لجريدة عمان:
2025-10-15@19:12:59 GMT

الكاتب و«كليشيهات» الموت

تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT

«نادرًا ما تقرأ مقالًا جيدًا عن كاتبٍ توفي للتوّ، بل لعلّ بين أسوأ ما يمكن أن تقرأه هي تلك المقالات التي تُكتب على عجل بعد وفاة أي كاتب»! هكذا دوّن الشاعر السوري حسين بن حمزة على صفحته في فيسبوك، تعليقًا - على ما يبدو - على المقالات السريعة التي انهالت على فيسبوك في تأبين الروائي اللبناني إلياس خوري الذي رحل عن عالمنا يوم الأحد 15 سبتمبر 2024م.

وفي الحقيقة، فإن بن حمزة وصَّفَ بدقة واقع الوسط الثقافي العربي، سواء كُتّابه، أو صحفه ومؤسساته الثقافية، فما إن تُعلَن وفاة هذا الكاتب أو ذاك حتى تنهال «الكليشيهات» التأبينية ممن يعرفه، وممن لم يقرأ له حرفًا واحدا: «لروحك السلام»، «رحل جسدك لكن كلماتك باقية»، «خسرنا قامة أدبية كبيرة»، «ستظل في قلوبنا»، وعشرات العبارات المكرورة التي لو سمعها الكاتب الميت لخرج من قبره وأطلق في وجوهنا الصرخة الشهيرة للروائي الفرنسي بلزاك: «كلمة مدح واحدة في حياتي، أحبّ إليّ من ألف كلمة بعد موتي».

لا تُستثنى من هذا التعاطي المكرور مع وفيات الكتّاب الصفحات الثقافية في الصحف ووكالات الأنباء، ففي الغالب ستختار أشهر عمل للكاتب المتوفَى وستتلاعب بكلمات عنوانه، لتصنع منها البنط العريض لخبر وفاته، وهذه أمثلة:

- «إلياس خوري يغادر الدنيا تاركًا «باب الشمس» مفتوحًا»، (موقع BBC والإشارة هنا إلى رواية «باب الشمس»، أشهر أعمال خوري).

- «إسماعيل كاداريه عاد إلى «قصر الأحلام». (صحيفة الأخبار اللبنانية تعليقًا على وفاة كاداريه في 1 يوليو 2024م، و «قصر الأحلام» هي إحدى رواياته الشهيرة)

- بهاء طاهر يُطفئ شمعته الأخيرة بواحة الغروب (عكاظ السعودية مُعنوِنةً خبر وفاة الروائي المصري المعروف في 27 أكتوبر 2022م، و «واحة الغروب» هي روايته الفائزة بالبوكر).

- المخرج المسرحي هاني مطاوع يسافر وحده (موقع «البوابة نيوز» معلنًا وفاة المخرج المصري المعروف في 28 أغسطس 2015، والإشارة إلى مسرحيته «يا مسافر وحدك»)

- محمد الحارثي يودع القصيدة التي ودّ كتابتَها. (الوطن العُمانية في اليوم التالي لرحيل الشاعر العُماني محمد الحارثي في 27 مايو 2018م، والإشارة إلى عنوان كتابٍ عن الحارثي تتصدره صورته هو «حياتي قصيدة وددتُ لو أكتبها»).

- رشاد أبو شاور «وداعًا يا ذكرين» (منصة فلسطين الثقافية في خبرها عن وفاة الروائي والقاص الفلسطيني رشاد أبو شاور في 28 سبتمبر 2024، و «وداعًا يا ذكرين» هو عنوان إحدى رواياته).

ويستطيع المرء أن يقيس على هذا عشرات التأبينات التي كُتبتْ وتكتب يوميًّا في وداع الكتاب والأدباء والفنانين، وهؤلاء - أي الفنانون - يُستعاض عن عناوين الكتب في تأبينهم بعناوين أعمالهم الفنية كما رأينا في حالة هاني مطاوع. إنه الكلام الجاهزّ المعبأ في قناني، والمحفوظ في الثلاجة، وكل ما يفعله هؤلاء المؤبِّنون هو فتح هذه الثلاجة وتناول «قنينة كلام» كلما دعت الحاجة، ولذا فإنني لم أستغرب تعليق الشاعرة والتشكيلية السورية بسمة شيخو على تدوينة حسين بن حمزة: « أعرف من يحضّر مقالات رثاء عن الكتّاب أثناء مرضهم، ليكون سبّاقًا في النشر»!

وفي الواقع، أستطيع أن أضيف إلى ملاحظة الشاعرة السورية أن هناك من يُجهّز صورته مع الكاتب المريض، ليضعها على صفحته في فيسبوك أو «إكس» بمجرد أن يُعلَنَ خبر الوفاة، مع تعليق: «وداعًا فلان الفلاني». وقد عرفتُ شخصيًّا كاتبًا على هذه الشاكلة، اشتهر بأنه يضع في صفحته صورتَه مع الكاتب الراحل بعد دقائق فقط من رحيله مصحوبة بعبارة «وداعا فلان»، بل إنه أحيانًا لا ينتظِر الوفاة فيزور الكُتّاب المرضى في المستشفى، ويلتقط معهم الصور التي لا بُدَّ أن يبدو هو فيها مبتسمًا، فيما تظهر على هؤلاء المساكين علامات الضعف والوهن، وأحيانًا الاحتضار. وبمجرد مغادرة المستشفى يضع الصورة في صفحتيه على فيسبوك و «إكس» مع عبارة «زرنا الكاتب الفلاني واطمأننّا على صحته»!

في أحيانٍ نادرة، يكون التأبين المكتوب متوازِنًا؛ يترحم المؤبِّن على الكاتب الميت، ويذكر مناقبه وفضائله، ولكنه لا يغضّ الطرف عن عيوبه، يسرد بعضًا من حكاياته الشخصية معه التي لا تُظهره ملاكًا بالضرورة، فتكون النتيجة أن يتلقى هذا المؤبِّنُ سيلًا من التقريع والتوبيخ، لأنه لم يكتفِ بذكر محاسن ميِّتِه كما تأمره المقولة المأثورة. يحضرني في هذا السياق تدوينة فيسبوكية كتبها روائي عربي في تأبين روائي عربي آخر، ابتدأها بإطرائه لأنه كان «مثقفًا لم يهادن في كتابته أية سلطة، [..] وبقي وفيًا للكلمة الحرة والنقية»، ثم ما لبث أن عبّر عن رأيه فيه: «شخصيته - بالنسبة لي- لا تطاق، على الأقل في أول معرفتي به، وجدته صاخبًا قليل التهذيب وعُدوانيًّا»، لينطلق بعدها في سرد بعض حكاياته معه، ثم يُبدي رأيه في كتبه، ما أعجبه منها وما لم يعجبه. في الحقيقة، أُعجبتُ شخصيًّا بهذا التأبين، لأنه لم يكن مجرد مديح مستهلَك تفرضه مناسبة الموت، ومع ذلك توقعتُ أن كاتبه لن يُترَك دون تقريع، لأنه تجرأ على نقد ميتٍ لم تمضِ إلا ساعات على موته. وهذا ما حصل بالفعل فقد كتب روائي عربي آخر منشورًا في صفحته يقول فيه: « كنت أطالع ما كتبه كاتب عربي عن [..] بمناسبة رحيله، وصحيح أن الكتاب لا يتسامحون مع بعضهم البعض، وكل واحد ينظر لنفسه على أنه ذرة رفيعة، ونجمة فريدة، وبالتالي صعب أن تكون بينهم صلات حقيقية إلا في حالات نادرة، [..] وما أريد قوله إنه يمكن تجاوز كل هذا بعد الوفاة، فما الفائدة أن نتذكر الشخص بمساوئه».

هناك نوع آخر من «الكليشيهات» المصاحِبة لوفاة الكاتب ينبغي الإشارة إليه، ولكن لضيق المساحة سأؤجل هذا الأمر إلى مقال الأسبوع القادم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کاتب ا وداع ا

إقرأ أيضاً:

الرحيل من ركام الي ركام

شهد العالم بالأمس موكبًا لا يشبه سواه؛ موكبًا من الألم والدموع، مسيرةً لنازحين يرحلون من ركام إلى ركام ، لا يحملون سوى ما تبقى من ذاكرة وحقّ في البقاء. رجال ونساء وأطفال عادوا إلى بيوتٍ لم تعد موجودة، إلى أحلامٍ دفنت تحت الأنقاض، يسيرون حفاةً وقد أثقلهم الجوع والتعب، بينما تتشبث أيديهم بمفاتيح منازل تحوّلت إلى غبار ورماد. تلك المفاتيح لم تعد تفتح أبوابًا؛ بل تفتح جراحًا وتعيد إلى القلوب نغزات الانتماء المفقود. رأيت بينهم من يحمل قدرًا صدئًا، أو وعاءً خاليًا جافا أو قطعة من خشب كانت ذات يوم بابًا، وآخرين يحملون أطفالهم أو آباءهم على الأكتاف. مشهد يقطّع القلب ويختصر المأساة الإنسانية في زمن يفاخر بتقدّمه، بينما يترك الإنسان بلا مأوى ولا كرامة. ومع ذلك، كان كثيرون منهم يرفعون أصابعهم بعلامة النصر، وكأنهم يقولون للعالم: إن العودة إلى الرماد أفضل من الغياب، وإن البقاء على تراب الوطن- ولو مدمّرًا- هو أسمى أشكال الصمود. المأساة لم تكن في الخراب وحده؛ بل في صمت العالم الذي اكتفى بالمشاهدة. الكاميرات سجّلت، والبيانات صدرت، والضمائر غابت. قيلت عبارات “القلق العميق” التي فقدت معناها، فيما مصانع السلاح تواصل إنتاج أدوات الموت. والمجرمون يتحدثون عن السلام، بينما يبنون مجدهم على جثث الأبرياء. مفارقة تكشف زيف الحضارة الحديثة التي وصلت إلى الفضاء، لكنها عجزت عن حماية الإنسان على الأرض. الهجرة من الركام إلى الركام، ليست فقط مأساة بشرية؛ بل مرآة قاسية لحال هذا الكوكب. إنها صرخة في وجه عالمٍ نسي إنسانيته، واحتفى بالقوة على حساب الرحمة. ومع ذلك تظل في هذه المسيرة لمحة أملٍ صغيرة.. امرأة تبتسم لطفلها رغم الجوع .رجل يضع مفتاحه في الهواء حيث كان بابه ذات يوم. طفل يزرع زهرة بجوار حفرة؛ لأنه يؤمن أن الحياة يمكن أن تولد من الموت. هؤلاء الذين يسيرون حفاة وشبه عراة، في طرقٍ من الغبار يحملون في وجوههم آخر ملامح الإنسانية. إنهم الشاهد الأخير على أن الإنسان؛ مهما تهشّم، يظل قادرًا على النهوض وأن في كل رمادٍ بذرة حياة تنتظر من يسقيها بالدمع والأمل . تلك المسيرة ليست مجرد رحلة بائسة بل شهادة على أن الروح البشرية رغم كل الخراب، لا تزال تقول للعالم: ما زلت هنا ولن أرحل.

مقالات مشابهة

  • الحاج عبد الرحيم البلوشي.. وداعًا
  • جون أشقر أول عربي يقدم ستاند أب على مسرح الأوليمبيا بباريس
  • الكاتب والإعلامي “طلال قستي” يثري المكتبة السعودية بـ”نبض الأيام”
  • غباشي: نزع سلاح حركة حماس كلمة مهينة لأنه لا توجد مقاومة تتخلى عن سلاحها
  • الكاتب بوعلام صنصال المسجون في الجزائر يُنتخب عضوًا في الأكاديمية الملكية البلجيكية
  • في وداع صالح الجعفراوي.. العالم العربي يبكي رحيل جندي الإعلام برصاصات فلسطينية
  • محمد المنصور أول نجم عربي يحتفى به في سوق كان الدولية للتلفزيون 
  • القبض على متهم بحيازة غزال عربي بجنوب الشرقية
  • وداعًا لأسطورة الأحذية الفاخرة.. وفاة المصمم الإيطالي تشيزاري باتشوتي عن 67 عاما
  • الرحيل من ركام الي ركام