لا أعتقد أن المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة توقعوا أن تستمر عملية «رد الفعل» الإسرائيلي على أحداث السابع من أكتوبر كل هذه الشهور؛ ولا أعتقد أنهم تخيّلوا أن يكون الرد بهذا الحجم، وبهذه الدموية والوحشية التي استهدفت نيرانها، وما زالت تستهدف، جميع البشر وكلّ التراب والحجر.
ولا أعرف ماذا كان سيكون موقف قادة حركة «حماس» حيال عملية السابع من أكتوبر، لو كانوا يتوقعون وحشية الرد الإسرائيلي وتداعياته المأساوية على الوضع الفلسطيني؛ لكن العالم يعرف ما هي مخططات حكومة إسرائيل الحالية، وما هو موقفها المعلن تجاه الاحتفاظ بجميع الأراضي الفلسطينية، وسعيها من أجل تحقيقه منذ اليوم الأول لإقامتها قبل عشرين شهرا؛ ويعرف العالم كذلك، والفلسطينيون طبعا، ما هي حدود القوة الإسرائيلية وأشكال التنكيل والترهيب التي استعملت ضد الفلسطينيين خلال سنوات الصراع الطويلة بين منظمات الحركة الصهيونية والمواطنين الفلسطينيين العزل منهم ومن حملوا السلاح أيضا.
وإذا عدنا ليوم السابع من أكتوبر سنجد أن ردود الفعل الأولية التي أطلقتها القيادات العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية، وفي طليعتها بنيامين نتنياهو، تحدثت حينها عن ضرورة خوض عملية عسكرية معقدة وطويلة؛ وأوضحوا أنهم لن يتوقفوا إلا بعد القضاء على «حركة المقاومة الإسلامية»، وتحييد منطقة غزة وتحويلها من خطر يهدد أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها، إلى عمق آمن لها وتحت السيطرة.
من الواضح أن رؤية حكومة نتنياهو كانت مرسومة قبل السابع من أكتوبر، وعكستها دائما مثابرته على ترسيخ فصل القطاع عن الضفة الغربية كجزء من مخطط تقويض فرصة تحقيق حل الدولتين. كان الهدف معدّا والعمل على تحقيقه جاريا، حتى جاءت عملية السابع من أكتوبر فوظّفتها حكومة نتنياهو من أجل الانتقال السريع إلى المرحلة التالية، التي صار يضبط إيقاعها أقطاب حكومته المتطرفين والمتنفذين في ترسيم إحداثيات السياسة الإسرائيلية الجديدة، وسرعة تقدّمها نحو إقامة مملكة إسرائيل بين نهر الأردن شرقا وحتى البحر غربا، أو كما يخطط بعضهم وفق حدود أوسع رسمتها توراتهم ودعمتها صلوات أنبيائهم.
لقد أثار الصحافي المعروف ناحوم بارنيع حفيظة الوزير سموتريتش بمقالة نشرها بتاريخ 9/9 في جريدة «يديعوت أحرونوت»، أتى فيها على تفاصيل ما جرى ويجري في دهاليز ما يسمى «الإدارة المدنية الإسرائيلية» في الضفة المحتلة، وكيف تسلّط الوزير ورجاله بدعم حكومة نتنياهو، على مفارق الحياة المدنية للسكان الفلسطينيين، وأتمّ عملية ضم الأراضي الفلسطينية بصورة فعلية لسلطة القانون الإسرائيلي.
يعيدنا بارنيع إلى «خطة الحسم» التي وضعها سموتريتش عام 2017، وأعلن فيها ضرورة تفكيك السلطة الفلسطينية، ومنع إقامة دولة فلسطينية، ومواجهة سبعة ملايين فلسطيني موجودين بين الأردن والبحر بواحد من ثلاثة خيارات: الموت أثناء مواجهتهم سياسة إسرائيل، أو الهجرة، أو البقاء للأبد كمواطنين من درجة ثانية؛ ويرى أن الوزير سجّل نجاحات استراتيجية كبيرة، وهذا يثير «تخوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والبيت الأبيض الذي تخشى إدارته من تأثير انتشار الكهانية في الضفة، على رفع منسوب الإرهاب».
وأضاف: «إن ما يحصل في الضفة لا يبقى في الضفة وحسب». كان رد فعل الوزير على المقالة غاضبا وواضحا فقال: «كم يجب أن تكون معزولا عن الواقع، كي تستمر بعد السابع من أكتوبر في دعم إقامة دولة إرهاب وسط البلاد، وأن تهاجم من يعمل من أجل منع إقامتها؟ مهمتي في الحياة هي بناء أرض إسرائيل وتقويض إمكانية إقامة دولة فلسطينية. هذا ليس أمرا سياسيا، هذا شأن قومي ووجودي».
رؤية حكومة نتنياهو كانت مرسومة قبل السابع من أكتوبر، وعكستها مثابرته على ترسيخ فصل القطاع عن الضفة الغربية كجزء من مخطط تقويض فرصة تحقيق حل الدولتين من المهم طبعا أن تخرج أصوات معارضة للجرائم التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين، لكنني على قناعة أن تأثير هؤلاء اليوم داخل إسرائيل بات محدودا، فالكهانية استفحلت واشتد عودها أيضا بسبب مواقف بارنيع وأمثاله، حين كانوا يشاهدون ممارسات جيش الاحتلال وجرائم سوائب المستوطنين، وجل ما كانوا يفعلونه هو أن يسكتوا، أو أن يكتبوا مقالا ينتقدونهم فيه بدافع وطنيتهم الصهيونية ومن خوفهم عليها، أو من باب الإشارة إلى تعارض تلك الجرائم مع بعض القيم الأخلاقية والإنسانية واليهودية. لا بد أن نقول إن وقوفهم حيثما وقفوا طيلة سني الاحتلال، ساهم في وصولنا إلى هذا الجحيم وتخييرنا كفلسطينيين بين الموت خلال المواجهة، أو الرحيل عن وطننا، أو أن نحيا كعبيد في دولة اليهود، دولة سيواجه فيها ناحوم بارنيع وزملاؤه خياراتنا الثلاثة عندما يتمكن من رقبته حكّامها الجدد.
لقد سمعنا في الأسابيع الأخيرة رئيس جهاز المخابرات العامة، يحذر بدوره قيادته السياسية من تعاظم ظاهرة الإرهاب اليهودي في الضفة المحتلة؛ وسمعناه، إلى جانب مسؤولين كبار في أجهزة الأمن الإسرائيلية يحذرون من التحرشات اليهودية في «الوضع القائم» في المسجد الأقصى، لاسيما بعد إعلان عدد من وزراء حكومة نتنياهو عن عزمهم على تغيير القواعد السائدة والسماح لليهود في الصلاة في منطقة الحرم وزيارته دون شروط، حتى أن بعضهم بدأ يفكر ببناء هيكلهم هناك.
لن تنجح تحذيرات قادة الأجهزة الأمنية في عرقلة مخططات هذه الحكومة في الضفة وفي القدس وضد مواطنيها الفلسطينيين في الداخل. وعلى الأرجح أن تتفاقم الأوضاع على جميع الجبهات، وأقربها للانفجار سيكون في الضفة الغربية، ولذلك يقوم جيش الاحتلال وكتائب المستوطنين بزيادة وتيرة عملياتهم العسكرية، التي تستهدف ضرب إمكانية تشكل حالة نضالية متماسكة في الضفة، وخلق ميزان رعب تفترض إسرائيل أنه سيردع الفلسطينيين إلى أجل بعيد أو يدفعهم إلى الهجرة.
وستلحقها القدس، مدينة الحروب الأبدية؛ وطن الملائكة والشياطين. جميعهم يتقاتلون على بخورها وهي مختبئة في قلوب ياسمينها وفوق أجفان قبابها؛ وتنتظر مجيء «الحريق». يقول الخبر إن رئيس جهاز الشاباك حذر حكومته من أن المساس بالأقصى سيشعل انتفاضة شعبية وسيؤدي إلى احتجاجات كبيرة، وإلى توحيد الجبهات الداخلية في فلسطين وربما في مواقع أخرى عربية وإسلامية على حد سواء. سمعت القدس الخبر فأجهشت بالضحك؛ وتذكرت حين أضرم دينيس مايكل روهان، مواطن أسترالي مأفون، يوم 1969/8/21 النار في الأقصى. دمّر الحريق الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من المسجد وسبب لهما أضرارا جسيمة، وأتى على المنبر المعروف بمنبر صلاح الدين. حمّل الفلسطينيون إسرائيل مسؤولية الجريمة وكذلك فعلت معظم الدول العربية والإسلامية.
خرجت مظاهرات الاحتجاج في فلسطين وفي عدة دول عربية وإسلامية التي شجب زعماؤها إسرائيل وباشروا باقامة الاتصالات «المكثفة والحثيثة» وتباحثوا بينهم حول سبل التحرك السريع ضدها. لا تتسع هذه العجالة لسرد تفاصيل ذاك الفصل الهزيل من تاريخ الأمة؛ فالامور، كما نعرف، تقاس بخواتيمها. خافت الحكومات الغربية من ردات الفعل المتوقعة، لكنها تفاجأت بأن الحراكات الشعبية خمدت، أو تم «استيعابها» من قبل الأنظمة بعد أيام قليلة، ولم تفضِ مباحثات الزعماء إلى عقد قمة عربية متفق عليها فولدت فكرة إنشاء «منظمة المؤتمر الإسلامي» التي أصبحت أكبر منصة رسمية «للتعاون» بين الدول الإسلامية.
ونجحوا بما يشبه لم الشمل واستصدروا قرارا «مؤدبا ومتواضعا» بحق إسرائيل في مجلس الأمن. ينسب إلى غولدا مئير، أنها قالت بعد إقفال ملف حرق الأقصى: «لم أنم ليلتها وأنا أتخيل العرب سيدخلون إسرائيل أفواجا من كل صوب، لكن عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء أدركت أن باستطاعتنا فعل ما نشاء فهذه أمة نائمة». سواء قالت غولدا مئير هذه الجملة أم لا، يبقى مضمونها صحيحا في حالة الأمة، ووقعها يسري في شراييننا منذ قرن من الزمن، حيث تشتعل الحرائق وتخمد ويبقى حطبها أهل القدس والفلسطينيين.
لن تردع تحذيرات رئيس المخابرات حكومة نتنياهو، خاصة بعد أن هاجمه بعض وزرائها ووصفوه بعدوهم وبكونه عقبة أمام تحقيق أهدافهم السياسية؛ فيبدو أن الانفجارات مقبلة وستشجب الدول العربية اسرائيل وسيجتمع القادة العرب والمسلمون للتشاور، وعلى الأغلب لن يتفقوا إلا على ضرورة إنشاء جسم جديد قد يكون اسمه هذه المرة «اتحاد أبناء إبراهيم».
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينيين نتنياهو غزة القدس القدس فلسطين غزة نتنياهو مقالات مقالات مقالات من هنا وهناك صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة من هنا وهناك رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السابع من أکتوبر حکومة نتنیاهو فی الضفة
إقرأ أيضاً:
الجثث المُحتجزة ومقابر الأرقام.. إسرائيل ترتهن جثامين الفلسطينيين
#الجثث_المحتجزة ومقابر الأرقام.. #إسرائيل ترتهن #جثامين_الفلسطينيين
الدكتور #حسن_العاصي
أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا
ورث الكيان الصهيوني سياساته الاستعمارية من الانتداب البريطاني البغيض الذي مهّد الطريق أمام قيام دولة الاحتلال. فمنذ الإعلان عن نشأتها مارست إسرائيل سياسة السيطرة وإحكام قبضتها على كافة مناحي الحياة في فلسطين. وشملت هذه السياسات البشر والشجر والحجر، وكافة مناحي الحياة، عبر السجون واعتقال الآلاف من الفلسطينيين، وبناء جدار الفصل العنصري، وعبر الحواجز والبوابات، وأبراج المراقبة، والدوريات، ومصادرة الأراضي، والقتل، والإعدامات الميدانية بحق الفلسطينيين. وهناك أساليب أخرى يتبعها الاحتلال للإمعان في ظلم الفلسطينيين، من ضمنها سياسة احتجاز جثامين الشهداء.
مقالات ذات صلةيقوم الاحتلال الإسرائيلي بسرقة جثامين الشهداء بعد استشهادهم، أو جثامين بعض الأسرى، والاحتفاظ بها لفترات متفاوتة في مقابر الأرقام، أو في ثلاجات الموتى، ومؤخراً في معسكر “سديه تيمان”. طما حصل على سبيل المثال عندما أقدمت سلطة السجون الإسرائيلية على احتجاز جثمان الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد، الذي توفي في السجن بسبب مرض السرطان، ورفضت إسرائيل تسليم جثمانه.
ويهدف الاحتلال من خلف ذلك إلى حرمان العائلات الفلسطينية من حقها الإنساني في وداع أبنائها الشهداء ودفنهم في المكان الذي تختاره، وفق طقوسها ومعتقداتها. وحين يقوم الاحتلال الإسرائيلي بسرقة الجثامين واحتجازها فإنه يحرم العائلات من حق التحقق والتأكد من استشهاد أبنائهم، ومنعهم من رؤية ومعاينة الجثامين. وهو بذلك يهدف إلى ممارسة الضغوط غير الأخلاقية زغير الإنسانية على أهالي الشهداء وعلى المقاومة الفلسطينية. وبذلك هي تعكس الرغبة الإسرائيلية في محاصرة الفلسطيني والسيطرة عليه حياً وميتاً، ووسيلة لردع الفلسطينيين عن مقاومة الاحتلال.
ورغم أن هذه السياسة هي وسيلة لمعاقبة عائلات الشهداء، إلاّ إنها أيضاً سياسة استعمارية مركّبة تهدف إلى تحطيم النظم الاجتماعية والقيم الحياتية المرتبطة بالمجتمع، وعلاقته مع جثامين الشهداء وقدسيتها. لقد شهد تاريخ فلسطين النضالي مثل هذه الممارسات الشنيعة في عهد الاستعمار والانتداب البريطاني الذي قام بإعدام الشهداء المناضلين محمد جمجوم، وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من مدينة صفد، يوم 17 حزيران/ يونيو 1930 في سجن القلعة بمدينة عكا، ودفنهم لاحقاً في مدينة عكا بعيداً عن مدنهم ومقابر عائلاتهم.
يحدد القانون الدولي الإنساني خمس قواعد عرفية لمعاملة قتلى الحرب ورُفاتهم ومقابرهم تشمل: القاعدة 112 المتعلقة بالبحث عن الموتى وجمعهم، والقاعدة 113 التي تنص على حماية الموتى من السلب والتشويه، والقاعدة 114 المتعلقة بإعادة رفات الموتى وممتلكاتهم الشخصية، والقاعدة 115 بشأن التخلّص من الموتى، والقاعدة 116 بشأن تحديد هوية الموتى.
كما تؤكد اتفاقيات جنيف الأولى لعام 1949 في المادة 17 على أهمية إجراء دفن لائق وكريم، وتنص على أنه ينبغي على أطراف النزاع “ضمان الدفن الكريم للموتى، وإن أمكن وفقاً لطقوس الدين الذي ينتمون إليه، واحترام قبورهم، وتجميعها إن أمكن حسب الجنسية الوطنية، ثم صيانتها وتمييزها بحيث يمكن العثور عليها دائماً. وتنص أيضاً المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة 34 من البروتوكول الإضافي على الالتزام بتسهيل إعادة جثث ورفات الموتى.
الشهداء المحتجزين
يحتجز الاحتلال الإسرائيلي حالياً جثامين 676 فلسطينياً في “مقابر الأرقام” وثلاجات، وفقًا للحملة الوطنية لاستعادة جثامين ضحايا الحرب الفلسطينيين، من بينها رفات 71 معتقلاً و60 طفلاً و9 نساء، و5 أشخاص من أراضي 1948، وستة أشخاص من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. منها 256 في المقابر المرقمة، بالإضافة إلى مئات الجثامين من قطاع غزة.
إن ما يُسمى “مقابر الأرقام” هي قبور بلا شواهد، محاطة بحجارة، تحمل كل منها لوحة معدنية تحمل رقماً بدلاً من اسم المتوفى. وتتوافق هذه الأرقام مع ملفات فردية تحتفظ بها أجهزة الأمن الإسرائيلية. ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، صعّد الاحتلال من احتجاز الجثامين، حيث يحتجز 149 جثة، وهذا العدد لا يشمل الشهداء المعتقلين من قطاع غزة.
كما احتجز الجيش الإسرائيلي جثامين نحو 200 شهيد فلسطيني قتلهم عام 2024 وهذه البيانات لا تشمل شهداء قطاع غزة، حيث يقدر عدد المعتقلين من غزة لدى الاحتلال بالمئات، لكن لا يوجد بيان رسمي من الاحتلال حول العدد الفعلي لجثامين شهداء غزة المحتجزين حتى الآن. مع العلم أن بعض الجثامين تعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. مع ذلك، لا تشمل البيانات الجثث المحتجزة في قطاع غزة لعدم توفر معلومات دقيقة، مع أنه تم توثيق إعادة 325 جثة من غزة من قِبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي سابقاً.
إمعاناً في الانتقام من الفلسطينيين
في سبتمبر/أيلول 2019، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأنه يحق للقادة العسكريين احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي مؤقتاً لاستخدامها “كأوراق مساومة” في مفاوضات مستقبلية. وذلك بموجب تشريع جديد سنّه الكنيست الإسرائيلي، والمُطبّق مباشرةً في القدس الشرقية المحتلة. إضافةً إلى ذلك، تُطبّق إسرائيل ممارسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة. تجدر الإشارة إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لديها تاريخ طويل من هذه الممارسات وممارسات مماثلة، بما في ذلك استخدام الاختفاء القسري و”مقابر الأرقام”، حيث يُدفن الفلسطينيون سرًا ليتم التعرف عليهم فقط، وإهانة إنسانيتهم، من خلال الأرقام. وهذا يرقى إلى ممارسة تمييزية للاختفاء القسري، ومعاملة قاسية ولاإنسانية للأسر المفجوعة، وعمل من أعمال العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين.
بموجب قرار تاريخي صدر عام 2017، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن دولة إسرائيل “لم تُشر إلى مصدر سلطة [قانونية] يسمح لها باحتجاز الجثث حتى يتم منح الموافقة على ترتيبات جنازة معينة” من قبل عائلات المتوفى. وأقرت المحكمة بأن “هناك عدداً من الحقوق الأساسية على المحك، وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية” التي تنطوي عليها عملية احتجاز الرفات. ومع ذلك، في حين أن المحكمة لاحظت الحق الأصيل في دفن لائق ومحترم، إلا أنها ادعت بشكل متناقض إلى حد ما أن الدولة قد تُشرّع صراحةً للسماح بانتهاك الحقوق الأساسية. ومع ذلك، أمرت المحكمة بإعادة الجثث في غضون 30 ساعة من صدور حكمها، مع إشعار عائلات المتوفين قبل ساعتين. في أعقاب قرار المحكمة، أقرت الحكومة الإسرائيلية، بدعم من مختلف الأحزاب في الكنيست، قانون مكافحة الإرهاب (التعديل رقم 3، 2018)، والذي يسمح لقوات الاحتلال الإسرائيلي باحتجاز الجثث في انتظار قبول عائلات الضحايا قسراً لقيود معينة على دفنهم. ومن أبرز هذه القيود اشتراط أن تتم عمليات الدفن ليلاً فور إعادة الرفات، وهو ما أشار إليه الأقارب مما يجعل الدفن وفقاً للتقاليد وإجراء تشريح الجثة مستحيلاً. إلى جانب إقرار التعديل، طلبت إسرائيل، وحصلت على إذن، بتأخير إعادة رفات الفلسطينيين في انتظار جلسة استماع إضافية في ضوء التشريع الذي تم اعتماده. وكما أشارت منظمة عدالة وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، فإن المحكمة العليا الإسرائيلية:
“أصدرت قراراً يُمكّن إسرائيل من مواصلة انتهاكها للقانون الإنساني الدولي. يحظر القانون الدولي الإنساني على القوة المحتلة احتجاز الجثث واستخدامها كورقة مساومة. إضافةً إلى ذلك، يُؤخر قرار المحكمة العليا نقل الجثث للدفن، مما يُعطي الضوء الأخضر للانتهاك الجسيم لحق العائلات والمتوفين أنفسهم في دفن سريع ولائق.”
وبموجب القانون الإنساني الدولي العرفي، يجب على أطراف النزاع المسلح احترام الموتى، و”يجب التخلص منهم بطريقة محترمة”. علاوة على ذلك، يجب إعادة رفات الموتى، كما هو موضح في اتفاقيات جنيف الأربع، إلى عائلاتهم. علاوةً على ذلك، تُعتبر ممارسة احتجاز الجثث بمثابة سياسة عقاب جماعي، وهو أمر محظور صراحةً بموجب المادة 50 من لوائح لاهاي، المادة 33. من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة 75(2)(د) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، وجميعها إسرائيل طرف فيها، أو يُعترف بأنها تُشكل جزءًا من القانون الدولي العرفي.
كما لوحظ أن هذه الممارسة تتعارض مع حظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة. يستند القرار النهائي لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية، الذي صدر بأغلبية الأصوات، إلى إنكار صارخ لأحكام القانون الدولي: ومن المفارقات أن القاضية “إستر هايوت” جادلت بأن “الاحتفاظ بالجثث ينطوي على انتهاك لحقوق الإنسان وكرامة المتوفى وعائلته”، بينما جادلت أيضاً بشكل غير مقنع إلى حد ما بأن “القانون الإنساني الدولي أو القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان الدولية لا تتضمن حظراً على حجب إعادة الجثث أثناء النزاع المسلح”. وعلى الرغم من اعتراف البعض بالانتهاك الواضح للقانون الدولي، إلا أن القاضي “باراك إيريز” من الأقلية أقام “تمييزاً غريباً وغير مبرر بين جثث الإرهابيين من غزة، والتي يسمح القانون الدولي لإسرائيل بالاحتفاظ بها، وجثث الإرهابيين من الضفة الغربية أو المواطنين أو المقيمين الإسرائيليين”.
لذلك يبدو أن المحكمة غير معنية عمداً بالتزامات إسرائيل باحترام الموتى بموجب اتفاقيات لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، بالإضافة إلى القانون الدولي الإنساني العرفي وأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة، فيما يتعلق بالسكان الفلسطينيين.
شرعنة الانتهاكات الإنسانية
وفي عام 2024 أقر الكنيست الإسرائيلي مشروع قانون يمنع إعادة جثامين الفلسطينيين إلى عائلاتهم. حيث يهدف القانون إلى دفن الفلسطينيين المتهمين بهجمات في مقابر تسيطر عليها إسرائيل. ويُلزم القانون بدفنهم في “مقبرة ضحايا العدو” أو “مقبرة الأرقام” الإسرائيلية. جاء هذا التشريع في خضمّ موجة من الإجراءات التي تستهدف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل حدود إسرائيل عام 1948، في ظلّ حكومة تُهيمن عليها أحزاب اليمين المتطرف. ينص التشريع على أن “الأفراد الذين يموتون أثناء تنفيذ هجمات يُدفنون في مقابر مخصصة للعدو داخل إسرائيل”. ويمنح رئيس الوزراء سلطة تقديرية لتسليم الجثمان لعائلة المتوفى في ظروف استثنائية. ويبرر القانون نفسه بالادعاء بأن “جنازات الإرهابيين (في إشارة إلى منفذي العمليات) تُستخدم للتعبير عن دعم الإرهاب، حيث شهدت العديد من الحالات لافتات وهتافات وخطابات تحرض على المزيد من الأعمال الإرهابية”. إن مقبرة ضحايا العدو هي مقبرة تابعة للجيش الإسرائيلي، مخصصة لدفن جثث الأفراد المشاركين في العمليات المسلحة وجنود جيوش العدو. تضم المقبرة مئات الجثث لفلسطينيين ومصريين وعرب آخرين قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي على مدى عقود، ولم تُكشف رفاتهم عن عائلاتهم لأسباب سياسية. تُرقم القبور بدلاً من أسماء المدفونين، بينما تحتفظ إسرائيل بمعلومات عن هوياتهم، وفقًا لمصادر حقوقية.
مقابر الأرقام
ما يُسمى “مقابر الأرقام” هي قبور بلا شواهد، مُحاطة بحجارة، يحمل كل منها لوحة معدنية تحمل رقمًا بدلًا من اسم المتوفى. تتوافق هذه الأرقام مع ملفات فردية تحتفظ بها سلطات الأمن الإسرائيلية.
إن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية هم أسرى حرب، مما يستلزم الإفراج الفوري عن جثثهم. وفي هذا الصدد، تؤكد المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في زمن الحرب، على أن “على السلطات الحاجزة ضمان دفن أسرى الحرب الذين قضوا في الأسر باحترام، وإذا أمكن وفقًا لشعائر دينهم، وأن تُحترم قبورهم وتُصان وتُعلّم بشكل مناسب بحيث يسهل العثور عليها في أي وقت”. وفي السياق نفسه، تعتبر لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب احتجاز الشهداء شكلاً من أشكال التعذيب والمعاملة القاسية. كما ينبغي اعتباره شكلاً من أشكال العقاب الجماعي. وناقش عادل التدابير الدولية التي يمكن اتخاذها بشأن هذه القضية، مثل تقديم طلبات امتثال فردية إلى لجنة مناهضة التعذيب، والمحكمة الجنائية الدولية، ومن خلال الولاية القضائية العالمية، بالإضافة إلى السعي إلى إصدار قرار في مجلس الأمن، حيث سيكون من المقلق أن تستخدم الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى حقها في عرقلة قرار يطالب بإعادة جثامين الشهداء، والضغط من أجل التحقيق في مزاعم الاتجار بالبشر والسرقة بشكل انتهازي.
لا نهاية لمأساة العائلات الفلسطينية
أسرد لكم ـ على سبيل المثال ـ حكاية الشابين الفلسطينيين يوسف أبو جزر، وإسحاق إشتيوي، يبلغ كل منهما خمسة عشر عاماً واللذان صادرت القوات الإسرائيلية جثمانهما.
عائلة أبو جزر
في 29 أبريل/نيسان 2018، انطلق “يوسف أبو جزر” و”أنيس الشاعر” البالغان من العمر 15 عامًا، نحو السياج الحدودي الفاصل بين غزة وإسرائيل، الواقع شرق حي النهضة في رفح، جنوب قطاع غزة. على أمل زيارة عمته التي تسكن على الجانب الآخر من السياج الحدودي داخل إسرائيل، أراد يوسف التسلل عبر السياج، وفقًا لأنيس.
يُعدّ السياج الإسرائيلي المُجهّز بالأسلحة المحيط بقطاع غزة الحاجز الرئيسي الذي تستخدمه القوات الإسرائيلية لفرض إغلاق عسكري على القطاع منذ عام 2007. تُعتبر سياسة الإغلاق الإسرائيلية بمثابة عقاب جماعي بموجب القانون الإنساني الدولي. في حين تحتل إسرائيل قطاع غزة لأنها تُحافظ على “سيطرتها الفعلية” على حدوده، وساحله، ومجاله الجوي، واقتصاده، واتصالاته، وإمدادات الطاقة فيه، وشبكات المياه والصرف الصحي؛ تتجاهل السلطات الإسرائيلية بشكل روتيني التزاماتها بموجب القانون الدولي تجاه السكان الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال.
ومن المعلوم يعيش ما يقرب من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وبسبب سياسة الإغلاق الإسرائيلية، نادراً ما يتمكنون من المغادرة إلا في حالات استثنائية، مثل حصول الفرد على إحالة طبية غير متوقعة لتلقي العلاج الطبي في مستشفى إسرائيلي.
بدأ جنود الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق النار على يوسف لحظة عبوره السياج، وفقاً للمعلومات التي جمعتها الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال. قال أنيس: “كنت مختبئًا على مسافة قريبة، وكنت مرعوباً. عرفت أن يوسف مصاب برصاصة في ساقه لأنني سمعته يصرخ. كان صراخه وصوت إطلاق النار والقنابل المضيئة مرعبين”.
أخبر أبو جزر الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال أنه كان يعلم أن ابنه يوسف كان مع أصدقائه في 29 أبريل/نيسان، وعلم لاحقاً في اليوم نفسه أنهم على الأرجح بالقرب من السياج الحدودي مع غزة. احتجزت القوات الإسرائيلية أنيس، لذلك لم يتمكن من إبلاغ عائلة يوسف بما حدث.
وبحثت عائلة يوسف عن أي أخبار عن ابنها، لكنها لم تعرف ما إذا كان ميتاً أم حياً. بدأوا بالتواصل مع وكالات الأنباء والمسؤولين الحكوميين ومنظمي مسيرات العودة الكبرى، وطلبوا من أقاربهم المقيمين في إسرائيل الاستفسار عن مكان يوسف وحالته في المستشفيات الإسرائيلية.
يقول ياسر، والد يوسف، للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، متذكراً تلك الليلة الأولى التي لم يعد فيها يوسف إلى المنزل: “لقد كانت ليلة صعبة لن أنساها طوال حياتي. لم تكن هناك أي أخبار عن يوسف. كانت تلك الليلة طويلة جداً. كنت مستيقظاً طوال الوقت، في انتظار أي أخبار عنه”. يضيف والد يوسف “أتخيل يوسف واقفًا أمامي يومياً. لا أستطيع نسيانه. لو دفناه، لانتهى الأمر، ولكن مصيره مجهول، إنه لأمر مؤلم، ولكنه يمنحنا أيضاً الأمل بأنه لا يزال على قيد الحياة”.
لا يزال أبو جزر للآن ينتظر من السلطات الإسرائيلية إعادة رفات ابنه، عقب حادثة عام 2018 التي أطلقت فيها القوات الإسرائيلية النار على يوسف أبو جزر، البالغ من العمر آنذاك خمسة عشر عاماً، مما أدى إلى مقتله. عائلة أبو جزر هي واحدة من عدة عائلات فلسطينية اضطرت، وسط حزنها، إلى النضال من أجل حقها في توديع ودفن طفلها.
عائلة إشتيوي
أدى انكماش الموارد في قطاع غزة المحاصر إلى أزمة بطالة، حيث تكافح العديد من العائلات لتلبية احتياجاتها اليومية. في عام 2019، أفاد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن معدل البطالة في قطاع غزة بلغ 45.1%، وهو ما يزيد عن ثلاثة أضعاف معدل البطالة في الضفة الغربية البالغ 13.7%.
حاول الطفل الفلسطيني “إسحاق إشتيوي” البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، واثنان من أصدقائه التسلل عبر سياج غزة الحدودي مع إسرائيل، شرق رفح، بحثاً عن عمل داخل إسرائيل في 3 مارس/آذار 2019. حوالي الساعة الثامنة مساءً، أطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار على إسحاق، فأصابوه في ذراعه اليمنى وبطنه، وفقاً لمعلومات جمعتها الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال.
وكانت وكالات الأنباء قد نشرت تقارير عن مقتل ثلاثة فلسطينيين مجهولين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد أن عبروا السياج الحدودي. تواصلت عائلة إسحاق مع العديد من منظمات حقوق الإنسان واللجنة الدولية للصليب الأحمر في محاولة للحصول على أي معلومات عن ابنهم. بعد أربعة أيام، وبعد اتصالهم بأحد أقاربهم العاملين في مكتب الارتباط المدني الفلسطيني، تلقى والدا إسحاق تأكيداً بمقتل ابنهما. لم يتلقيا أي معلومات إضافية، مثل وقت وفاته، أو ما إذا كانا سيستلمان جثته ومتى.
بعد وفاة إسحاق بفترة وجيزة، قدّم والده “عبد المعطي إشتيوي” بمساعدة مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، التماساً إلى النيابة العسكرية الإسرائيلية مطالباً بالإفراج عن رفات ابنه. بعد أربعة أشهر، في يوليو/تموز 2019، أُبلغ إشتيوي بإمكانية استلام جثمان ابنه من معبر إيرز الإسرائيلي. وأُبلغ بأنه سيُزوَّد بتقرير طبي مكتوب باللغة العبرية.
قال إشتيوي للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال: “كان كتلة من الثلج”، متذكرًا لحظة رؤيته جثة ابنه البالغ من العمر 15 عاماً هامدة. “كان في كيس أسود بسحاب، وغطاه 15 سم (6 بوصات) من الثلج. عندما انحنيت لأقبله، شعرت وكأنني أقبل كتلة من الثلج”.
حتى في الموت يُحرم الفلسطينيون من حقوقهم
تطبق السلطات الإسرائيلية سياسة احتجاز جثث الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. في عام 2019، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن للجيش الحق القانوني في احتجاز جثث الفلسطينيين لاستخدامها كوسيلة ضغط في المفاوضات المستقبلية مع الفلسطينيين، وفقاً لمركز عدالة. يُرسّخ هذا القرار تعديل الكنيست الإسرائيلي لعام 2018 لقانون مكافحة الإرهاب رقم 5776، والذي يمنح الشرطة الإسرائيلية سلطة احتجاز جثث الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد الجيش أو الشرطة الإسرائيلية. ويُلغي القرار حكماً تاريخياً أصدرته المحكمة العليا عام 2017، والذي اعترف بحق العائلات في الدفن، مُشيراً إلى أن وقف إعادة الجثث يُهدد بانتهاك عدد من الحقوق، وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية.
يُخول تعديل قانون مكافحة الإرهاب الإسرائيلي لعام 2018 قادة المناطق في الشرطة الوطنية الإسرائيلية بوضع شروطٍ للإفراج عن جثث الفلسطينيين المحتجزة، بما في ذلك وضع قيود على حجم الجثث وموقعها وتوقيتها وعدد الحضور في مراسم الدفن، ويمكن احتجاز الجثمان حتى توافق العائلة على الشروط. كما قد يُطلب من العائلات إيداع مبلغ مالي لدى السلطات الإسرائيلية كضمانٍ لاستيفاء العائلة لأي شروط.
يمكن للسلطات الإسرائيلية أن تطلب من العائلات استلام الجثمان المحتجز فقط في الصباح الباكر أو في وقتٍ متأخر من الليل. وتشمل الإجراءات “الاحترازية” التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية تقييد عدد الأشخاص الحاضرين في مراسم الدفن، في محاولةٍ مزعومة للحد من الاحتجاجات المحتملة التي قد تنشأ عن الفلسطينيين عقب الجنازة.
من أخطر الشروط التي فرضتها السلطات الإسرائيلية عدم تشريح رفات الضحايا. وحتى في غياب هذا الشرط، تحتجز السلطات الإسرائيلية جثث الفلسطينيين المصادرة في ظروف شديدة البرودة لأشهر، مما يُسيء إلى حالتهم، ويُصعّب على الفاحصين الطبيين التحقيق في أسباب الوفاة. يُعيق هذا الشرط إجراء تحقيقات قائمة على الأدلة في عمليات القتل غير المشروع والاستخدام المفرط للقوة ضد الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية.
في عام 2019، قدمت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال تقريراً مشتركاً إلى لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن احتجاجات عام 2018 في الأرض الفلسطينية المحتلة، يُفصّل فيه قتل القوات الإسرائيلية للأطفال الفلسطينيين خلال احتجاجات عام 2018 في قطاع غزة، وهو سلوكٌ ارتقى في بعض الحوادث إلى جرائم حرب. وخلص التقرير إلى أنه في الغالبية العظمى من الحالات، قتلت القوات الإسرائيلية أطفالاً لم يُشكّلوا أي تهديد وشيك بالموت أو الإصابة.
جرائم ضد الإنسانية عن سابق تصميم
بالنسبة للعائلات الفلسطينية المقيمة في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، تُفرض عليها شروطٌ إداريةٌ لا قضائية. هذا يعني أنه لا يوجد سبيلٌ حقيقيٌّ للطعن في الشروط المفروضة على إطلاق سراح أحبائهم. علاوةً على ذلك، تراجعت السلطات الإسرائيلية أحياناً عن الاتفاقات المبرمة مع العائلات لتسليم جثمان أحد أحبائها، وفقًا لمركز عدالة.
منذ عام 2018 وثّقت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال خمس حالات صادرت فيها السلطات الإسرائيلية جثث أطفال واحتجزتها عن عائلاتهم. في حالتين، أُفرج عن الرفات البشرية في نهاية المطاف، ولكن في الحالات الثلاث الأخرى، لا تزال الجثث في عهدة إسرائيل، محجوبة عن العائلات.
قُتل يوسف وإسحاق أثناء محاولتهما الهروب من منزليهما المحاصرين في قطاع غزة. في الموت، كما في الحياة، حُرموا من الكرامة الأساسية وحقوق الإنسان الأساسية التي يستحقها جميع الأشخاص بموجب القانون الدولي.
بالنسبة للعائلات الثكلى، تُعتبر السياسة الإسرائيلية المتمثلة في مصادرة واحتجاز جثامين الفلسطينيين بمثابة عقابٍ جماعي. إنها سياسةٌ تمييزيةٌ وضارةٌ للغاية تُفرض على الفلسطينيين، ولا تنتهك حقوق العائلات في دفن رفات أحبائها فحسب، بل تنتهك أيضاً الحقوق الشرعية والدينية للمتوفى في دفنهم وفقاً لطقوسهم الثقافية والدينية.
لقد أصبح الموت ساحة أخرى للصراع والقهر ومحاولة السيطرة، تستخدمه إسرائيل وسيلةً للضغط، والعقاب، والمساومة، فيما يبدو أن موت الفلسطينيين ليس نهاية الاضطهاد في العقلية والعقيدة الإسرائيلية. من أبسط حقوق الفلسطيني أن يدفن كاملاً بعد استشهاده غير منقوص في الأرض، وأن يوضع شاهد على قبره، يُكتب عليها اسمه وتاريخ ميلاده، وتاريخ وفاته. ويُكتب عليها أيضاً أنه ابن هذه الأرض منها خُلق وإليها يعود. وأنه ينتمي لهذا الوطن الذبيح. والأهم أن يكون قبره في مقبرة حقيقية، ليس في قبر جماعي، ولا في شارع، ولا على الرصيف، ولا في ثلاجة، ولا في مقابر الأرقام.