قراءة جغرافية للحرب الروسية الأوكرانية
تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT
«بعد سنوات صعبة من انهيار الاتحاد السوفيتى، أصدر المؤرخ الروسى سيربريانكوف في عام 1998 كتابه المهم (حروب روسيا). ومن بين أشهر عبارات الكتاب أن روسيا (وُلدت لتحارب). يتبع المؤلف الحروب التي خاضتها روسيا عبر ألف سنة، فينتهى عبر التحليل الإحصائى إلى أن روسيا- بعد فرنسا- هي أكثر دول العالم خوضًا للحرب. من دون شك تُعد الحرب مكونًا أساسيًّا في الحياة الروسية، بل هي ركن من أركان عقيدة الدولة ونظام الحكم فيها».
الاقتباس السابق من كتاب «روسيا وأوكرانيا- حرب عالمية غير معلنة»، من تأليف الدكتور عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، والصادر حديثًا عن دار الشروق. وقد يكون هذا الكتاب هو الأهم باللغة العربية في موضوعه. وتنبع قوته في تتبعه لأصول تلك الحرب وجذورها في التكوين الجغرافى والسكانى والتاريخى النادر لهذه المنطقة من العالم. وكما يظهر من الاقتباس، فإن الكتاب يُحرض قارئه على النظر إلى هذه المنطقة في إطار خصوصيتها الفريدة، ويعتبر- عن حق- أن الجغرافيا والتاريخ صانعان أساسيان لأحداثها، ومحركان لحاضرها ومستقبلها.
لماذا «وُلدت روسيا لتُحارب»، كما يقول هذا المؤرخ الروسى؟. الفصل الأول يشرح لنا نشأة الدولة الروسية الحديثة قبل خمسمائة عام من رحم تجمعات القبائل السلافية الفرنجية، وبعد غزوة مغولية استمرت مائتى عام. يقول المؤلف: «وكما أن موسكو استلهمت من بيزنطة رسالة الممالك الأرثوذكسية على البحر المتوسط، استلهمت من المغول حضارة البر الآسيوى، وأصبحت بذلك مؤهلة لمواجهة حاسمة مع دول أوروبا، ومشحونة بطاقة هائلة للتوسع والتوغل».
هي إمبراطورية أوراسية كبرى إذن شهدت أكبر عمليات توسعها في القرن السادس عشر، ثم صاغت منذ بطرس الأكبر في مطلع القرن السابع عشر مفهومًا عجيبًا لترسيخ هذا التوسع المستمر تحت مُسمى «النطاقات الجغرافية العازلة». في 1809 ضمت فنلندا لتصنع منها حاجزًا أمام السويد، وتحمى مدينتها الأهم على البلطيق «سان بطرسبرج»، ثم استولت على القوقاز بين 1800 و1840 لتخلق منطقة عازلة بينها وبين تركيا وإيران، وضمت منطقة أواسط آسيا في منتصف القرن التاسع عشر لتقوم عازلًا بينها وبين بريطانيا في الهند!.
الامتداد الجغرافى الهائل، من فيلاديفوستوك على المحيط الهادى وحتى شرق أوروبا، صاغ «شخصية الدولة». مساحة تفوق 17 مليون كيلومتر مربع، تطوى 11 منطقة زمنية، وثقافات وهويات شتى. روسيا القيصرية خاضت الحروب دفاعًا عن هذا الكيان العملاق، جغرافيًّا وسُكانيًّا. ظل الجيش الروسى هو الأكبر في أوروبا، ورمانة الميزان في توازن القوى في القارة. ربما كانت الشيوعية «مظلة جديدة»، أو طريقًا آخر، للسيطرة على هذا الامتداد الجغرافى المهول والتنوع القومى الفريد.
إن الناظر إلى هذه المنطقة يعجب من حجم التشابكات الجغرافية والسياسية، المُورَّثة من أزمنة قديمة وحديثة ومُعاصرة. المُعضلة الكبرى تتمثل في علاقة روسيا بمحيطها المباشر، هل هي إمبراطورية تُسيطر على الهوامش؟، وأين تنتهى هذه الهوامش؟. مثلًا: خرجت فنلندا حينًا من فلك الهيمنة الروسية بعد الحرب الأولى، ثم ما لبث أن عاد ستالين، وحاربها، واقتطع منها إقليم «كاريلينيا». فُرض على هذه الدولة، بموجب معادلة وُقعت في 1948، أن تكون منطقة عازلة بين روسيا والغرب. اليوم، وكنتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، انضمت فنلندا إلى الناتو، وهى على مرمى حجر من المدينة الروسية الأهم على البلطيق «سان بطرسبرج». إنها بيئة أمنية متوترة. مملوءة بالشكوك والمخاوف المتبادلة، ومعبأة باحتمالات لانفجار الصراع في المستقبل.
قل مثل ذلك عن علاقة روسيا بدول البلطيق الثلاث وبمولدوفا (ذات الموقع الاستراتيجى المهم، والتى تقتطع روسيا منها كذلك إقليمًا انفصاليًّا لم يعترف به أحد!). في هذه الدول تسود الروسوفوبيا، (أى رُهاب روسيا). رئيسة لاتفيا لخصت الأمر حين كانت بلادها تسعى لعضوية الناتو بقولها: «إن هذه العضوية ستحقق لنا أن نأوى إلى فراشنا آمنين دون أن يكون هاجسنا في الليل قدوم أحدهم يطرق بابنا بعنف، ويُلقى بنا عنوة في قطاع ذاهب إلى سيبريا»!.
من المزايا المهمة للكتاب الذي بين أيدينا أنه يدفعنا إلى رؤية الصورة من أكثر من زاوية. الزاوية الروسية مهمة، مهما حاول الغرب تسطيحها أو اختزالها في الرغبة في الغزو والهيمنة، أو النزعة السلطوية في الحكم. رؤية روسيا لذاتها وتاريخها مُحرك رئيسى للأحداث، مهما كان حكمنا عليها. المؤلف لا يقع أسيرًا لهذه النظرة، ولكنه ينجح في عرضها في حياد كامل. ساعده في ذلك بطبيعة الحال تمكنه من اللغة الروسية بحكم حصوله على الدكتوراه من جامعة سان بطرسبرج، ثم عمله مستشارًا ثقافيًّا في السفارة المصرية بموسكو.
ما رؤية موسكو؟. هي رؤية ضدية في الأساس، أي أنها مبنية على مواجهة الغرب. الخطاب الروسى، في عهد بوتين، يقوم على أن الغرب ليس كتلة صلبة ولكن قابلة للتفكك. أحد دوافع «بوتين» في تسخين خطاب القومية في أوروبا عبر مساندة قادة اليمين، مثل «مارى لوبان» في فرنسا، هو ما تُمثله القومية- خاصة في نسختها المتطرفة- من تهديد للمشروع الأوروبى المُتمثل في الاتحاد العابر للقوميات.
لا تعتبر روسيا البوتينية أن الديمقراطية أكمل النظم السياسية كما يُبشر الغرب بزعامة الولايات المتحدة، بل ترى أن الديمقراطية هي أن يختار كل شعب النظام الحضارى والاجتماعى والسياسى الذي يناسبه. وهى ترى العولمة مؤامرة نتيجتها استئثار «المليار الذهبى» بالثورة والنفوذ، رغم أن هذا المليار لا يمثل أكثر من 13% من سكان العالم. ويرى بوتين روسيا حضارة مستقلة، قائمة بذاتها ومكتفية بنفسها، تجمع في داخلها أعراقًا وهوياتٍ دينية مختلفة.
على أساس من هذه الرؤية، تسعى روسيا لتكوين حلف مناهض للغرب ومتحدٍّ لهيمنته. الكاتب لا يفوته ما ينطوى عليه هذا الحلف المُفترض من تناقضات. يلفت النظر، مثلًا، إلى العلاقة المرتبكة بين روسيا والصين: «بينما تتقن روسيا سياسة الترهيب أكثر من الترغيب، ولا تصدر للعالم سوى النفط والسلاح، تحتاج الصين إلى الحفاظ على علاقتها القوية بأغلب دول العالم لإكمال مشروعها ببناء إمبراطوريتها التجارية». وفى موضع آخر، وفى إطار الحديث عن انكشاف روسيا الديموغرافى، يضع الكاتب خطًّا تحت معلومة مهمة: «فى وقت يتناقص فيه عدد السكان الروس، فإن أعدادًا متزايدة من المهاجرين من الصين تتدفق من مناطق الحدود عند الشرق الأقصى إلى روسيا بسبب الخلل الديموغرافى. ويمكن فهم هذا الخلل حين نعرف أنه في الشطر الروسى من شرق سيبريا يعيش أقل من 10 ملايين نسمة في مساحة تزيد على 6 ملايين كم2، في حين يعيش على الجانب الصينى نحو 150 مليون نسمة يعانون البطالة والفقر في مساحة لا تصل إلى مليونى كم2»
والحق أن الكتاب يزخر بمعلومات متنوعة حول التشابكات الجغرافية والسكانية المحيطة بروسيا، في القوقاز وآسيا الوسطى. كما يُخصص فصلًا كاملًا لشرح مسألة الطاقة (النفط والغاز) وتأثيرها في هذه التشابكات. وبعد الفراغ من قراءة الكتاب نفهم، مثلًا، لماذا يحظى الاحتفاظ بمنطقة القرم بإجماع روسى لا علاقة له ببوتين، وكيف أسهمت «الهوية المشطورة» في أوكرانيا، وفشل مسار الثورة البرتقالية، في تهيئة المسرح للحرب الحالية؟.
أما الخلاصة، كما يراها المؤلف، فهى أنه لا انتصارًا كاسحًا لأى طرف في أوكرانيا. ثمة ما يشبه الخط الأحمر الذي رسمته القوى الغربية لروسيا، وبحيث لا تتجاوز نهر الدنيبر أو تهدد أوديسا (منفذ صادرات أوكرانيا على البحر الأسود). عندما تجاوزت موسكو الخط تم إغراق المدمرة «موسكوفا» في إبريل 2022 في رسالة واضحة لبوتين. وبالتالى، فقد تنتهى الحرب إلى «صراع مجمد». صحيح أن موسكو سيطرت على ربع مساحة أوكرانيا بطاقتها الصناعية الكبيرة، ولكنها خسرت حياد فنلندا والسويد، وصار الناتو أقرب من حدودها، فيما أمريكا تستنزفها من بعيد بدماء أوكرانية.
إنه كتابٌ محكم التنظيم والعرض، يعكس جهدًا واضحًا ودراية كبيرة بالموضوع وأبعاده. يستحق القراءة لكل المهتمين بالشؤون الروسية، وبالسياسة العالمية بوجهٍ عام.
جمال أبوالحسن – المصري اليوم
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
على هامش فعاليات معرض الكتاب الدولي.. ندوة عن أدب الطفل الرقمي
شهدت مكتبة الإسكندرية ندوة تحت عنوان "أدب الطفل الرقمي"، ضمن فعاليات البرنامج الثقافي للدورة العشرين من معرضها الدولي للكتاب، بحضور ثلاث كاتبات متخصصات في أدب الطفل، هن الدكتورة سماح الصحفي، داليا والي، سمر الوكيل، وأدارت اللقاء الدكتورة علياء إبراهيم، الباحثة المتخصصة في أدب الأطفال واليافعين.
واستهلت الدكتورة علياء إبراهيم النقاش بالتأكيد على أن القراءة في أدب الطفل ليست فقط وسيلة لغرس القيم والمهارات، بل أداة رئيسية لتحفيز الخيال وتنمية الإبداع للأطفال.
وأشارت "إبراهيم" إلى أن الجيل الذي نشأ على الإذاعة يمتلك خيالًا أكثر رحابة، معتبرة أن القصة تُعد مساحة مدهشة يتوحد من خلالها الطفل مع أبطالها.
كما شدّدت على أن التفاعل العائلي مع القصة يُعزز من تأثيرها، داعية الكُتاب إلى التعبير الحر عمّا يشعرون به.
ومُشيرة إلى أن "المحتوى الرقمي" ليس وليد العصر الحديث، بل هو تطور طبيعي لوسائط سردية كانت موجودة منذ عقود كالراديو.
وأكدت أن المحتوى الرقمي في أدب الطفل لا بد أن يحمل قيمة حقيقية، متسائلة: هل احتفظ أدب الطفل الرقمي بروحه الإبداعية أم فقد أصالته بتحوله الرقمي؟!
جانب من الندوةوفي مداخلتها، استعرضت الدكتورة سماح الصحفي، الأستاذ المساعد بكلية الصيدلة بجامعة الإسكندرية، تجربتها الشخصية في الانتقال من المجال العلمي إلى أدب الطفل بعد أن لاحظت تعلق طفلها بشخصيات خارقة أجنبية، وبينت أن هذا دفعها للبحث عن أبطال أدبيين محليين يعكسون الثقافة العربية.
فبدأت الرسم ودمجه مع الكتابة القصصية، مستعينة بمدققين لغويين لبناء شخصيات ثرية بالتفاصيل.
وأكدت "الصحفي" أن الكتابة للأطفال تحتاج إلى وعي مختلف وتفاصيل دقيقة، مشيرة إلى أهمية أخذ آراء الأطفال في مسار الأحداث والرسومات، لا سيما في التفرقة بين الأنماط البصرية.
وطرحت تجربتها في تقديم قصص مصورة تعليمية مثل "علّمني كيف أُصلّي"، موضحة أن انشغالها بالأمومة منح تجربتها بعدًا إنسانيًا أكبر وحرصًا على إنتاج محتوى نافع لجميع الأطفال.
فيما تحدثت الكاتبة داليا، عن بداية علاقتها بالأدب منذ طفولتها حيث نشأت في مركز برج العرب، غرب مدينة الإسكندرية حيث لم تكن المكتبات متوفرة هناك بالشكل الكافي.
جانب من الندوةوأضافت: أن نقطة التحوّل كانت حين اصطحبتها والدتها إلى شارع النبي دانيال، وهناك اختارت أول قصة مصورة قرأتها وتعلّقت بها، ما أشعل شغفها بالكتابة والتعبير وتدوين اليوميات ولاحقًا، بدأت النشر على مدونات إلكترونية ثم انتقلت للعمل كمدرّسة لغة عربية، قبل أن تتفرغ للكتابة بعد إنجابها.
وتابعت: أنها بدأت رحلتها في مجال الكتابة بأدب الطفل من خلال تطبيق رقمي، وقد نشرت إلى اليوم خمس روايات للكبار أيضًا، متحدثة عن تحدّي التنقل بين فئات القراء من أطفال ويافعين إلى كبار، مشيرة إلى أن الانتصار دومًا للفكرة القوية، وقدّمت نصيحة: "اكتب كثيرًا، فالممارسة تدرب العقل.
ومن جانبها استعرضت الكاتبة سمر الوكيل، خريجة كلية الفنون الجميلة، تجربتها التي ارتبطت منذ الصغر بالرسم والقصص المصورة، حيث نشأت على موسوعة مصوّرة ساهمت في تكوين خيالها الأدبي، وتخصّصت لاحقًا في العمارة، ثم عملت مدرسة للغة الإنجليزية تروي القصص للأطفال، قبل أن تلتحق بورش للكتابة الإبداعية منذ عام 2018 وتبدأ النشر.
جانب من الندوة
وأشارت "الوكيل" إلى أن بعد إنجابها لطفلها ماجد، تحمّست لتقديم أعمال أدبية تناسبه وتعكس اهتماماته، مؤكدة أن الكتابة للطفل مسؤولية عميقة تستحق الجهد، وقدّمت نصيحة للكتّاب الشباب: "لا تعتمد على الذكاء الاصطناعي... اكتب من قلبك، واقرأ كثيرًا، واكتب أكثر".
وجدير بالذكر أن فعاليات الدورة العشرين لمعرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب تتواصل خلال الفترة من 7 إلى 21 يوليو الجارى، بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، واتحادى الناشرين المصريين والعرب، في مقر المكتبة على كورنيش الإسكندرية وبالتوازى في القاهرة في "بيت السنارى" بحى السيدة زينب، و"قصر خديجة" بحلوان.
وتقدم 79 دار نشر مصرية وعربية أحدث إصداراتها بخصومات متميزة لرواد المعرض، وعلى هامش المعرض يتم تقديم 215 فعالية ثقافية، ما بين ندوات وأمسيات شعرية وورش متخصصة، بمشاركة قرابة 800 مفكر ومثقف وباحث ومتخصص في شتى مناحى الإبداع والعلوم الإنسانية والتطبيقية.
IMG-20250709-WA0125 IMG-20250709-WA0124