يوسف ادريس: داهمنا البوليس السياسي في بيت السودان وقضيت اسبوعا في الحبس مع الطلبة السودانيين
تاريخ النشر: 11th, July 2024 GMT
abusara21@gmail.com
عبد المنعم عجب الفَيا
اجلس احيانا وفي يدي القلم وامامي الورق.. ورق مخصوص إذ هو (دشت) الورق الذي تطبع فيه الجرايد اليومية، يصنع على هيئة (بلوكات) ولا يوجد إلا في دور الصحف. وتقريبا منذ أن بدأت الكتابة وانا لا أكتب إلا على هذا الورق. أما القلم فهو باركر قديم صاحبني منذ نيف وعشرين عاما، وها هو لا يزال يكدح معي واكدح معه إذ الكتابة به أصبحت فعلا متعبة، ولكن ماذا أفعل والقلم والورق ونوع السيجارة ولحظة الكتابة أصبحت كلها مترابطة كافعال بالفوف المنعكسة، لا ابدا اكتب الا اذا توافرت.
ومع ذلك فهي احيانا كثيرة ما تتوافر ولا اكتب. إذ اجلس هكذا ساعات انتظر (الأذن). وانا لا أعرف من يصدر هذا الأذن أو كيف يأتي، سموه الوحي، سموه اي شيء، ولكنه، هو المتحكم.
واليوم حدث شيء غريب، فقد خطر لي الموضوع اولا، ثم أسرعت احضر الورق والقلم. وبقية المعدات كالوالدة فاجاها الطلق في الأتوبيس. ذلك أن الموضوع حبيب إلى نفسي تماما، ولا أعرف كيف لم أفكر أبدا أن أكتب عنه إلى الآن.. ربما من شدة حبي له.
الموضوع هو صديقي الفنان العربي الخلاق الطيب صالح. فجأة وجدت وجهه الذي لا تعرف، هل الابتسامة المتبقية عليه هي بقايا مايدة سفرية طالت، ام هي مشروع باطني غريب، ولكنها ابتسامة آسرة ، ما من مرة رأيتها الا واحسست وكأن نيلنا العظيم ترق موجاته فجأة وتبتسم. ابتسامة خير، تبشر دائما بالخير. ما من مرة رأيت فيها الطيب صالح إلا واحسست فعلا الدنيا لا تزال بخير.
* *
وعلاقتي بالطيب صالح بدأت قبل أن اعرفه بكثير. بدأت وانا طالب بكلية الطب، وحيدا أو أكاد، فقد كنت قادما من محافظة الشرقية الواقعة بين قنال السويس وفرع الدلتا الشرقي. غريبا على مجتمع القاهرة، والقاهريين، وطلبة القاهرة، وبناتها، ومظاهراتها وقيمها.. اتفرج.. اتأمل.. أحس اني فلاح وان هؤلاء الناس من طينة أخرى، طينة معجونة بماء ابليس يحيل الذكاء الطيب فينا نحن أهل الشرقية إلى ذكاء حاذق خبيث له فوايد جمة عندهم.
وتعرفت أثناء وجودي في الكلية على بعض من الزملاء الطلبة السودانيين الذين كانوا يأتون من السودان لدراسة الطب.. والحق إني وكأني عثرت على كنز عنبري دافي في هؤلاء الأصدقاء. كانوا على الأقل أطيب مني، اقصد أطيب منا نحن الشراقوة، فإذا كان الشراقوة هم أطيب المصريين واحسنهم نية، فلك أن تتصور مدي تعلقي باناس أذكياء، طيبين، مثقفين إلى درجة ظلت تشعرني بالجهل، حتى نطقهم في الإنجليزية كان اسلم وأكثر اتقانا.
وسرعان ما أصبح كل اصدقائي الشخصيين في الكلية من الطلبة السودانيين، ليس فقط طلبة الطب،. لكن طلبة الكليات الأخرى أيضا.
كان معظم الطلبة السودانيين يقيمون في مكان استاجرته لهم حكومة السودان واسمه ( بيت السودان) وكان في حي المنيل. أصبح بيت السودان هو بيتي، وبدأت اكتسب كثيرا من العادات السودانية، بل إن عادة منها تسببت في حبسي أسبوعا كاملا في قسم السيدة زينب.
إذ كان الطلبة في البيت كثيرا ما يقومون هم بإعداد الطعام لأنفسهم، وما أن ذقت مرة معهم الملوخية بالشطة السودانية الشيطانية حتى سكنت متعتها جسدي وأصبحت كثيرا ما اذهب الى البيت احيانا فقط من أجل هذه الملوخية ذات الشطة الشيطانية.
وذات ليلة ونحن لا نزال (نتلوسع) و (نوحوح) من أثر الاكل الملتهبة فوجئنا بقوات هايلة من الشرطة تحيط بالبيت، وبالبوليس السياسي يقتحم الحجرات ويقبض على كل الموجودين بالبيت في ذلك اليوم (حوالي ٣٠ طالبا) ويصادر كل ما وجده من كتب ومجلات بزعم مقاومة الشيوعية. والحقيقة أن الشيوعية لم تكن هي السبب. السبب كان أعمق بكثير. فالطلبة السودانيون المغتربون في القاهرة في ذلك الوقت كانوا جميعا تقريبا يعملون بالقضية المصرية السودانية المشتركة، قضية إجلاء الإنجليز عن وادي النيل. والبوليس السياسي في مصر كان يتلقى أوامره مباشرة من (رسل) باشا حكمدار العاصمة،. كان بيت السودان أحد (أوكار) الحركة الوطنية المشتركة. وكنت تقريبا المصري الوحيد الموجود تلك الليلة في بيت السودان ليس هذا فقط بل كنت تقريبا الطالب الوحيد الذي ليس له نشاط ثوري معروف وإنما هو فقط يكتب ويحرر المجلات الطلابية الداعية لتغيير كل شيء.
وكان أمر القبض الصادر من النيابة ينص على القبض على جميع الطلبة السودانيين المتواجدين في ذلك الوقت على هيئة اجتماع (ضد النظام)، والمضحك انه كان اجتماعا لاكل الملوخية بالشطة.
وفي القسم بدأ التحقيق.
وواجهني وكيل النيابة بالتهمة: طالب سوداني يعمل بالسياسة ومطلوب ترحيله فورا إلى الخرطوم.
وقلت لوكيل النيابة : ولكنني طالب مصري.
قال: اسمك ادريس أليس كذلك؟
قلت : نعم.
قال: انت عايز تضحك علي ... ادريس دي سوداني مية المية.
والى أن استطعت أن أثبت للنيابة أن ادريس يمكن أن يكون مصريا أيضا وإنني فعلا كذلك، كان قد انقضى اسبوع، اسبوع من الحجز في زنزانة مساحتها لا تتعدى الأمتار الأربعة ومحشور فيها أكثر من أربعين شخصا ما بين سودانيين سياسيين وطلبة وتجار مخدرات ولومانجية.
**
ذات يوم قابلني الصديق العزيز رجاء النقاش، وقال خذ اقرا هذه الرواية. وكانت القصة منشورة في مجلة بيروتية وكان اسمها " موسم الهجرة إلى الشمال" واسم كاتبها الطيب صالح.
وأصبت بدهشة شديدة. ذلك أنني كنت قد قابلت الطيب صالح في لندن ايام كان مشرفا على الدراما هناك. تعرفنا قضينا ليالي لندنية حافلة. واحاول أن اعتصر ذاكزتي فلا أجد ابدا انه كان قد ذكر لي انه يكتب القصة. اذهلتني آراؤه العميقة المضمخة بعبير عربي أفريقي أسر، عتقته برودة لندن وجمالها، ولكن ان يكتب الطيب صالح مسألة أخرى.
أخذت القصة وأذكر أنني قضيت أغرب وامتع أربع ساعات قضيتها في حياتي. مذهول اقرا لكانه نيل جديد تفجر من بحيرة تانا، سودانية الفتوة والقوة، والسحر وحتى التعاويذ. فن ضارب إلى الأعماق في تربة خصبة أصلها بركاني، وسامق إلى أعلى ذرى المعاصرة والفن الجميل.
هوامش:
* القاص والروائي والمسرحي الكبير الدكتور يوسف إدريس (١٩٢٧-١٩٩١).
*نشر مقال يوسف ادريس هذا تحت عنوان (ابتسامة لها تاريخ) بمجلة الدوحة، العدد ٢٧، مارس ١٩٧٨
abusara21@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: بیت السودان الطیب صالح
إقرأ أيضاً:
أحمد الطيب: نعمل مع الفاتيكان لوثيقة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
ألقى فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، كلمة رئيسية، خلال الافتتاح الرسمي لقمة الإعلام العربي، أعرب فيها عن تقديره لفكر ورؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والتي أثمرت عَقد القمة بما لها من قيمة بصفتها منصة مهمة للنقاش الفكري والإعلامي في عالمنا العربي والإسلامي.
وأكد فضيلته تقديره للموضوعات التي تتطرق إليها القمة حول الدور المحوري للإعلام العربي في مواجهة التحديات الأخلاقية الحديثة، في ظل عالم مفتوح يَموج بالطفرات والأزمات الإنسانية والأخلاقية المتلاحقة، معرباً عن أمنياته في أن يكون هذا اللقاء سبباً في الوصولِ إلى استراتيجية إعلام عربي مشترَك قابل للتطبيق، وقادر على التعبير عن واقع الأمة، وحماية شبابها من التحديات التي تواكب التقدم التكنولوجي الكبير.
وحذّر مما تروج له بعض المنصات الرقمية من شعارات أثرت بالسلب في الذوق العام والفطرة السليمة، واضطربت بسببها معايير الحُسن والقُبح، وموازين الخطأ والصواب.
وقال فضيلته: «لقد عانينا نحـــن -العرب والمسلمين- من رسائل وتقارير إعلامية لتشويه صورتنا في عقول الغربيين؛ بل في عقول العالم كُله، بعد ما ربطت بين الإسلام وبين العنف والتطرف، وظلم المرأة، وصَورته -زُوراً وبهتاناً- في صورة حركة اجتماعية أو أيديولوجية سياسية تدعو إلى العُنف والتعصب والكراهية والتمرد على النظام العالمي».
وأعرب فضيلة الإمام الأكبر، عن أسفه أن كثيراً من الصور المضلِّلة تسلَّل إلى المنطقة، وانعكست آثارها سلباً على الخطاب الإعلامي العربي، حيث انزلق البعض إلى تصدير ثقافة زائفة، تُعنى بنقد كل ما هو عربي المنشأ أو إسلامي الفكر والتوجه.
وقال: «ما زاد من جسامة التحديات الراهنة ومن خَلَل كبير في الاعتزاز بالهوية، ومن توسيع للفجوة بين وَعْينا المعاصر، وبين تُراثنا الذي كان بالأمسِ القريب من أقوى مصادر عِزنا وفخرنا وصمودنا في وجه العابثين بماضي هذه الأمة وبحاضرها».
وتطرّق فضيلته إلى الأوضاع التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والأزمة التي تواصلت فصولها على مدار تسعة عشر شهرا، وما يجب على الإعلام العربي حيالها من مسؤولية تاريخية لتوضيح للحقائق، وإبراز صمود الشعب الفلسطيني، والحفاظ على القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان شعوب العالم شرقاً وغرباً.
وأضاف: «ننتظر الكثير من الجهود الإعلامية المكثفة لمواجهة الظاهرة المسمّاة بظاهرة «الإسلاموفوبيا»، والتصدي لآثارها السيئة في الشارع الغربي، على الرغم من أنها لا تَعْدو أنْ تكون وَهْماً أو خَيالاً صُنِعَتْ منه تهاويل لتشويه صورة الإسلام والحَطِّ من مبادئِه التي تقوم على السلام والعيْش المُشترك، وذلك على الرغم مِمّا نَعْلَمه من حقوق الإنسان والحيوان والنبات والجماد في شريعة الإسلام السمحاء».
وأشار فضيلة شيخ الأزهر الشريف في كلمته، إلى المحاولات الرامية إلى الطعن في ثوابت حضارة الشرق وأصول أخلاقياتها واجتماعها الإنساني والأسري، والدعوة إلى طَمْسِ معالم هذه الأخلاق التي تأسست -ولا تزال تتأسّس- عليها حضارات الشرق قاطبة، في مسعى هدفه تجفيف كل منابع القوة والاستقلال ومشاعر الاعتزاز بالشخصية العربية والإسلامية.
وقال فضيلته: «كل ذلك جدير بأن يضع في رقابنا جميعاً -وبخاصة الإعلاميين- أمانة التفكير الجادّ في كيفية التصدي لهذه الرياح المسمومة وإنقاذ شبابنا وأوطاننا مما تحمله من عوامل الاستلاب والفناء والذوبان».
وحول التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم حالياً، أكد فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، أن هذا التطور التقني، لاسيما في مجال الذكاء الاصطناعي، لابد أن يُحاط بسياج من المسؤولية الأخلاقية والضوابط المهنية، حتى لا ينقلب إلى وَحْش كاسر يُهدد الإنسانية بأَسرها، مشيراً إلى أن المسؤولية هُنا تَقع على عاتق الخبراء والمشرّعين، وعليهم وحدهم حراسة هذه التقنيات من الانحراف عن غاياتها النبيلة، انطلاقاً من مبادئ إنسانية بعيدة كل البعد عن أغراض الهيمنة والسيطرة والغزو الثقافي.
كما أشار فضيلته إلى ما بدأه مع البابا فرنسيس الراحل، من مشروع إصدار وثيقة جامعة حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وقال فضيلته: «قد قطعنا في إعدادها شوطاً طويلاً، وكانت على وَشْك الظهور لولا أن الأقدار شاءت -برحيل البابا- ترتيباً آخر، ونحن على تواصل مع الفاتيكان في عهدها الجديد لإتمام هذا المشروع، ونأمل أن يكون قريباً بمشيئته تعالى».
وحول ما يتعرض له الإعلام من ظروف ميدانية صعبة، قال فضيلته: «من واجب الوفاء أن أستحضر -معكم- مأساة زملائكم الصحفيين الفلسطينيين، وغيرهم ممن شاءت أقدراهم أن يدفعوا حياتهم ثمناً لشرف الكلمة وحرمة الحقيقة وتصوير الواقع، وقد استُشهد منهم ما يزيد على مئتي إعلامي على تراب غزة، وآخرون غيرهم ممن أصيبوا بجروح بالغة، أو ممن بُترت أَطرافهم، أو هُدّمت بيوتهم، أو فقدوا أسرهم، أو تشرّدت عائلاتهم».
واختتم فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، كلمته قائلاً: «أدعو كل من ينتسب إلى مهنة الإعلام النبيلة، أن يشارك في وضع استراتيجية إعلام عربي، تكون درعاً يحمي الحق، ويصون قيم الأمة ويحفظ هويتها، هذا؛ وإن الأزهر الشريف ليسعِده أن يكون معكم، وداعماً لكم في تحقيق هذا الواجب المقدس».