في السوربون حيثُ كان يدرس مبتعثًا من الجامعة السورية بسبب تفوقه في كلية الحقوق وكلية الشريعة خلع معروف الدواليبي الجبة والعمامة التي كان يرتديها بصحبة رفيقه الأقرب مصطفى الزرقا، وارتدى البدلة الإفرنجية لكنه لم يخلع أفكاره ومبادئه وتوجهاته ولم يلبس أفكار الاستشراق بل كان دائم المجابهة لأفكار أساتذته المغلوطة عن الإسلام.

ومن شدة مجابهته للمغالطات الاستشراقية التي تثار في المحاضرات استدعته إدارة الجامعة وطالبته بكتابة أطروحته في المواضيع التي يثور فيها نقاش دائم بينه وبين أساتذته، فما كان منه إلا أن تقدم بأطروحة دكتوراه بعنوان "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" يرد فيها على كثيرٍ مما كان يدور من نقاشات بينه وبينهم.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"موجز تاريخ الحرب" كما يسطره المؤرخ العسكري غوين دايرlist 2 of 2محاكمة "الاستغراب".. قراءات نقدية متعددة لمشروع حسن حنفي الفكريend of list

وهو يقول عن أطروحته هذه: "فُرض علي الموضوع من قِبل جامعة باريس، بعد أن نقدت الكثير مما جاء في كتبهم الجامعية".

وفي باريس كان الحاج أمين الحسيني مفتي القدس في السجن الفرنسي سببًا في أزمة بين فرنسا من جهة وأميركا وبريطانيا من جهة ثانية إذ كانت أميركا وبريطانيا تطالبان فرنسا بتسليمه لبريطانيا، لكن الدواليبي عمل جاهدًا على منع ذلك واستغل فرصة زيارة الملك المغربي محمد الخامس إلى باريس وتوسط له عن طريق أحد رجال الأعمال المغاربة وأقنعه بأن يطرح قضية تسليم الحسيني مع شارل ديغول، وفعلًا كان ذلك ووعد ديغول الملك المغربي بعدم تسليم الحاج أمين الحسيني.

الدوليبي كان له دور في الإفراج عن مفتي القدس أمين الحسيني (مواقع التواصل)

بل أكثر من ذلك؛ فبعد إخراج الحاج أمين من السجن بأوامر من ديغول أقدمَ الدواليبي على مخاطرة كبيرة إذ قام بتزوير جواز سفر للحاج أمين الحسيني وضع عليه صورته ليقوم بتهريبه من فرنسا إلى إيطاليا ومنها إلى مصر على متن طائرة أميركية.

وبعد أن نال الدواليبي شهادة الدكتوراه من السوربون رجع إلى سوريا ليبدأ مرحلة جديدة من الحياة الزاخرة بالمشاكسات.

حلبي في البرلمان

في عام 1947م انتخب الدواليبي في البرلمان ممثلا لمدينته حلب وبقي محتفظًا بتمثيل حلب في البرلمان من تلك السنة حتى عام 1963م، أي حتى انقلاب البعث على الحكم.

وكان الدواليبي مرشح الإخوان المسلمين رغم أنه لم يكن على ارتباط تنظيمي معهم إلا أن صلته بهم كانت وثيقة واستمرت عقب ذلك.

في 1948 انقسمت الكتلة الوطنية التي ينتمي لها الدواليبي إلى حزبين مناطقيين هما: حزب الشعب في حلب وحزب الوطن في دمشق، وبناء على هذا التقسيم المناطقي كان الدواليبي أحد أعمدة حزب الشعب الحلبي مع رشدي الكخيا الذي خلف سعد الله الجابري في زعامة حلب، وبعد تشكيل حزب الشعب غدا الدواليبي يعمل باسمه وتحت لافتته وبذلك نال دعمًا كبيرًا أوصله إلى رئاسة البرلمان.

في مواجهة الانقلاب العسكري

في الشدائد تظهر معادن الرجال، وفي الانقلابات تظهر أصالة السياسيين ومبدئيتهم.

ومع بدء عصر الانقلابات أثبت الدواليبي معدنًا نادرًا وشراسة كبيرة في مواجهة الاستبداد العسكري.

أطاح حسني الزعيم بالحياة الدستورية بانقلاب عسكري وجمّد الحياة السياسية، واعتقل الرئيس شكري القوتلي، وأعلن حلّ الأحزاب، غير أن الدواليبي عندئذ أفصح عن نفسه وكشف عن شخصيته القيادية الفذة عندما أعلن باسم حزب الشعب رفضه للانقلاب ومجابهته لتعطيل الحياة السياسية.

حسني الزعيم أطاح بالحياة الدستورية في سوريا بانقلاب عسكري على الرئيس شكري القوتلي (مواقع التواصل)

ما هي إلا أشهر قليلة حتى قام سامي الحناوي بانقلابه على حسني الزعيم بعد أن حشد الحزبان "الشعب والوطن" الرأي العام ضد الانقلاب وكان الدواليبي الأكثر تأثيرًا وحضورًا.

أعاد الحناوي الحياة السياسية لسوريا وأجريت انتخابات البرلمان ليفوز الدواليبي عن حلب مرة أخرى بدعم جماعة الإخوان المسلمين في مواجهة البعثيين والشيوعيين، وشكل خالد العظم الحكومة ليكون الدواليبي وزيرًا للاقتصاد، ثم وزيرًا للدفاع فيها.

الشيخ الأحمر

بقي الدواليبي على عهد المشاكسة، ففي عام 1950م شهدت الوزارة أبرز موقف صعد فيه نجم الدواليبي دوليًّا بشكل كبير، وذلك في اجتماع رؤساء الوفود العربية في الدورة 12 للجامعة العربية حين أدلى بتصريح لجريدة المصري الوفدية التي نشرته بخط عريض على صفحتها الأولى وقال فيه:

"أعلن بصفتي الشخصية، لا بوصفي وزيرًا للدفاع، أنه في استمرار الضغط الأميركي على العرب، لجعلهم يسيرون في سياسة لن تنتهي إلا بتهويد بقية أبناء الأمة العربية، فإني أقترح إجراء استفتاء في العالم العربي، ليعرف الملأ ما إذا كان العرب يفضلون ألف مرة أن يصبحوا جمهورية سوفياتية، على أن يكونوا طعمة لليهود".

كان لهذا التصريح دوي كبير في المحافل الغربية وتناقلته الصحافة الأميركية والأوروبية بشكلٍ واسع مع إطلاق وصف "الشيخ الأحمر" على الدواليبي.

من جديد في مواجهة العسكر

في معركة انتخابية شرسة تعكس الصراع بين العسكر والسياسيين فاز الدواليبي برئاسة البرلمان على النائب عبد الباقي نظام الدين مرشح أديب الشيشكلي رئيس الأركان والشخصية العسكرية الأقوى في البلاد بفارق كبير في الأصوات، وأصبح رئيسًا للبرلمان عام 1951م.

كلف الرئيس هاشم الأتاسي معروف الدواليبي بتشكيل الحكومة، فيما رآه الشيشكلي استهدافًا مباشرًا له وللعسكر معه وتحديًا لسلطته وأعلن اعتراضه الصريح على تكليف الدواليبي برئاسة الوزراء.

لم يعبأ الدواليبي بهذا الاعتراض وشكل الوزارة وأعلن تولّيه وزارة الدفاع بنفسه، وفي يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1951م وفي اليوم نفسه عقد اجتماع ضم الرئيس هاشم الأتاسي ورئيس الوزراء معروف الدواليبي مع رئيس الأركان أديب الشيشكلي الذي أعلن بشكل صريحٍ رفضه تولّي الدواليبي وزارة الدفاع، وطالب بحلّ الحكومة وتشكيل حكومة جديدة تنسجم مع توجهات الجيش، وانتهى الاجتماع العاصف دون أن يرضخ الأتاسي أو الدواليبي لإملاءات الشيشكلي.

الدواليبي تعرض لتحقيق قاس في سجن المزة وحاولت سلطات الانقلاب بكل ما أوتيت من سطوة أن تنتزع من الدواليبي استقالته من رئاسة الوزراء (مواقع التواصل)

في صباح اليوم التالي 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1951م فاجأ أديب الشيشكلي الجميع بانقلاب عسكري جديد هو الانقلاب الرابع في تاريخ سوريا الحديث والانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي، واعتقل رئيس الوزراء معروف الدواليبي وأعضاء الوزارة جميعًا ووضعهم في سجن المزة.

تعرض الدواليبي لتحقيقٍ قاسٍ في سجن المزة، وحاولت سلطات الانقلاب بكل ما أوتيت من سطوة أن تنتزع من الدواليبي استقالته من رئاسة الوزراء، لكنه رفض ذلك وأبى أن يقدم أية وثيقة تدل على رضوخه للانقلاب العسكري أو قبوله به.

ولم تملك سلطات الانقلاب إلا إخراجه بعد بضعة أشهر من السجن إلى الحدود اللبنانية ليغادر البلاد حتى إسقاط انقلاب أديب الشيشكلي عام 1954م والذي كان أول انقلاب يسلم قادته الحكم فيه لسلطة مدنية فيما عُرف بربيع الديمقراطية، وعاد الرئيس هاشم الأتاسي ليكمل فترته الرئاسية، وكلف صبري العسلي بتشكيل الوزارة ليكون معروف الدواليبي وزير الدفاع فيها.

وهكذا تقلب الدواليبي في الوزارات؛ فكان وزير الخارجية في حكومة ما بعد الانفصال وأثبت كفاية كبيرة وقيادة شجاعة لافتة لأنظار الشعوب العربية كلها لما كان يتمتع به من جرأة في الموقف وتبنٍٍّ لقضايا الأمة وتطلعات شعوبها وعلى رأسها قضية فلسطين.

إلى أن وقع الانقلاب البعثي عام 1963م وأيقن الدواليبي أن سوريا دخلت نفقًا مظلمًا طويل الأمد، وأنها غدت مكانًا غير آمن له غادرها لتنتهي حقبةُ الدواليبي في صناعة التاريخ السوري ليستقبلَ حياة سياسية بعيدة عن سوريا، ومنذ عام 2004م يرقد الدواليبي في البقيع في المدينة المنورة عقب 94 سنة كانت تاريخ وطن توّاق للحرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فكر أمین الحسینی فی مواجهة حزب الشعب وزیر ا رئیس ا

إقرأ أيضاً:

أنس الشريف.. الصوت الذي أزعج الاحتلال

لكل نبي رسالة، ولكل ميدان رجال، ولكل زمان نجوم، وفي كل شعب شجعان يحملون أرواحهم على أكفهم لا يهمهم من عاداهم ولا يضرهم من خذلهم، لا يبالون بقلة الزاد أو كثرة الأعداء والحُساد.

أُسدل الستار على الزمن الذي لعب فيه الاحتلال الإسرائيلي في عقول الغربيين، لإخافتهم من المسلمين؛ لأن كاميرات ثلة مؤمنة بربها وبعدالة قضيتها كشفت حقد الاحتلال على كل من يخالفه ويقاومه ويقول له "لا".

في غزة التنفيذ الفعلي لمبادئ الحقد الصهيوني الذي لا يميز بين حجر وبشر وشجر، وبين الأنام والأنعام، بين كبيرٍ وصغيرٍ ورجلٍ وامرأةٍ وطاعنٍ في السن، فكل من في غزة "أهداف تنتظر التنفيذ".

وأمام حرارة مشهد الإجرام الصهيوني ضد أهل غزة، وبرودة التعاطي الإعلامي العربي والدولي، وتلبية لنداء الوطن والواجب، تقدم مجموعة من شباب غزة لنقل معاناة شعبهم، فتقدموا وقدموا كل ما يملكون، لم يكن التقدم سهلا ومجانا؛ لأنهم يدركون أن المعادل الموضوعي لكشف الجرائم ونقل معاناة الناس هو الاغتيال.

أحدث جرائم القتل الصهيونية كان اغتيال الصحفي أنس الشريف ورفاقه من طاقم قناة الجزيرة، الذين ما برحوا الميدان منذ بدء العدوان، فودعوا منازلهم وأهليهم، وتواعدوا على اللقاء، إما بعد الحرب، أو في جنة النعيم.. جاعوا وعطشوا كما الناس، فاستمروا في كشف الإجرام
لم يعتذر صحفيو غزة وما رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وما قالوا "سمعنا وعصينا"، أو "إن بيوتنا عورة"، بل قالوا بكل حب: "سمعنا وأطعنا"، قدموا أرواحهم من أجل الحقيقة، فضحوا جرائم العدو على الملأ، حتى كفر بهم هذا الملأ، فما كان من المحتلين إلا أن تنادوا مصبحين على قتل من كشفهم، فكانوا على رأس قائمة الاستهداف، حيث إن عدد من قتلهم الاحتلال من العاملين في الحقل الإعلامي منذ بدء العدوان في تشرين الأول/ أكتوبر2023 زاد عن 270 صحفيا.

أحدث جرائم القتل الصهيونية كان اغتيال الصحفي أنس الشريف ورفاقه من طاقم قناة الجزيرة، الذين ما برحوا الميدان منذ بدء العدوان، فودعوا منازلهم وأهليهم، وتواعدوا على اللقاء، إما بعد الحرب، أو في جنة النعيم.. جاعوا وعطشوا كما الناس، فاستمروا في كشف الإجرام، تنقلوا بين ركام الموت في غزة، ينقلون معاناة الناس، ويكشفون للعالم حقيقة الدولة التي تدعي ولا تزال أنها حمامة السلام.

تعرض أنس ورفاقه لحملات تشويه ممنهجة من العدو، وتلقوا تهديدات بالاغتيال، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا وتسليما بسلامة المنهج الذي يسيرون عليه، عاش أنس ورفاقه مُطارَدِين من قذائف الموت، ومُطارِدِين جرائم الاحتلال، وناشرين لمعاناة الناس من بين ركام بيوت غزة المدمرة، حتى كان موعد الرحيل إلى جنان الله ولسان حال كل منهم يقول: "سأرقب نصركم بجوار ربي فقد أكملت مهمتي".

نشهد يا أنس أنك ورفاقك أديتم الرسالة بكل أمانة على أكمل وجه حتى أتاكم اليقين، وكنتم نعم رجال الميدان، وأشرف نجوم الزمان، وأشجع من حمل اللواء.

يكفيك فخرا يا أنس أن كان لك من اسمك نصيب، فكم من الناس أنس بك ورثاك؛ لأنه لمس بحديثك صدق الانتماء لشعبك ووطنك وحرصك على نقل المعاناة، ويكفيك شرفا أن اسمك ورفاقك سيسجل في التاريخ.

لروحكم يا أنس الشريف، ومحمد قريقع، وإسماعيل الغول، ومحمد نوفل، وإبراهيم الظاهر؛ السلام، واعلموا أن قوافل الشهداء لا تمضي سدى، فإن الذي يمضي هو الطغيان، رحلت أجسادكم لكن مبادئكم لم ولن تموت، فالرفاق على الطريق يواصلون المسيرة، وعلى العدو أن يعلم أن اغتيال الحناجر لا يطفئ جذوة الحق في الضمائر.

مقالات مشابهة

  • أنس الشريف.. الصوت الذي أزعج الاحتلال
  • جستنيه: من له تاريخ أسود مع الاتحاد معروف توجهاته
  • الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الشيخ محمد مبخوت الزلب
  • نقص الملابس وارتفاع أسعارها.. معاناة أخرى تُثقل كاهل الغزيين
  • مستشار الرئيس الفلسطيني: نشكر مصر والرئيس السيسي الذي أفسد مخطط الاحتلال في تهجير غزة
  • خلال كلمته بمؤتمر الإفتاء العالمي.. مستشار الرئيس الفلسطيني: نشكر مصر والرئيس السيسي الذي أفسد على الاحتلال خطته لتهجير غزة.. وسننعم قريبًا بصلاة في المسجد الأقصى
  • البرلمان الألماني ينضم إلى “تيك توك”
  • وزير الخارجية يتسلّم أوراق الرئيس الجديد لبعثة الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب والهلال الأحمر
  • البرلمان الألماني ينضم إلى تيك توك
  • أنس الشريف .. صوت غزة الذي فضح جرائم الاحتلال