«نادرًا ما تقرأ مقالًا جيدًا عن كاتبٍ توفي للتوّ، بل لعلّ بين أسوأ ما يمكن أن تقرأه هي تلك المقالات التي تُكتب على عجل بعد وفاة أي كاتب»! هكذا دوّن الشاعر السوري حسين بن حمزة على صفحته في فيسبوك، تعليقًا - على ما يبدو - على المقالات السريعة التي انهالت على فيسبوك في تأبين الروائي اللبناني إلياس خوري الذي رحل عن عالمنا يوم الأحد 15 سبتمبر 2024م.
لا تُستثنى من هذا التعاطي المكرور مع وفيات الكتّاب الصفحات الثقافية في الصحف ووكالات الأنباء، ففي الغالب ستختار أشهر عمل للكاتب المتوفَى وستتلاعب بكلمات عنوانه، لتصنع منها البنط العريض لخبر وفاته، وهذه أمثلة:
- «إلياس خوري يغادر الدنيا تاركًا «باب الشمس» مفتوحًا»، (موقع BBC والإشارة هنا إلى رواية «باب الشمس»، أشهر أعمال خوري).
- «إسماعيل كاداريه عاد إلى «قصر الأحلام». (صحيفة الأخبار اللبنانية تعليقًا على وفاة كاداريه في 1 يوليو 2024م، و «قصر الأحلام» هي إحدى رواياته الشهيرة)
- بهاء طاهر يُطفئ شمعته الأخيرة بواحة الغروب (عكاظ السعودية مُعنوِنةً خبر وفاة الروائي المصري المعروف في 27 أكتوبر 2022م، و «واحة الغروب» هي روايته الفائزة بالبوكر).
- المخرج المسرحي هاني مطاوع يسافر وحده (موقع «البوابة نيوز» معلنًا وفاة المخرج المصري المعروف في 28 أغسطس 2015، والإشارة إلى مسرحيته «يا مسافر وحدك»)
- محمد الحارثي يودع القصيدة التي ودّ كتابتَها. (الوطن العُمانية في اليوم التالي لرحيل الشاعر العُماني محمد الحارثي في 27 مايو 2018م، والإشارة إلى عنوان كتابٍ عن الحارثي تتصدره صورته هو «حياتي قصيدة وددتُ لو أكتبها»).
- رشاد أبو شاور «وداعًا يا ذكرين» (منصة فلسطين الثقافية في خبرها عن وفاة الروائي والقاص الفلسطيني رشاد أبو شاور في 28 سبتمبر 2024، و «وداعًا يا ذكرين» هو عنوان إحدى رواياته).
ويستطيع المرء أن يقيس على هذا عشرات التأبينات التي كُتبتْ وتكتب يوميًّا في وداع الكتاب والأدباء والفنانين، وهؤلاء - أي الفنانون - يُستعاض عن عناوين الكتب في تأبينهم بعناوين أعمالهم الفنية كما رأينا في حالة هاني مطاوع. إنه الكلام الجاهزّ المعبأ في قناني، والمحفوظ في الثلاجة، وكل ما يفعله هؤلاء المؤبِّنون هو فتح هذه الثلاجة وتناول «قنينة كلام» كلما دعت الحاجة، ولذا فإنني لم أستغرب تعليق الشاعرة والتشكيلية السورية بسمة شيخو على تدوينة حسين بن حمزة: « أعرف من يحضّر مقالات رثاء عن الكتّاب أثناء مرضهم، ليكون سبّاقًا في النشر»!
وفي الواقع، أستطيع أن أضيف إلى ملاحظة الشاعرة السورية أن هناك من يُجهّز صورته مع الكاتب المريض، ليضعها على صفحته في فيسبوك أو «إكس» بمجرد أن يُعلَنَ خبر الوفاة، مع تعليق: «وداعًا فلان الفلاني». وقد عرفتُ شخصيًّا كاتبًا على هذه الشاكلة، اشتهر بأنه يضع في صفحته صورتَه مع الكاتب الراحل بعد دقائق فقط من رحيله مصحوبة بعبارة «وداعا فلان»، بل إنه أحيانًا لا ينتظِر الوفاة فيزور الكُتّاب المرضى في المستشفى، ويلتقط معهم الصور التي لا بُدَّ أن يبدو هو فيها مبتسمًا، فيما تظهر على هؤلاء المساكين علامات الضعف والوهن، وأحيانًا الاحتضار. وبمجرد مغادرة المستشفى يضع الصورة في صفحتيه على فيسبوك و «إكس» مع عبارة «زرنا الكاتب الفلاني واطمأننّا على صحته»!
في أحيانٍ نادرة، يكون التأبين المكتوب متوازِنًا؛ يترحم المؤبِّن على الكاتب الميت، ويذكر مناقبه وفضائله، ولكنه لا يغضّ الطرف عن عيوبه، يسرد بعضًا من حكاياته الشخصية معه التي لا تُظهره ملاكًا بالضرورة، فتكون النتيجة أن يتلقى هذا المؤبِّنُ سيلًا من التقريع والتوبيخ، لأنه لم يكتفِ بذكر محاسن ميِّتِه كما تأمره المقولة المأثورة. يحضرني في هذا السياق تدوينة فيسبوكية كتبها روائي عربي في تأبين روائي عربي آخر، ابتدأها بإطرائه لأنه كان «مثقفًا لم يهادن في كتابته أية سلطة، [..] وبقي وفيًا للكلمة الحرة والنقية»، ثم ما لبث أن عبّر عن رأيه فيه: «شخصيته - بالنسبة لي- لا تطاق، على الأقل في أول معرفتي به، وجدته صاخبًا قليل التهذيب وعُدوانيًّا»، لينطلق بعدها في سرد بعض حكاياته معه، ثم يُبدي رأيه في كتبه، ما أعجبه منها وما لم يعجبه. في الحقيقة، أُعجبتُ شخصيًّا بهذا التأبين، لأنه لم يكن مجرد مديح مستهلَك تفرضه مناسبة الموت، ومع ذلك توقعتُ أن كاتبه لن يُترَك دون تقريع، لأنه تجرأ على نقد ميتٍ لم تمضِ إلا ساعات على موته. وهذا ما حصل بالفعل فقد كتب روائي عربي آخر منشورًا في صفحته يقول فيه: « كنت أطالع ما كتبه كاتب عربي عن [..] بمناسبة رحيله، وصحيح أن الكتاب لا يتسامحون مع بعضهم البعض، وكل واحد ينظر لنفسه على أنه ذرة رفيعة، ونجمة فريدة، وبالتالي صعب أن تكون بينهم صلات حقيقية إلا في حالات نادرة، [..] وما أريد قوله إنه يمكن تجاوز كل هذا بعد الوفاة، فما الفائدة أن نتذكر الشخص بمساوئه».
هناك نوع آخر من «الكليشيهات» المصاحِبة لوفاة الكاتب ينبغي الإشارة إليه، ولكن لضيق المساحة سأؤجل هذا الأمر إلى مقال الأسبوع القادم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل نقول وداعًا للتغييريين؟
بشكل واضح جدًا أثبتت المعادلات العائلية والحزبية أنّ وضع التغييريين في لبنان الذين أنتجتهم ثورة 17 تشرين ما زال هشّا، إذ لا قدرة لهم بعد على التأثير على القرارات العائلية المتشبثة بالمعادلات السياسية التاريخية، ولعل ما حصل في الانتخابات البلدية خير دليل على ذلك، إذ نسفت صناديق الاقتراع وجود التغييريين في المناطق التي استطاعوا أن يحققوا فيها خروقات خلال الانتخابات النيابية."لبنان24" تواصل مع عدد من الماكينات الانتخابية، خاصة في المناطق التي شهدت سقوطا تاريخيت لأسماء سياسية في الانتخابات البلدية. وحسب الفرق التي شاركت في إدارة الانتخابات، فقد أبدوا صدمتهم من النتائج التي لم تكن متوقعة، على الاقل في المدن الكبيرة، إذ يعتبر هؤلاء أن ثقل تواجدهم يتجلى في المدن الضخمة، إحدى الماكينات، اعترفت لـ"لبنان24" بأن العمل البلدي كشف نقاط ضعف لم تكن واضحة في الانتخابات النيابية، أبرزها ضعف الامتداد الشعبي خارج المدن الكبرى، وعدم الجهوزية التنظيمية لخوض معارك محلية معقدة، تحتاج إلى خطاب خدماتي عملي لا إلى شعارات عامة.
لكن هذا ليس كل شيء. فبحسب المصادر نفسها، فإن التمويل المحدود، وانعدام الموارد اللوجستية، وانكفاء عدد من الناشطين البارزين عن المشاركة لأسباب شخصية أو بسبب الإحباط العام، كلها عوامل ساهمت في هذا التراجع. يُضاف إلى ذلك غياب قيادة موحّدة أو مرجعية سياسية جامعة تُنسّق الجهود وتُوحّد الخطاب، ما أدى إلى تفكك المبادرات وضعف حضورها على الأرض.
ومن الأسباب أيضًا، الضغوط الاجتماعية والمذهبية في بعض القرى، حيث يُعتبر الترشح خارج لوائح القوى التقليدية "تمرّدًا" يُكلف صاحبه أثمانًا عائلية ومهنية باهظة. هذا فضلًا عن أن بعض المجموعات التغييرية لم تنجح في تقديم شخصيات محلّية ذات صدقية تمثيلية في بيئتها، ما أضعف قدرتها على جذب الناخبين الذين يبحثون عن الوجوه القريبة منهم، لا عن شعارات مستوردة.
في هذا السياق، ترى المصادر أن عدم تمكن التغييريين من خرق العائلات أو اللوائح الحزبية لا يعني أبدًا انتهاء دورهم، لا بل ستكون محطة يسدون من خلالها الفجوات، علمًا أنّ هنّاك معارك طاحنة خاضتها أحزاب تقليدية داخل العائلة الواحدة بوجه قوى التغيير ومرشحيهم. المصدر: خاص لبنان24 مواضيع ذات صلة بالفيديو: نهاد الشامي.. وداعًا Lebanon 24 بالفيديو: نهاد الشامي.. وداعًا