارسة ترافقنا يوميًا.

إنه استخدام عادي بالتأكيد، ولكنه ليس تافهًا، مثلما يصور؛ لأن الهاتف الذكي مليء بمعنى الفلسفة. لا يعني ذلك أننا نريد أن نتهمها بكل الشرور، لكن من الواضح أنها من خلال مكانتها المركزية في حياتنا، تعمل كوسيط بيننا وبين المعلومات. ومن المفارقات أنه كلما أصبح الكائن المادي أرق، أصبح الكائن الرمزي أكثر كثافة، ليصبح الناقل المفضل للمعلومات؛ لأنه خفيف، جوال، قابل للتخصيص، يرافقنا في كل لحظة. من الصباح مع وظيفة المنبه، إلى المساء. إنه المفكرة أيضا، والموسيقى، والمعلومات، ورسائل البريد الإلكتروني، والعلاقات الاجتماعية... الوظائف التي تؤديها هواتفنا متعددة، وتتدخل في إيقاعاتنا واتصالاتنا وتجاربنا العاطفية.

وبالتالي، فإن هذه الأشياء التي من المفترض أن تجعل حياتنا أسهل يمكن أن تسبب لنا العُصاب أيضا، كما يتضح من التأملات حول مفهوم الــ«نو موبايل فوبيا» (no mobile phobia، لا يوجد رهاب المحمول) الذي يميل إلى الانتشار. في الواقع، يبدو أن إمكانية الوصول إليك باستمرار، والتواصل معك، وتلقي التنبيهات ورسائل البريد الإلكتروني والإشعارات تخلق الاعتماد من خلال إفراز مادة الدوبامين (كما يجد العديد من العلماء). وبهذه الطريقة، ثمة إدمان حقيقي جدًا للهواتف الذكية التي ليس لديها ما تحسد عليه من أشكال الإدمان الأخرى.

يبدو مثيرا للاهتمام أن نلاحظ هذه العلاقة المميزة التي لدينا مع هذا الشيء. لقد أصبح تقريبا امتدادا لنا. فقط تقادم التقنيات، يجعل اندماجها المباشر في جسم الإنسان أمرًا غير محتمل، الأمر الذي من شأنه أن يجعلنا «سايبورج» حقيقيين: الحلم القديم الذي يعتز به ما بعد الإنسانين.

إذا أثبتت ممارسة الفلسفة أهميتها في فهم استخدامنا العادي، فذلك أيضًا لأن العادي ليس نقطة بداية في حدّ ذاته. إنه واضح دائمًا، لأن العادي، بحكم التعريف، هو ما هو بديهي. وبالتالي فإن مهمة الفلسفة هي تفسير هذه البنية، وطريقة عملها، خارج حجاب الأدلة.

لذا فإن الأمر يتعلق بألا نترك الهاتف الذكي يعمي أنفسنا، مع المخاطرة باتباع مثال يوناني آخر، طاليس، الذي سقط في بئر بينما كان مستغرقًا في أفكاره الأكثر تجريدًا. إن الإحراج والجهل بالعالم أصبحا أسطوريين من خلال ضحك الخادم التراقي، والذي أصبح منذ ذلك الحين تجسيدًا للفطرة السليمة الواقعية التي افتتحت الفصل الأول بين الحكمة الفلسفية والفطرة السليمة العادية. لقد كافحت الفلسفة طويلا، وتراجعت إلى كرامتها الفكرية لتحمي نفسها من هذا الضحك الخبيث الذي يستمر في الجريان كلما تحدثنا عن الفلسفة، ليوصم طابع الفلسفة الاكتفائي فيما يتعلق بالعالم.

لنحذر من أن نصبح مثل طاليس، من خلال استشارة الفلسفة على هواتفنا الذكية، بينما نحن نستمر في المشي، قد نتعرض لخطر الاصطدام بالمارة والأعمدة، فيما نكون مستغرقين بشيء ما.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

ضربة إسرائيل القوية التي وحّدت إيران

أصبح الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر على إيران أحد أبرز الضربات العابرة للحدود في تاريخ المنطقة الحديث. فالعملية، التي تجاوزت كونها استهدافًا لمنصات صواريخ أو منشآت نووية، شملت اغتيالات بارزة وهجمات إلكترونية معقدة. من أبرز تطوراتها اغتيال عدد من كبار القادة الإيرانيين، بينهم اللواء محمد باقري، وفي الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس القوة الجوفضائية أمير علي حاجي زاده.

هذه الاغتيالات تشكل أقسى ضربة تتعرض لها القيادة العسكرية الإيرانية منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). ومع ذلك، فإن الهجوم يتجاوز كونه عملية عسكرية بحتة؛ فهو تجسيد لعقيدة سياسية بُنِيَت على مدى عقود.

رغم التصريحات الإسرائيلية التي تصف العملية بأنها إجراء استباقي لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، فإن المنطق الإستراتيجي العميق يبدو أكثر وضوحًا: زعزعة استقرار الجمهورية الإسلامية وصولًا إلى انهيارها.

فلطالما اعتبر بعض الإستراتيجيين الإسرائيليين والأميركيين أن الحل الوحيد لاحتواء الطموحات النووية الإيرانية يكمن في تغيير النظام. وهذه الحملة تندرج في هذا التوجه القديم، لا فقط عبر الوسائل العسكرية، بل من خلال ضغوط نفسية وسياسية واجتماعية داخل إيران.

تُظهر التطورات الأخيرة أن العملية ربما صُمِمَت لإشعال شرارة انتفاضة داخلية. فالخطة مألوفة: اغتيال القادة، حرب نفسية، حملات تضليل، واستهداف رمزي لمؤسسات الدولة.

في طهران، أفادت التقارير بأن الهجمات الإلكترونية المدعومة إسرائيليًا والغارات الدقيقة أصابت مباني حكومية ووزارات، وعطلت مؤقتًا البث التلفزيوني الوطني؛ أحد أركان البنية الإعلامية للجمهورية الإسلامية.

في المقابل، تعكس التصريحات السياسية الإسرائيلية هذا المسار. ففي لقاءات مغلقة وتصريحات صحفية محددة، أقر المسؤولون بأن المنشآت النووية الإيرانية المحصنة عميقًا- بعضها مدفون لأكثر من 500 متر تحت جبال زاغروس والبرز- لا يمكن تدميرها دون تدخل أميركي مباشر باستخدام قنابل GBU-57 الخارقة للتحصينات، التي لا تستطيع حملها سوى قاذفات B-2 أو B-52 الأميركية. وغياب هذه الإمكانات جعل القادة الإسرائيليين يقتنعون بأن وقف البرنامج النووي الإيراني لن يتحقق إلا بتغيير النظام.

إعلان

هذا السياق يمنح الأفعال العسكرية والسياسية الإسرائيلية بعدًا جديدًا. فبعد الهجمات، كثفت إسرائيل رسائلها الموجهة إلى الشعب الإيراني، ووصفت الحرس الثوري ليس كمدافع عن الوطن، بل كأداة قمع ضد الشعب.

وكانت الرسالة: "هذه ليست حرب إيران، بل حرب النظام." وقد ردد شخصيات من المعارضة الإيرانية في الخارج- كرضا بهلوي نجل شاه إيران السابق، ولاعب كرة القدم السابق علي كريمي- هذا الخطاب، مؤيدين الهجمات، وداعين إلى إسقاط النظام.

لكن يبدو أن الإستراتيجية حققت عكس ما كانت ترجوه. فعوضًا عن إشعال ثورة جماهيرية أو تفكيك الوحدة الوطنية، عززت الهجمات شعورًا عامًا بالتماسك الوطني عبر مختلف التيارات. حتى بعض المنتقدين التقليديين للنظام عبّروا عن غضبهم مما اعتبروه اعتداءً أجنبيًا على السيادة الوطنية. وتجددت في الوعي الجماعي ذكريات التدخلات الخارجية- من انقلاب 1953 بدعم الـCIA، إلى حرب العراق- مفجّرة ردة فعل دفاعية متأصلة.

حتى بين نشطاء حركة "المرأة، الحياة، الحرية"- التي أشعلت احتجاجات وطنية إثر مقتل مهسا أميني عام 2022 أثناء احتجازها- برز تردد واضح في دعم أي تدخل عسكري أجنبي. ومع انتشار صور المباني المدمرة وجثث الجنود الإيرانيين، تراجعت مطالب التغيير السياسي لصالح خطاب الدفاع عن الوطن.

وبرزت شخصيات عامة ومعارضون سابقون للجمهورية الإسلامية يدافعون عن إيران ويُدينون الهجمات الإسرائيلية. فقد صرح أسطورة كرة القدم علي دائي: "أفضل الموت على أن أكون خائنًا"، رافضًا أي تعاون مع الهجوم الأجنبي. أما القاضي السابق والمعتقل السياسي محسن برهاني فكتب: "أُقبّل أيادي جميع المدافعين عن الوطن"، في إشارة إلى الحرس الثوري وبقية القوات المسلحة.

ما بدأ كضربة عسكرية محسوبة ضد أهداف محددة، قد ينتهي بتعزيز النظام لا بإضعافه؛ عبر حشد وحدة وطنية وتكميم الأصوات المعارضة. فمحاولة صنع ثورة من الخارج قد لا تفشل فقط، بل قد تنقلب ضد من خطط لها.

وإذا كان الهدف النهائي لإسرائيل هو تحفيز انهيار النظام، فقد تكون قد قللت من شأن الصلابة التاريخية للنظام السياسي الإيراني، ومن قوة التماسك الذي يولده الألم الوطني.

وبينما تسقط القنابل ويُقتل القادة، يبدو أن النسيج الاجتماعي الإيراني لا يتفكك، بل يعيد نسج نفسه من جديد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • وظيفة جديدة للنساء في الرياض بشركة سمارت لينك براتب يبدأ من 10 آلاف ريال
  • الضّب العربي.. من الكائنات البرية التي تسهم في التوازن البيئي بمنطقة الحدود الشمالية
  • ضربة إسرائيل القوية التي وحّدت إيران
  • موعد اختبار القبول لبرنامج دكتوراه الفلسفة بجامعة الباحة
  • جامعة الباحة تُعلن موعد اختبار القبول لبرنامج الدكتوراه للعام الجامعي 1447هـ
  • مدير مؤسسة توليد الكهرباء يبحث مع ممثلي شركة UCC نتائج الجولات الميدانية التي تم تنفيذها
  • نائب جزائري يفجر جدلاً واسعاً بطلب إلغاء مادة من البرنامج الدراسي لطلبة الثانوية
  • بعد إقراره.. تعرف على المبلغ الذي سيتقاضاه الصيدلي خلال فترة التدريب الإجباري
  • الفلسفة السياسية والنظرية السياسية (1): لغة الخطاب
  • بالخريطة التفاعلية.. ما المواقع التي استهدفتها إيران في بئر السبع؟