«قد تبقى الصورة بعد زوال ما تمثِّله».

- جون برغر Jhon Berger، «طُرُقٌ للرُّوية»-

كان يا ما كان، كما تقول الحكاية للشِّيوخ والوِلدان والأحباب والخلَّان، فـي التَّاريخ الرَّمادي والضَّبابي للأرض والسَّماوات خلال هذا العصر والأوان، فـي بلاد العَرَب «المتخلِّفـين» بطبعهم وزمان الفِرنجة «المتقدِّمين» بطبيعتهم، أن كانت هناك طائرة عسكريَّة أمريكيَّة صغيرة الحجم يُفترَض أن تهبط، وفقًا لخط سيرها الأصلي، فـي مدينة الإسكندريَّة المصريَّة بسلام وأمان.

على متن تلك الطائرة كان هناك طيَّار إنجليزي خبيرٌ مُحَنَّك، إضافة إلى راكبين أمريكيَّين كانا، كما سيتضح فـيما بعد، من عملاء القوَّات الحربيَّة التي تقوم بعملياتها القتاليَّة فـي تلك المنطقة من المعمورة، وذلك فـي سياق خطب كوني جلل هو الحرب العالميَّة الثَّانية. ولسوء الحظ فقد واجهت تلك الطائرة العسكريَّة الأمريكيَّة مشكلة بسبب نفاد الوقود أثناء طيرانها فـي أجواء المنطقة. ولهذا فقد تبادل الطيَّار الإنجليزي والرَّاكبان الأمريكيين -وهما رجل وامرأة يحتسي الأول منهما خمرته من دون أن تظهر عليه أعراض سُكْر- حديثًا حول المأزق الصَّعب الذي وجدوا أنفسهم فـيه فجأة. كان كُنْهُ ذلك الحديث يشي بقلقٍ طبيعيٍّ طفـيف ومفهوم، لكنه وعلى الرَّغم من الظَّرف الحَرِج، رصينٌ وخالٍ من أي أمارة للهلع أو إشارة للجزع.

وفـي نقطةٍ ما من ذلك الحديث، الذي كانت خلاصته ضرورة تنفـيذ هبوط اضطراري، اقترح أحد الرَّاكبين على الطيَّار عدم الهبوط «على أرض العراق اليباب»، مضيفًا بصيغة فعل الأمر الَّلبق والمهذَّب، بعد أن باح بذلك الوجدان الإلْيُتِي (نسبة إلى الشاعر الإنجليزي تي إس أليَتْ T. S. Eliot صاحب قصيدة «الأرض اليباب» المعروفة): «حاوِل العثور (لتنفـيذ الهبوط الاضطراري) على مكان توجد فـيه بعض الحضارة».

لا شك أن عليَّ هنا محاولة تناسي إن العراق كان، فـي الحقيقة، من المهود الأولى «للحضارة» البشريَّة كما فـي مثال اختراع الكتابة والقراءة عبر الثَّقافات التي استوطنت ضفاف النَّهرين، دجلة والفرات، وأن أرض العراق «اليباب» أهدت إلى البشريَّة أول ملحمة عُثِر على بقاياها مكتوبة فـي الألواح، وهي «ملحمة جلجامش». وسأختصر بالقول إن الطَّيار الإنجليزي تدبَّر أمر الهبوط من السَّماء، من فوق، من الأعلى، على «أرضٍ يبابٍ» معيَّنة. وبعد الهبوط الاضطراري بارع التَّنفـيذ، وجد الطيَّار والرَّاكبين الأمريكيَّين اللذين بمعيَّته أنفسهم فـي أرض «عَبَدَة الشَّيطان» (هكذا يقول السَّرد). وهؤلاء القوم -«عَبَدَة الشَّيطان»- هم، فـي الحقيقة، «قبائل عربيَّة جِلفة قاسية تستوطن سفوح التلال التي لا تغادرها إلا للسَّلب والقتل». بهذا نكون قد وصلنا إلى «النِّهاية» ونحن بالكاد قد عرفنا «البداية». بهذا يكون كلّ شيء قد حدث على حين غرَّة.

ومرة أخرى، سأحاول هنا تناسي إنه فـي زمن الهبوط الاضطراري لتلك الطائرة العسكريَّة الأمريكيَّة الصَّغيرة فـي ذلك المكان من العالم العربي لم يكن العراقيُّون من «عَبَدَة الشَّيطان»؛ بل أن العراق، فـي سواده الأعظم، كان يدين بالإسلام بطائفتيه الرئيستين (السُّنيَّة والشِّيعة)، إضافة إلى تموُّجات وتنوعات مذهبيَّة أخرى، وأطياف متنوعة من الدَّيانات اليهوديَّة، والمسيحيَّة، والبهائيَّة، والإيزيديَّة، والمانويَّة، والصَّابئيَّة المندائيَّة، والكاكائيَّة، وغيرها، وذلك فـي خليطٍ، إثنيٍّ، وعرقيٍّ، وديني خصب تشكَّل منذ بدء الحضارة البشريَّة على الضِّفاف النهريَّة هناك، إضافة إلى مجموعات، صغيرة أو كبيرة، من الملاحدة، والشُيوعيِّين، والقومِيِّين، والاشتراكيِّين، والعلمانيِّين، والعقلانيِّين، واللاأدريَّين، وغيرهم.

وخصائص تلك «القبائل العَربيَّة الجِلفة القاسية» (حسب السَّرد الذي أنا بصدده)، والتي كان على الغرباء الغربيِّين، سيئي الحظ الثلاثة – الطَّيار الإنجليزي والرَّاكبين الأمريكيين الذين بمعيته –فإنها توصف- على نحوٍ ميكانيكيٍّ ومعمليِّ الجزم واليقين -- بأنها «لا تثق بالأوروبيِّين كافَّة (هكذا) !، ويمكن أن تكون وقحة، ولا تتحكَّم بغضبها»، ونِعْمَ ذلك من تحذير عَمَليٍّ يقوم بالغرض المُراد بنزاهةٍ، وجرأة، ومعرفةٍ علميَّةٍ موضوعيَّة.

إذًا، ففـي هذا الوضع الذي لا يُحسَد عليه أحد، يُرفع الأذان دعوة للصَّلاة بِعُمْرٍ تتصادى مُدَّته القصيرة، فـي السَّرد الذي أعالجه هنا، مع أصوات تزيد حنجرتها على أربعة عشر قرنًا كاملًا من التَّاريخ، والهويَّة، والدِّراية الفِطرِيَّة والمُكتَسبَة، والإسهام فـي سيرورة الثقَّافة والحضارة البشريَّتين. لكن، ومع ذلك، يُقال لنا فـي ذلك السَّرد، على نحوٍ مُنافٍ للعقل والمعرفة الموضوعيَّة غير المعقَّدة، إن ذلك الأذان ما هو إلا دعوة «للقاء الشَّيطان». وفـي الحقيقة فإن «شيطانيَّة» الأمر كلِّه ستتضح بصورة راسخة وجليَّة فـي ظهور امرأتين عربيَّتين حاسرتين، وإن كان محيَّاهما يبدوان غربيَّين للنَّاظر.

تمشي تينك المرأتين تهاديًا ثَمِلًا فـي نشوةٍ غامرة كما لو إنهما فاقدتي الإرادة، مُنوَّمتين مغناطيسيًّا فـي حالة من حالات الشَّعوذة والسِّحر، ربما لأن الشيطان لا بد أن يكون قد مسَّهما، كما يدفعنا السَّرد إلى التَّخمين الذي لا يحتاج إلى كثير من الذَّكاء. هناك أيضًا قطيعٌ من الذُّكور العرب الذين ينحنون بصورة تَعَبُّديَّة شعائريَّة أمام أفعى حيَّة هي، وفقًا للوثيقة التي أنا بصددها، «صورةٌ للشَّيطان».

هكذا، إذًا، يصير العربُ هنودًا فـي هذا التَّشبيح والمسح الاستشراقي التَّعميمي، كما يُقرَن أحد الأديان التوحيديَّة الثَّلاثة الكبرى، الإسلام، بوفرة الآلهة وطُرق التَّعبُّد ورموزها الثَّقافـيَّة والعقديَّة فـي الهند التي علينا أن نتذكر أنها كانت جزءًا من الإمبراطوريَّة التي لا تغيب عنها الشمس فـي وقت صدور النَّص الذي أتعرَّض له هنا.

وفـي هذا السِّياق السَّردي الشَّيطاني العجيب، والغريب، والمخيف ينبثق الشَّيخ أحمد بصحبة تابعيه من زمرته الموثوقة. لاحظوا معي، هنا، إنه فـي العربيَّة، «أحمد» مرادف اسميٌّ لـ«محمد» (صلى الله عليه وسلم)، الرَّسول المسلم الذي يعلم عنه الجميع فـي أربع جهات الأرض (والحقيقة أن هناك مقولة مُتَداوَلة فـي الثَّقافة الإسلاميَّة تذهب إلى أن «خير الأسماء ما حُمّدَ وعُبِّد). تذكَّروا معي، أيضًا، أن الشَّخصية التي أدَّاها رودولف فالنتينو Rudolph Valentino كان اسمها، أيضًا، «محمد» فـي الفـيلم الأسطوري «الشَّيخ» (من إخراج جورج مِلفورد Georg Melford، الولايات المتحدة الأمريكيَّة، 1921) الذي ولد معه الانحسار الغربي عمومًا، والأمريكي خصوصًا، بشخصيَّة الشَّيخ العربي فـي شتَّى الصُّور، والتجليَّات، والإسقاطات الثقافـيَّة. وقد بني الفـيلم على أصل روائي من «الأفضل مبيعًا» ويحمل ذات العنوان للبريطانيَّة إديث مود هل Edith Maud Hull «».

----------------------------------------

«»: Edith Maud Hull, The Sheik (London: E. Nast and Grayson, 1919).

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة التی

إقرأ أيضاً:

بين مجاعة غزة ونقد الاستبداد.. هشام جعيّط ونشأة العقل العربي الجذري

في زمنٍ تُسفك فيه الكرامة على أرصفة الجوع، وتُدفن الطفولة تحت الركام، وتُحاصر الحياة ذاتها في غزة حتى الاختناق، يصبح الصمت خيانة، والتفكير ترفًا لا يليق بهذا الموت المجاني. أمام مشهد التجويع المُمنهج والإفناء الجماعي، تنكشف أقنعة النظام العالمي وتتداعى شعاراته الحقوقية، كما ينكشف التواطؤ العربي، الرسمي والشعبي، بين لا مبالاة مميتة وعجز متواطئ.

ولكن، ما الذي يجعل كل هذا الرعب ممكنًا؟ ما الذي يمنح أنظمة القتل شرعية الصمت، ويمنح المذبوحين صفة "الضحايا العرضيين"؟ إنها البُنى التي صنعها التاريخ السياسي العربي، حين تماهت السلطة مع القداسة، لا لأن الدين دعا إلى ذلك، بل لأن الحاكم المستبد لبس عباءة الدين زورًا، وحوّل الرسالة التحريرية إلى أداة للهيمنة. لقد جرى تدجين الوعي العربي ليقبل الاستبداد لا بوصفه انحرافًا سياسيًا، بل قَدَرًا إلهيًا، ويُصاحب الطغيان بالأدعية بدل المساءلة.

في هذا السياق الملتهب، لا يُمكن أن يكون الحديث عن مشروع مفكر مثل هشام جعيّط مجرّد تمرين أكاديمي، بل هو، في عمقه، تفكيك للجذور العميقة لهذا الموت السياسي العربي، الذي لا يعبّر عن عجز اللحظة فقط، بل عن تراكم طويل من العقول المروّضة، والشرعيات المصنوعة، والتاريخ المغشوش.

جعيّط، إذن، لا يكتب عن التاريخ الإسلامي ليراجعه، بل ليكسر به الحاضر. لا يبحث عن الفتنة الكبرى بوصفها واقعة، بل باعتبارها أصلًا مؤسسًا للانهيار السياسي العربي. مشروعه، القائم على النقد الجذري للعلاقة بين الدين والسياسة، هو في جوهره مشروع لفك اشتباك طويل بين الاستبداد والقداسة، بين الحكم والتأليه، بين النص والسلطة.

ما الذي يجعل كل هذا الرعب ممكنًا؟ ما الذي يمنح أنظمة القتل شرعية الصمت، ويمنح المذبوحين صفة "الضحايا العرضيين"؟ إنها البُنى التي صنعها التاريخ السياسي العربي، حين تماهت السلطة مع القداسة، لا لأن الدين دعا إلى ذلك، بل لأن الحاكم المستبد لبس عباءة الدين زورًا، وحوّل الرسالة التحريرية إلى أداة للهيمنة. لقد جرى تدجين الوعي العربي ليقبل الاستبداد لا بوصفه انحرافًا سياسيًا، بل قَدَرًا إلهيًا، ويُصاحب الطغيان بالأدعية بدل المساءلة.واليوم، ونحن نرى أجساد الأطفال في غزة تُسحق أمام صمت الأنظمة ومهادنة الجماهير، تبدو قراءة هشام جعيّط أكثر من ضرورية: إنها ليست فقط فهمًا للماضي، بل أدوات لتحرير الحاضر، وصرخة فكرية تقول لنا إن الموت لم يبدأ في غزة، بل بدأ يوم ارتضينا بأن يُدار عقلنا السياسي بمنطق الطاعة، لا بمنطق الحرية.

إن النقد الذي أسسه هشام جعيّط هو دعوة متأخرة لكن ملحة لنزع القداسة عن السلطة، وتفكيك البنى الذهنية التي تبرر القمع باسم الدين أو التقاليد أو الأمن أو الوطنية. وهو في جوهره، ليس مجرد دفاع عن العقل، بل دفاع عن الإنسان، في وجه الاستعباد السياسي والمحو الرمزي والجسدي، سواء تم في قصور الحكم أو تحت طائرات الموت.

من هنا، ننطلق في هذا النص لقراءة المشروع الفكري لهشام جعيّط بوصفه أحد أبرز التعبيرات عن ما يمكن أن نسمّيه بـ"العقل العربي الجذري"، الذي لا يهادن سلطة، ولا يُقدّس تراثًا، بل يُحاكم الجميع بمنطق التاريخ، والعقل، والإنسان.

مقاربة متميزة

تتأسّس المقاربة الفكرية لهشام جعيّط ضمن سياق تاريخي عربي موسوم بالأزمات البنيوية، حيث شهدت المنطقة تحوّلات عميقة على المستويات السياسية والثقافية والهوياتية، خاصة في أعقاب الحقبة الاستعمارية وصعود أنظمة ما بعد الاستقلال. في هذا السياق المتحوّل، برزت الحاجة إلى مراجعة شاملة لمجمل البنى الثقافية والمعرفية التي أسهمت في تكريس الاستبداد وإعادة إنتاجه.

ينتمي جعيّط إلى جيل انتقل من وعي التحرّر السياسي إلى مطلب التحرّر المعرفي، ومن مقاومة الاستعمار الخارجي إلى مساءلة الذات الحضارية. وقد تميّز مشروعه الفكري بتأسيس تيار نقدي جذري داخل الفكر العربي المعاصر، يرفض المهادنة الأيديولوجية بين التراث والحداثة، ويعيد النظر في المسلمات التاريخية والدينية من منظور عقلاني صارم.

من خلال تحليله النقدي للتاريخ الإسلامي المبكر، وسعيه إلى تفكيك العلاقة الإشكالية بين الدين والسلطة، أسّس جعيّط لنموذج في التفكير التاريخي لا يكتفي بتفنيد الرواية التقليدية، بل يسائل البنى العميقة التي أنتجت الوعي السياسي والديني في العالم العربي. وعليه، فإن مشروعه لا يُفهم بوصفه قراءة للماضي فحسب، بل باعتباره مدخلاً لفهم تعثّر مشاريع التحديث والنهضة في السياقات العربية المعاصرة.

1 ـ السياق التاريخي والفكري لنشأة المشروع

وُلد هشام جعيّط في تونس عام 1935، في مرحلة تاريخية تتقاطع فيها تداعيات الاستعمار الفرنسي مع بدايات تشكّل الوعي الوطني. وقد ساهمت هذه البيئة في تشكيل وعي مزدوج لديه: وعيٌ بالتراث العربي الإسلامي، ووعيٌ بانفتاح على الفكر الغربي النقدي، خاصة من خلال دراسته في فرنسا واطلاعه على مناهج العلوم الإنسانية الحديثة.

تشكّل المشروع الفكري لجعيّط عند تقاطع خطاب التحرّر الوطني مع الحاجة إلى مساءلة المفاهيم المؤسسة للهوية الثقافية والدينية. فقد شهد مرحلة ما بعد الاستقلال التي اتسمت بسيطرة الأيديولوجيات الشمولية، سواء القومية أو الإسلامية، وما رافقها من انغلاق فكري ومقاومة للتيارات العقلانية والليبرالية.

في هذا الإطار، اتّجه جعيّط إلى إعادة قراءة التاريخ العربي الإسلامي، لا بوصفه سردية تمجيدية، بل كحقل للصراع والتأويل والتوظيف السلطوي. وقد تميّز بمسافة نقدية من كل من الخطاب الاستشراقي والخطاب التبريري الداخلي، مما منح مشروعه خصوصية مزدوجة: عقلانية منفتحة على المناهج الغربية، والتزام نقدي نابع من صميم أسئلته الحضارية.

2 ـ  كتاب "الفتنة": إعادة تأسيس الوعي التاريخي العربي

يمثّل كتاب "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" أحد المفاصل الأساسية في المشروع الفكري لجعيّط، إذ يقدّم فيه مقاربة تأويلية لتاريخ الفتنة الكبرى بوصفها لحظة تأسيسية لانفصال المشروع السياسي عن المرجعية النبوية.

ـ  المنهج

يعتمد جعيّط في هذا الكتاب مقاربة متعددة الأبعاد، تدمج بين المنهج التاريخي النقدي والتحليل السوسيولوجي والأنثروبولوجي. إذ يعيد قراءة المصادر الإسلامية الكلاسيكية (كالطبري والبلاذري) قراءة تحليلية ناقدة، تستند إلى تفكيك البنية الخطابية للروايات وتقييم موثوقيتها ضمن سياقها الإنتاجي.

ـ  أطروحة الكتاب

يطرح جعيّط فرضية أن الفتنة الكبرى شكّلت لحظة انكسار نوعي في التاريخ الإسلامي، حيث تحوّلت الخلافة من ممارسة رمزية تُستمد مشروعيتها من القيم النبوية، إلى سلطة دنيوية محكومة بمنطق الصراع والغلبة. ومن هنا، فإن أصل الاستبداد في التاريخ السياسي الإسلامي لا يُختزل في الانحراف السياسي، بل يرتبط ببنية معرفية ودينية كرّست تماهي المقدّس بالسلطوي.

ـ  الدلالة المعاصرة

لا ينحصر اهتمام جعيّط بالفتنة الكبرى في أبعادها التاريخية فقط، بل يعتبرها نموذجًا لفهم كيفية تشكّل "اللاوعي السلطوي" في الثقافة العربية الإسلامية. ومن هذا المنظور، يصبح التاريخ الإسلامي المبكر مدخلاً لفهم تعثّر مشروع النهضة، إذ أن غياب الفصل بين المجالين الديني والسياسي لا يزال يشكّل عائقًا أمام تبلور عقل سياسي حديث.

3 ـ ثلاثية السيرة النبوية.. نحو قراءة تاريخية للعقيدة التأسيسية

يتّخذ جعيّط من السيرة النبوية ميدانًا لإعادة بناء فهم عقلاني لتجربة التأسيس الإسلامي، عبر ثلاثيته:في السيرة النبوية، الوحي والقرآن والنبوة، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة.

يرى جعيّط أن السيرة النبوية، كما وصلت إلينا، هي نتاج تراكم روايات لاحقة خضعت لاعتبارات مذهبية وسياسية، وبالتالي فهي لا تعبّر عن الواقع التأسيسي بقدر ما تعكس آليات بناء الذاكرة الجماعية. وتكمن أهمية هذه المقاربة في إعادة الاعتبار للتاريخ كسياق لفهم الظاهرة الدينية، لا كمجال لتقديس الرواية.

4 ـ من نقد التراث إلى نقد الحداثة

في أعماله المتأخرة، مثل أزمة الثقافة الإسلامية وفي تأسيس الغرب الإسلامي، ينتقل جعيّط من التركيز على تحليل التاريخ الإسلامي المبكر إلى مساءلة الحاضر العربي، منتقدًا ما يسميه بـ"التوفيقية الأيديولوجية" بين قيم التراث ومقولات الحداثة. ويرى أن مثل هذا التوفيق لا يُنتج عقلًا نهضويًا، بل يعمّق الازدواجية الثقافية.

تتأسّس المقاربة الفكرية لهشام جعيّط ضمن سياق تاريخي عربي موسوم بالأزمات البنيوية، حيث شهدت المنطقة تحوّلات عميقة على المستويات السياسية والثقافية والهوياتية، خاصة في أعقاب الحقبة الاستعمارية وصعود أنظمة ما بعد الاستقلال. في هذا السياق المتحوّل، برزت الحاجة إلى مراجعة شاملة لمجمل البنى الثقافية والمعرفية التي أسهمت في تكريس الاستبداد وإعادة إنتاجه.لا يتبنى جعيّط نموذج القطيعة مع التراث، بل يدعو إلى تفكيكه عبر أدوات تاريخية وعقلانية، بما يسمح بتحريره من التوظيف الإيديولوجي وإعادة إدماجه في مشروع تحديثي عقلاني. وهو بذلك يلتقي مع طروحات محمد أركون من جهة، لكنه يحتفظ بمنهج أكثر ارتباطًا بالسياقات التاريخية الملموسة.

يقدّم هشام جعيّط نموذجًا فريدًا في الفكر العربي الحديث، من حيث الجمع بين التحليل التاريخي العميق والانخراط في قضايا النهضة والتحرر. لا يقف عند حدود نقد الرواية التاريخية، بل يسائل البنية المعرفية التي أسّست لثقافة سلطوية استبدادية. مشروعه، بذلك، يمثل مساهمة أساسية في بلورة ما يمكن تسميته بـ"العقل التاريخي العربي"، الذي يسعى إلى تجاوز التقديس الأيديولوجي للتاريخ، والانفتاح على إمكانيات التحديث من داخل المرجعية الإسلامية ذاتها.

هشام جعيّط في مواجهة الاستبداد

يشكّل موقف هشام جعيّط من الاستبداد السياسي في تونس، سواء في عهد الحبيب بورقيبة أو زين العابدين بن علي، امتداداً طبيعياً لمنهجه الفكري النقدي الذي تميز بالتشكيك العميق في روابط السلطة السياسية مع الدين، وكذلك نقد كل أشكال القمع السياسي والفكري التي تقوض مشروع النهضة الحقيقية. لقد جسّد جعيّط في تحليلاته ومواقفه نضالاً فكرياً من أجل كشف آليات الاستبداد التي ترتكز على توظيف الدين أو القومية كأدوات للسيطرة، ورفض أي تبرير لسياسات القمع تحت ذرائع الاستقرار أو حماية الهوية الوطنية.

1 ـ موقفه من حكم بورقيبة.. الحداثة والسيطرة

رغم أن عهد الحبيب بورقيبة (1957-1987) ارتبط في الذاكرة السياسية التونسية بمشروع تحديثي اجتماعي وقانوني، فإن جعيّط لم يتردد في نقد الاستبداد السياسي الذي رافق هذا المشروع. فقد رأى جعيّط أن بورقيبة، رغم انطلاقته الحداثية، أسس لنظام استبدادي يُكرّس سيطرة الحزب الواحد ويحدّ من الحريات السياسية، مستغلاً خطاب الحداثة لتبرير قمع المعارضة وقمع الحركات الإسلامية.

وهو يرى أن "الحداثة التي تزعمها بورقيبة كانت مصحوبة بسياسات استبدادية تُقيّد الحريات السياسية، بحيث تصبح الدولة مركزاً شاملاً للسلطة، تستغل خطاب التحديث لتبرير سيطرتها المطلقة" (الحداثة والتقليد في الفكر العربي، 1995، ص. 112).

ويضيف أن "الفصل بين الدين والدولة لم يكن تخلصاً من الاستبداد، بل شكلاً جديداً من السيطرة على المجتمع، حيث صار العلمانية أداة للإقصاء السياسي" (الدين والسياسة في الفكر العربي المعاصر 2002، ص. 87).

انتقد جعيّط أيضاً الاستعلاء السياسي والعلماني الذي تبناه بورقيبة، والذي، في نظره، أدى إلى فصل غير متوازن بين الدين والدولة، وإلى إنتاج نموذج استبدادي يحمل في طياته تناقضات عميقة.

إن هشام جعيّط لم يرَ في الحداثة البورقيبية مجرد تحديث تقني أو اجتماعي، بل مشروعاً سياسياً يستوجب مساءلة نقدية صارمة لماهية العلاقة بين السلطة والدين، ولأشكال الاحتكار السياسي التي أنتجها. ولذلك، لم يكن جعيّط مؤيداً صريحاً لبورقيبة بقدر ما كان ناقداً يعيد قراءة هذا المشروع من زاوية تفكيك آليات السلطة وتحليل دورها في تكريس استبداد جديد على قاعدة خطاب الحداثة.

2 ـ موقفه من حكم بن علي.. الاستبداد الكامن وتوسيع القمع

مع صعود زين العابدين بن علي إلى السلطة في 1987، شهدت تونس تدهوراً ملحوظاً في الحريات السياسية والحقوق المدنية. في هذا السياق، واصل هشام جعيّط انتقاده الحاد للسلطة السياسية، معتبراً أن نظام بن علي جاء بمظاهر جديدة من الاستبداد، حيث ازدادت مظاهر القمع السياسي والرقابة على الحريات الفكرية، وتوسّعت شبكة التضييق على الحركات المعارضة، سواء كانت مدنية أو إسلامية.

إن جعيّط يربط في تحليله بين الاستبداد السياسي والفشل في إنتاج وعي نقدي ديمقراطي حقيقي، معتبرًا أن نظام بن علي، من خلال تحكمه المركزي في الدولة، اعتمد على بناء "لاوعي سياسي" مستمر، يمارس فيه الدين والأيديولوجيا أدوات للدعم السلطوي بدلاً من أن يكونا مجالين للحوار والتعددية. كما انتقد ما سماه "التوريث السياسي" وتغييب المؤسسات كمظاهر لتدهور المشهد السياسي.

في هذا الإطار، لا يكتفي جعيّط بالنقد السياسي المباشر، بل يسعى إلى تفكيك البنى الثقافية والفكرية التي تسمح باستمرار هذا الاستبداد، معتبراً أن الحل لا يكمن في استبدال الأشخاص فقط، بل في إعادة بناء عقل نقدي وفكري قادر على مواجهة آليات السيطرة والهيمنة.

3 ـ موقفه من التيارات الإسلامية.. نقد المسار السياسي وعدم التسوية السطحية

لم يكن هشام جعيّط معادياً للإسلام أو التيارات الإسلامية بمعناها الديني أو الروحي، لكنه كان ناقداً حاداً لأي محاولة لتوظيف الدين في السياسة بطرق تُعزز الاستبداد أو تعيق الإصلاح الديمقراطي. فقد جادل بأن بعض التيارات الإسلامية السياسية لم تنجح في تحرير الخطاب الديني من التأويلات السلطوية، بل أحياناً وقعت في فخ الاستقطاب الإيديولوجي والتعصب، مما جعلها شريكة غير واعية في صناعة الاستبداد أو في إعادة إنتاج أزمات السلطة والدين.

يرى جعيّط أن الخطاب الإسلامي السياسي، سواء في تونس أو في المنطقة العربية، بحاجة إلى إعادة قراءة جذرية تجعله أكثر انفتاحاً على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعيداً عن ازدواجية السلطة الدينية والسياسية التي كانت من أبرز أسباب الجمود والتوتر في المجتمعات الإسلامية. لذلك، دعا إلى نقد داخلي ذاتي داخل التيارات الإسلامية، وإلى تفعيل مناهج عقلانية في قراءة التراث الديني، بما يسمح بتحرير العقل من التبعية الأيدولوجية.

لم يكن هشام جعيّط معادياً للإسلام أو التيارات الإسلامية بمعناها الديني أو الروحي، لكنه كان ناقداً حاداً لأي محاولة لتوظيف الدين في السياسة بطرق تُعزز الاستبداد أو تعيق الإصلاح الديمقراطي. فقد جادل بأن بعض التيارات الإسلامية السياسية لم تنجح في تحرير الخطاب الديني من التأويلات السلطوية، بل أحياناً وقعت في فخ الاستقطاب الإيديولوجي والتعصب، مما جعلها شريكة غير واعية في صناعة الاستبداد أو في إعادة إنتاج أزمات السلطة والدين.كما كان جعيّط واعياً للتحديات التي تواجه الإسلاميين، بين الحراك السياسي والرغبة في الحفاظ على مصداقية دينية، معتبراً أن العلاقة مع الدولة الاستبدادية لا يمكن أن تقوم على التسويات المؤقتة أو الاستسلام للقمع، بل على بناء مشروع فكري وسياسي ديمقراطي شفاف.

موقف نقدي متوازن يعزز مشروع النهضة

يمكن اعتبار موقف هشام جعيّط من الاستبداد في تونس محاولة منه لبناء عقل نقدي قادر على قراءة الواقع السياسي من دون تبعية أيدولوجية أو مهادنة للسلطة. لقد اتسم هذا الموقف بالجرأة على نقد كل القوى، سواء كانت علمانية أو دينية، تقيد الحريات وتعرقل بناء دولة القانون والمواطنة.

هذا الموقف لا يقتصر على مجرد المعارضة السياسية، بل يتعداها إلى بناء مشروع فكري يهدف إلى تحرير العقل العربي من سطوة الروايات المغلقة، وتأسيس ثقافة نقدية تدعم التحول الديمقراطي والنهضة الحضارية. من هنا، يظهر هشام جعيّط كمفكر يدعو إلى مراجعة جذريّة لمفاهيم السلطة والدين والسياسة، بعيداً عن الاستقطابات الأيديولوجية، وبعيداً عن التبريرات السطحية للاستبداد.

وسننتقل في القسم التالي إلى صادق جلال العظم، لنرى كيف وسّع هذا المسار في نقد العقل اللاهوتي بوصفه الحليف المعرفي للاستبداد، ثم إلى الطيب تيزيني الذي أعاد تفكيك التراث بأدوات فلسفية وأنطولوجية جذرية.

المراجع:

ـ الحداثة والتقليد في الفكر العربي ـ هشام جعيط ـ تونس: دار الفكر العربي ـ 1995

الدين والسياسة في الفكر العربي المعاصر ـ هشم جعيط بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2002.

ـ التيارات الإسلامية في المشهد السياسي العربي ـ هشام جعيط تونس: دار الجنوب، 2005.

نقد العقل الديني والسياسي ـ هشام جعيط ـ القاهرة: مكتبة الثقافة الجديدة، 2005.

ـ تونس بين الاستبداد والديمقراطية. تونس: دار الغرب، هشام جعيط، (2010).

ـ الدين والسلطة في تونس المعاصرة، هشام جعيط،  بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، (2011).

ـ في السيرة النبوية (ثلاثة أجزاء)، هشام جعيط، تونس: دار الطليعة، 1999–2007.

ـ الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، هشام جعيط بيروت: دار الطليعة، 1992.

ـ أزمة الثقافة الإسلامية، هشام جعيط، بيروت: دار الطليعة، 2000.

ـ في تأسيس الغرب الإسلامي، هشام جعيط، بيروت: دار الطليعة، 2004.

مقالات مشابهة

  • صورة مليئة بالتفاصيل الجميلة
  • زمن الابتذال العربي
  • حقل واحدة من أندر الإطلالات في العالم العربي
  • ما الذي يطبخه توماس باراك بين سورية ولبنان؟
  • جفاف البدعة يدفع مجلس ذي قار لدراسة مقاطعة تركيا
  • المجلس العربي: سياسة الحصار والتجويع التي تُمارس بحق غزةتحولت الى إبادة جماعية صامتة
  • صورة مؤلمة من تعز
  • وفاة عملاق المصارعة الأمريكي الذي أسر قلوب الملايين.. ترامب: فقدنا رمز القوة والقلب الكبير
  • قائد أنصار الله: لن نألو جهدا في نصرة الشعب الفلسطيني ونسعى لدراسة خيارات تصعيدية إضافية
  • بين مجاعة غزة ونقد الاستبداد.. هشام جعيّط ونشأة العقل العربي الجذري