لجريدة عمان:
2025-05-08@20:01:22 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

مرّ زمن طويل على هذا المشهد الذي حدث في منطقة نائية من مناطق اليونان القديمة. يومها، كانت السماء تمطر بغزارة. ومع ذلك، وجد عدد كبير من الغرباء، الجرأة لقطع مسافة طويلة، سيرًا على الأقدام؛ كلّ ذلك لكي يحظوا بمقابلة «الفيلسوف». كانوا يأملون في لقاء عظيم، كما في مواجهة مخيفة؛ وكيف لا؟ فالسمعة التي كان يتمتع بها هيراقليطس، على أنه الرجل «الحكيم» ولا أحد سواه، تغطي جميع أنحاء العالم اليوناني.

بيد أن خيبة أملهم، كانت كبيرة ولا توصف، حين رأوا الفيلسوف متحصنا بمطبخه، حيث تلفه نيران الموقد من أجل التدفئة. هذا ما رواه أرسطو عنه، ومن ثم ديكارت من بعده. جاءت خيبة الأمل، بالطبع، من المكان الذي استقبلوا فيه، إذ كان غاية في التواضع، وهو يتناقض كليّا، مع صورة الفيلسوف، بكون الفلسفة، ليست سوى ممارسة نبيلة للروح.

يمكن أن تجعلك هذه السمعة التي اكتسبتها الفلسفة تبتسم، عند قراءة هذه الحكاية التي وصلت إلينا من أعماق العصور القديمة. لكن معناها لم يفقد أهميته وراهنيته. في واقع الأمر، في مواجهة خيبة أمل ضيوفه، الذين أتوا من بعيد، أخبرهم هيراقليطس، لتهدئتهم، أن « الآلهة موجودة هنا أيضًا»، أي حتى في هذا المكان التافه المخصص لاحتياجات الجسم (الطعام والدفء)، الذي لا يليق بالفيلسوف.

لم يكن ما قاله هيراقليطس مجرد تنازل بسيط، أو استراحة، في نشاط الفيلسوف، بل هي لحظة تملك حقًا بُعدًا فلسفيا كاملا. لننتبه إلى كلمة «أيضًا» التي تفوه بها: الآلهة ليست في المطبخ فقط، بالطبع، ولكنها موجودة هناك أيضًا. في مفرداتنا المعاصرة، يمكننا من دون صعوبة كبيرة تبديل كلمة «آلهة» بعبارة «مجال يستحق الاهتمام بالفلسفة».

بمعنى ما، منذ الأُسس الأولى لهذه الممارسة التي نسميها الفلسفة، كان العادي موجودًا وحاضرا. يجب على الفيلسوف أن يكون متيقظا إلى ما يحيط به، وما يحيط به يشكل حياته اليومية. نحن بعيدون كل البعد عن صورة الرجل الحكيم الذي لا يحلم إلا بأنقى المفاهيم، بالثابت في سماء طاهرة. بل على العكس من ذلك، لا شيء يبدو أكثر انسجاما مع مهمة الفلسفة من الاهتمام بالعالم الحقيقي، الذي في متناول اليد، والذي يشكل طريقتنا في الوجود في العالم كما في وجودنا مع الآخرين. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نزعم أن ظهور الهواتف المحمولة، التي أصبحت، من خلال الرقائق وشكل «سمارت فون» المصغر – أي الهواتف الذكية – تشكل شيئا شائعا إلى حدّ رهيب، لذلك هو، بهذا المعنى، يستحق الاهتمام الفلسفي.

فكما لاحظ هيغل -ولم يكن مخطئا في ذلك- «إن الفلسفة هي ابنة عصرها»، لذا علينا أن نعترف أن الفلسفة اتخذت المنعطف الرقمي بشكل مثالي، عندما نلاحظ تطور بوابات المعرفة، والمجلات عبر الإنترنت، والأرشيفات الإلكترونية، وحتى تطبيقات الهواتف الذكية، بما أن الغالبية منكم – ثمة يقين في ذلك – تقرأون هذه السطور، في هذه اللحظة بالذات، عبر موقع الصحيفة على الشبكة.

بهذا المعنى، يمكننا ملاحظة التقارب بين الدعم وموضوع الدراسة. فمن ناحية، لا يمكن لفلسفة المألوف أن تتجاهل استخدامًا أصبح يوميًا مثل الهاتف الخلوي. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفلسفة (والثقافة بشكل عام) استثمرت هذا الدعم. يوضح لنا هذا التطور كيف ستبقى الفلسفة ممارسة ترافقنا يوميًا.

إنه استخدام عادي بالتأكيد، ولكنه ليس تافهًا، مثلما يصور؛ لأن الهاتف الذكي مليء بمعنى الفلسفة. لا يعني ذلك أننا نريد أن نتهمها بكل الشرور، لكن من الواضح أنها من خلال مكانتها المركزية في حياتنا، تعمل كوسيط بيننا وبين المعلومات. ومن المفارقات أنه كلما أصبح الكائن المادي أرق، أصبح الكائن الرمزي أكثر كثافة، ليصبح الناقل المفضل للمعلومات؛ لأنه خفيف، جوال، قابل للتخصيص، يرافقنا في كل لحظة. من الصباح مع وظيفة المنبه، إلى المساء. إنه المفكرة أيضا، والموسيقى، والمعلومات، ورسائل البريد الإلكتروني، والعلاقات الاجتماعية... الوظائف التي تؤديها هواتفنا متعددة، وتتدخل في إيقاعاتنا واتصالاتنا وتجاربنا العاطفية.

وبالتالي، فإن هذه الأشياء التي من المفترض أن تجعل حياتنا أسهل يمكن أن تسبب لنا العُصاب أيضا، كما يتضح من التأملات حول مفهوم الــ«نو موبايل فوبيا» (no mobile phobia، لا يوجد رهاب المحمول) الذي يميل إلى الانتشار. في الواقع، يبدو أن إمكانية الوصول إليك باستمرار، والتواصل معك، وتلقي التنبيهات ورسائل البريد الإلكتروني والإشعارات تخلق الاعتماد من خلال إفراز مادة الدوبامين (كما يجد العديد من العلماء). وبهذه الطريقة، ثمة إدمان حقيقي جدًا للهواتف الذكية التي ليس لديها ما تحسد عليه من أشكال الإدمان الأخرى.

يبدو مثيرا للاهتمام أن نلاحظ هذه العلاقة المميزة التي لدينا مع هذا الشيء. لقد أصبح تقريبا امتدادا لنا. فقط تقادم التقنيات، يجعل اندماجها المباشر في جسم الإنسان أمرًا غير محتمل، الأمر الذي من شأنه أن يجعلنا «سايبورج» حقيقيين: الحلم القديم الذي يعتز به ما بعد الإنسانين.

إذا أثبتت ممارسة الفلسفة أهميتها في فهم استخدامنا العادي، فذلك أيضًا لأن العادي ليس نقطة بداية في حدّ ذاته. إنه واضح دائمًا، لأن العادي، بحكم التعريف، هو ما هو بديهي. وبالتالي فإن مهمة الفلسفة هي تفسير هذه البنية، وطريقة عملها، خارج حجاب الأدلة.

لذا فإن الأمر يتعلق بألا نترك الهاتف الذكي يعمي أنفسنا، مع المخاطرة باتباع مثال يوناني آخر، طاليس، الذي سقط في بئر بينما كان مستغرقًا في أفكاره الأكثر تجريدًا. إن الإحراج والجهل بالعالم أصبحا أسطوريين من خلال ضحك الخادم التراقي، والذي أصبح منذ ذلك الحين تجسيدًا للفطرة السليمة الواقعية التي افتتحت الفصل الأول بين الحكمة الفلسفية والفطرة السليمة العادية. لقد كافحت الفلسفة طويلا، وتراجعت إلى كرامتها الفكرية لتحمي نفسها من هذا الضحك الخبيث الذي يستمر في الجريان كلما تحدثنا عن الفلسفة، ليوصم طابع الفلسفة الاكتفائي فيما يتعلق بالعالم.

لنحذر من أن نصبح مثل طاليس، من خلال استشارة الفلسفة على هواتفنا الذكية، بينما نحن نستمر في المشي، قد نتعرض لخطر الاصطدام بالمارة والأعمدة، فيما نكون مستغرقين بشيء ما.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

وزير الطوارئ والكوارث لـ سانا خلال الاجتماع التشاوري للوزارة :إحداث مركز وطني لإزالة مخلفات الحرب والألغام غير المتفجرة ‏التي خلفها النظام البائد

دمشق-سانا ‏

أكد المشاركون في أعمال الاجتماع التشاوري الأول لوزارة الطوارئ والكوارث، ‏لصياغة وتطوير خطتها الوطنية ونظام الإنذار المبكر، أهمية تعزيز التعاون الحكومي ‏مع جميع المنظمات المحلية والدولية، لتحقيق أعلى درجات النجاح في الاستجابة ‏للكوارث والحالات الطارئة، وتعميق التواصل مع المجتمع بشكل صحيح، وتغليب ‏المصلحة الوطنية لإنجاز خطة طوارئ وطنية متكاملة. ‏

ودعا المشاركون في الاجتماع الذي يعقد في مبنى الوزارة على مدى يومين، إلى ‏تشكيل لجنة وطنية تضم ممثلين عن أكثر من وزارة، تعمل بإشراف وزارة الطواريء والكوارث على ‏تحقيق سرعة الاستجابة للجائحات، مثل الجائحات الزراعية، والحرائق وأسراب ‏الجراد، وفق دراسات تفصيلية دقيقة على مستوى الدولة، وضرورة الارتقاء بأداء ‏مكاتب الأمن والسلامة في المنظمات وتوسيع آفاق التعاون معها، وتزويد جميع ‏الجهات المعنية بالاستجابة السريعة بالتجهيزات والمعدات اللازمة للعمل بكفاءة ‏وفاعلية. ‏

ولفت المشاركون إلى أهمية دور الإعلام في نشر الوعي المجتمعي، حول كيفية ‏التعامل مع الأحداث والكوارث الطارئة الطبيعية والإنسانية، وآلية الاستجابة السريعة ‏لها، وسبل مواجهتها والوقاية من أخطارها، داعين إلى إجراء دورات تدريبية توعوية ‏للسكان بهدف إيجاد مسعف في كل بيت، وفرق استجابة قادرة على تغطية جميع ‏المناطق في المحافظات كافة، وإلى إيجاد صندوق وطني للطوارئ، ريثما يتم رصد ‏ميزانية خاصة بالوزارة. ‏

وبين المشاركون أهمية التركيز على العنصر البشري، واستقطاب الخبرات والطاقات ‏للعمل، واستصدار التشريعات الناظمة لعمل الوزارة والمنظمات، وتفعيل المحاسبة ‏والمساءلة ونشر ثقافة الشكوى. ‏

وفي تصريح لمراسلة سانا أوضح وزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح أن الوزارة ‏تعمل على بناء منظومة استجابة وطنية سريعة، وفق خطة عمل شاملة قادرة على ‏الوصول إلى جميع المواطنين بشفافية، لافتاً إلى أنه تمت مناقشة خطة مع السيد الرئيس ‏أحمد الشرع لإحداث مركز وطني يعنى بإزالة مخلفات الحرب والألغام غير المتفجرة ‏التي خلفها النظام البائد. ‏

وأشار الوزير الصالح إلى أهمية الاعتماد على العامل البشري في تحسين جودة ‏الخدمات المقدمة، في ظل قلة توفر الإمكانيات، معتبراً أن التشاور مع المنظمات ‏المجتمعية والأممية التي لعبت دوراً مهماً خلال السنوات

الـ 14 الماضية في الاستجابة ‏للطوارئ والكوارث، في غاية الأهمية، بغية الاستفادة منها في وضع الخطة وتنفيذها، ‏وفق رؤية وأدوات واضحة، ومبيناً أنه عند الانتهاء من وضع الخطة سيتم عقد ‏اجتماعات مع تلك المنظمات، خلال الفترة المقبلة للمباشرة بالتنفيذ.  ‏

وفي تصريح مماثل بين المدير الرئيسي للبرامج في منظمة الدفاع المدني أحمد قزيز، ‏أهمية التنسيق العالي مع الوزارة وغيرها من الوزارات المعنية، من أجل إنجاح أي ‏عملية استجابة، وفق خطة شاملة وقيادة وطنية، تعمل في ظلها جميع الفعاليات بشكل ‏يضمن تحقيق النجاح في العمل، مشدداً على أن الدفاع المدني في جميع إمكاناته سيبقى ‏يعمل بتنسيق دائم مع الوزارة، مع الحرص على دقة المعلومات وتبادلها لتحقيق أعلى ‏درجات الجودة في الخدمة المقدمة ضمن المناطق كافة.‏

وأشار قزيز إلى أن دور الدفاع المدني لا يقتصر على الاستجابة للطوارئ والكوارث، ‏بل يتعدى ذلك إلى المشاركة في إعادة الإعمار، وإيجاد حل للألغام والذخائر غير ‏المتفجرة، وإعداد برامج مجتمعية وحقوقية تحت مظلة حكومية، بالتعاون والتنسيق مع ‏حكومات الدول الأخرى، وبما يضمن تحقيق أعلى قدر من السرعة في الاستجابة، ‏وتنفيذ المشاريع المزمعة بشكل جيد.‏

مسؤول الفريق الداخلي للهلال الأحمر القطري هارون خطاب ذكر أنه يجري العمل ‏على تحقيق تكاملية بين المنظمات والوزارة، من خلال طرح الكثير من الأفكار ‏والرؤى حول موضوع الطوارئ والكوارث في سوريا، التي عانى منها الشعب خلال ‏السنوات الماضية، بما يضمن التعامل الأمثل مع أي كارثة تحدث. ‏

ونوه المدير الإقليمي للجمعية الطبية السورية الأمريكية “سامز” الدكتور مازن كوارة ‏بأهمية إحداث وزارة الطوارئ والكوارث في سوريا، ما يعكس اهتماماً كبيراً من ‏الحكومة بالحفاظ على سلامة مواطنيها، مؤكداً استعداد الجمعية كونها تعنى بالجانب ‏الصحي لتكون جزءاً من العاملين، وفق الخطة الشاملة للاستجابة للكوارث الصحية ‏الوبائية وغيرها.‏

بدورها أكدت مديرة العلاقات العامة في جمعية عطاء للإغاثة الإنسانية ليلى كشكية، ‏أن الجمعية تعمل بالتوازي والتنسيق مع الوزارات، لاستحداث لجان والتنسيق لوضع ‏سياسات عملية تنعكس إيجاباً لمصلحة المجتمع السوري، لافتةً إلى استعداد الجمعية ‏لتقديم برامج توعوية ودورات في الأمن والسلامة، وفق الخطة التي ستضعها الوزارة.‏

ويتابع الاجتماع أعماله غداً بمشاركة جميع المنظمات المحلية والجهات ذات الصلة ‏للوصولً إلى رؤية نهائية للخطة.

تابعوا أخبار سانا على 

مقالات مشابهة

  • خبير إرشادي يكشف أهم الاستراتيجيات التي تساعد الطالب على تجاوز اختبارات القدرات .. فيديو
  • بعد إطلاق أولاها... تفاصيل المنصات الجهوية الـ 12 لمواجهة الكوارث التي ستضم 36 مستودعا على مساحة 240 هكتارا
  • رئيس الوزراء: كان هناك تعمد للخلط بين قناة السويس كممر ملاحي وبين المنطقة الاقتصادية والأراضي التي نعمل على تنميتها
  • وزير التربية والتعليم يعرض التحديات التي تواجه العملية التعليمية وماتم اتخاذه من قرارات وخطوات للتعامل مع هذه التحديات
  • جوندوجان يحلم بأن يكون مساعدًا لـ "الفيلسوف"
  • عاجل: الرئيس السيسي: اليونان دعمت مصر خلال الأحداث التي مرت بها في 2013
  • وزيرة الثقافة الفرنسية: مسلة الأقصر التي تُزين ساحة الكونكورد تجسد قوة علاقتنا بمصر
  • وزير الطوارئ والكوارث لـ سانا خلال الاجتماع التشاوري للوزارة :إحداث مركز وطني لإزالة مخلفات الحرب والألغام غير المتفجرة ‏التي خلفها النظام البائد
  • خطة عسكرية إسرائيلية بغزة التي لم يبق في جسدها مكان لجرح
  • حملة طلابية من غزة تناشد العالم: أنقذوا العائلات التي تعيش بين الركام