اليوم العالمي للتطوع.. بين الروح الإنسانية والمسؤولية الوطنية
تاريخ النشر: 4th, December 2024 GMT
د. حامد بن عبدالله البلوشي *
Shinas2020@yahoo.com
عند الحديث عن التطوع فإنه ليس مجرد نشاط يُمارس، أو خدمة نؤديها للمحتاجين، أو مساعدة نُسديها للآخرين، بل هو فلسفة متكاملة، تجمع بين العطاء، والابتكار، والإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع والعالم. وهو شعلة تضيء دروب العطاء، وروح تنعش المجتمعات بالحياة؛ حيث يحتفي العالم في الخامس من ديسمبر كل عام باليوم العالمي للتطوع، وهو مناسبة لتعزيز ثقافة التطوع، وإبراز دوره المحوري في تحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ قيم التكافل الاجتماعي؛ ليذكر الجميع بأهمية هذه القيمة النبيلة في بناء الأوطان، ورقي الإنسان.
ولا شكَّ أن الإسلام سبَّاق في هذا المجال؛ فقد سبق الأنظمة الحديثة في الدعوة إلى التطوع، والحرص على أن يكون المسلمون على قلب رجل واحد؛ حيث جعل التطوع عبادةً وطاعةً. فقال الله تبارك وتعالى: "وَتَعَاونُوا عَلَى البرِّ والتَّقْوَى" (المائدة:2)، وأكد النبي ﷺ المعنى ذاته قائلًا: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (رواه مسلم).
والنصوص الإسلامية وصفحات التاريخ الإسلامي زاخرةً بنماذج مُبهرة؛ تجسِّد روح التطوع والعطاء في أسمى معانيها. ومن أبرز هذه النماذج ما قام به الصحابي الجليل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين جهز جيش العسرة في غزوة تبوك، في موقف بلغ من العظمة والكرم ما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عنه ويبشره: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم" مرتين، تقديرًا لعطائه اللامحدود.
كما تتجلَّى أروع صور التكافل والتآخي في موقف الأنصار الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم للمهاجرين، أولئك الذين أُخْرِجُوا من ديارهم وأموالهم لا لشيء إلا لقولهم "ربنا الله". فكانوا مثالًا يُحتذى في الإيثار، كما وصفهم الله تعالى: "وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِم خَصَاصَة".
وحينما نتحدَّث عن بناء الأوطان، نجد التطوع في سلطنة عمان ركنًا أساسيًّا لتحقيق التنمية المستدامة. وقد حظي التطوع باهتمام خاص؛ حيث أصبح مكوِّنًا جوهريًّا في نسيج المجتمع العماني، إذ تعززت مكانته، وزاد الإقبال عليه، ونال الاهتمام الكافي، بفضل الرؤية الحكيمة للقيادة الرشيدة. فقد قاد السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- نهضةً تطوعيةً شاملةً، وكان نموذجًا في التطوع بنفسه، بدعم الجمعيات المهنية، وجمعيات المرأة العمانية، وبناء الجوامع، كما تبرَّع لليونسكو وموَّل جائزة السلطان قابوس لحماية البيئة، كما تعدُّ جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي من أُولى الجوائز التي تهتم بهذا المجال، وتهدف لترسيخ ونشر ثقافة العمل التطوعي، وإبراز أهميته في خدمة الأسرة والمجتمع.
واستمرت هذه الروح مع جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- حيث أصدر جلالته الأوامر السامية بتقديم دعم مالي للفرق الخيرية التابعة للجان التنمية الاجتماعية بجميع الولايات، وتكريم المتطوعين العاملين فيها، جنبا إلى جنب مع الاهتمام المتزايد بالأعمال التطوعية، والمؤسسات الخيرية، والأعمال المفيدة للمجتمع.
ويشهد العملُ التطوعيُّ في سلطنة عمان نقلةً نوعيةً، ويظهر هذا جليًّا من خلال الانتشار الواسع للجمعيات الأهلية، والفرق الخيرية والتطوعية، في مختلف محافظات السلطنة، كما وافق ذلك الاهتمام الحكومي بوضع اللوائح والتشريعات القانونية المنظمة للعمل التطوعي وفق منهجية علمية ومهنية تضمن مساهمة العمل التطوعي ممثلا في مؤسسات المجتمع المدني في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لما يشكله ذلك من أهمية بالغة في الشراكة المجتمعية، وتحقيق أهداف رؤية "عمان 2040".
وقد انتشر التطوع الرقمي في العقد الأخير بشكل غير مسبوق، حيث فتح آفاقًا جديدةً للعمل التطوعي؛ مما مكن الأفراد من تقديم خدمات تطوعية تتجاوز الحدود الجغرافية، فمن خلال التطبيقات الذكية، والمنصات الإلكترونية، أصبح بإمكان الأفراد المشاركة في أنشطة تطوعية بضغطة زر، كالمساهمة في تعليم الأطفال عن بعد، أو تقديم استشارات طبية مجانية عبر الإنترنت، أو خدمة البحث العلمي، وغير ذلك من الأعمال التطوعية.
ولجعل العمل التطوعي أكثر فاعليةً، يجب أن يكون مؤسسيًّا؛ بحيث تُدار الجهود التطوعية من خلال مؤسسات معترف بها، مع وضع خطط واضحة تعزِّز حجم الاستفادة القصوى من الطاقات البشرية.
إنَّ تعزيز التطوع يتطلب تكاملًا بين الفرد والحكومة والمؤسسات الخاصة.. فعلى الفرد أن يدرك مسؤوليته الاجتماعية، وعلى الحكومة أن تُوفر بيئةً داعمةً تحفز العمل التطوعي، بينما يجب على المؤسسات أن تتبنى برامج ومبادرات تطوعية لخدمة المجتمع.
وفي الختام، فإنَّ التطوع ليس مجرد عمل؛ بل هو رسالة إنسانية سامية تعمِّق القيم النبيلة في النفوس، وتُسهم في بناء مجتمع قوي ومتلاحم. إنَّ جعل التطوع ثقافةً مؤسسيةً ومتجذرةً في قلوب الأفراد؛ سيقود الأوطان إلى مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا بإذن الله تعالى.
* مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رئيس جامعة الأزهر يكشف عن منهج رباني للتربية والارتقاء بالروح
قال الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر الشريف، إن الآية الكريمة "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" ترسم لنا نمطًا فريدًا في البيان القرآني، يرتقي بالمفاهيم من الظاهر إلى الباطن، ومن حاجات الجسد إلى حاجات الروح، في تدرج عجيب يُعد منهجًا رفيعًا في التربية والتعليم.
ما حكم من يصدق كلام العرافين؟.. عالم أزهري يحذر
معاهم جن.. عالم أزهري يهاجم خبراء الأبراج الفلكية
شيخ الأزهر يغرد بالفارسية لأول مرة.. ويدين العدوان الصهيوني على إيران
خطيب الأزهر: سيأتي يوم ينتصر فيه أهل الحق وتعود الحقوق لأصحابها
وأوضح رئيس جامعة الأزهر الشريف، خلال تصريحات تلفزيونية، اليوم الجمعة، أن الله عز وجل بدأ الآية بلفظة تزودوا، التي يتجه بها الذهن عادة إلى زاد المسافر من طعام وشراب، ثم فاجأنا بكلمة غير متوقعة وهي "التقوى"، لتكون هي الزاد الحقيقي، لا للدنيا فقط، بل للآخرة.
وأضاف أن النبي صلى الله عليه وسلم جسّد هذا المعنى عمليًا، فكان إذا ودّع مسافرًا وقال له: "زودني يا رسول الله"، أجابه بقوله: "زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ووجهك إلى الخير حيثما توجهت."، مستخرجًا ذلك مباشرة من روح الآية.
وأشار إلى أن هذا النمط القرآني يتكرر في آيات أخرى، منها قوله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا"، حيث ينتقل الذهن إلى اللباس الظاهري، ثم تأتي القفزة البيانية: "ولباس التقوى ذلك خير"، ليوجهنا إلى اللباس الحقيقي الذي يقي من عذاب الله.
وأكد أن هذا المنهج البياني يعلّمنا كيف نرتقي في الخطاب والتربية والسلوك، مبينًا أنه "إذا سألك أحد عن أمر دنيوي بسيط، لا تكتفِ بالإجابة فقط، بل ارتقِ به إلى مقام أسمى، كما فعل القرآن، فتجيبه عن سؤاله ثم تقول له: هل أدلك على ما هو أعظم؟".
وأشار إلى أن هذه الآية لم تتكرر في القرآن إلا مرة واحدة، لكنها أصبحت مثالًا خالدًا يُستشهد به في كل مقام يُطلب فيه الزاد الحقيقي، وهو زاد الروح: التقوى.