سودانايل:
2025-05-07@14:51:00 GMT

في تذكّر ثورة في السودان غابتْ

تاريخ النشر: 22nd, December 2024 GMT

جمال محمد إبراهيم

(1)

تدخل ثورة السودانيين التي أذهلت العالم عامها السادس، وهي التي أسقطت، بقوة إرادة شعب غالبة، نظاماً أرهق بلده، وعجزت منظمات المجتمع الدولية والإقليمية عن إرجاعه لاتباع سبل الحكم الرشيد، فلم يرعوِ. غير أن السودانيين صبروا على نظامٍ باطشٍ اتّبع تعديل أساليب حيواتهم، من قبل أن يوفّر لهم الأمن ويؤمِّن لهم الغذاء، فأخذوا بتأديب كلِّ مَـن يعارض نظامهـم الإسلاموي بأعنف ممّا ناله المسـلمون مِنْ أذىً على أيدي كفّـار قريش.

أسّـس "نظام الإنقاذ" الذي رعاه عـرّابهم حسن الترابي، رحمه الله، بيوتاً للتعذيب من درجة فظائعـها أن جلاوزتهم سمّوها، قبل أن يسميها الناس، "بـيـوت الأشـباح". تلك غرف وأقبية سـرّية يُهان فيها معارض النظام من الـرّجال، وتعـذّب النـسـاء والفتيات بالسياط في الميادين العامة، ليستفرد أعوان النظام بمقـدّرات البــلاد نهـباً ممنهجاً وإتلافاً. قال عنهم أديب مهذّب له مكانة ولهُ احترام عالمي، الطيّـب صالح، إنهم فعلـوا ببلاد السودان أفعالاً لكأنهم كُلفوا بتدميرالبلاد تكليفاً، فتسـاءل: من أين أتى هؤلاء؟

على المستوى الخارجي، كاد أن ينطق كبارالمجتمع الدولي ومنظماته التي ترعى الأمـن والسـلم وحـقـوق الإنسـان، بالتساؤل نفسه الذي أطلـقـه الأديـب الراحل: من أين أتى هؤلاء؟. ... ذلك قليل القليل ممّا عرفتُ عن ذلك النظام الباطش، فجرى توثيق شرِّ أفعاله وحدثتْ عنها كتبٌ ومجلدات. هَبَّةُ السودانيين جميعهم في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، التي أسقطتْ "نظام الإنقـاذ"، كانت درساً جديداً يقدمه شعب السودان لشعوب العالم وشـعوب إقليمه خصوصاً، في كيفية التخلص من نظم الطغيان الباطش، حَريّ بأن يجري توثيقه في كتاب التاريخ.

(2)

تلك مقدمة لمقالي عن تلك الثورة وعمّن وثق لها، وهو فؤاد مطر الذي كان أول من أصدر كتاباً شاملاً، وثق، في صفحاته التي تجاوزت الخمسمائة، رصداً لتلك الثورة في عاميها الأولين، وتفاصيل المجاهدة السياسية التي بذلتْ لترتيب أمور الدولة السودانية بعد نجاح تلك الثورة. غـير أن نظاماً شمولياً طاغياً تسلط 30 عاماً على رقاب الشعب، وكانت آخر وأبرز إخفاقاته أن فصل جنوب السودان عن شماله، ثم خلّـف ترِكة من اقتصادٍ منهار وضعف سياسي يصعب ترميمه، فتعثّر تجاوز حقبة الدمار ابتداراً حقبة الإعمار.

لن تتناول هذه المقالة ما وقع بعـد ذينك العاميـن من خلافات. لقد نصح الناصحـون في داخـل السودان ومن خارجه، ومن المجتمع الدولي والإقليمي، بهدف كبح جمـاح الخلافات، فأخفـق الجميع في منع التصعيد الخلاف بين المدنيين صنّاع الثورة والعسكريين الذين تحالفوا معهم لإسقاط نظام الإنقـاذ، فغاب ألق الثورة باندلاع حربٍ لم تُبقِ أخضر ولا يابساً.

لن يُتاح للصحافي الهمام فؤاد مطر، الذي أحـبّ السودان شعـباً وقادة وسياسيين وعسكريين، خلال عقود، أن يكتب ما لا أريد لقلمه أن يكتب عن بلد أحبّه وهو على قارعة الأفول.

(3)

ما مرّ على الصحافة العربية أن يخصّص كاتبٌ ومحللٌ صحافي، لا مقالاً ولا كتاباً فحسب، بل محبة موضوعية وانقطاعاً صادقاً لبلدٍ أحبّه، وإن لم يكن من أبنائه. مثل ذلك الصحافي المميّـز في مدرسـة الصحافـة التحليلية والتوثيقية، فـؤاد مطـر، أطال الله عمره وأبقـاه شاهداً صحافياً للقضايا العربية بصدقية وانقطاع. أخلص في تخصّصه للسودان وقضاياه إخلاصاً منقطعاً، منذ حضـوره مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم، عقب هزيمة الجيوش العربية في يونيو/ حزيران 1967، وشهد، بقلبه قبل عينيه، كيف أسرع قادة السودان إلى تضميد الجراح العربية في تلكم الأيام العصيبة في عاصمتهم الخرطوم، حين طرح قادة السودان مبادرة دعـم الدول العربية المتضرّرة لتجاوز آثار الحرب. وبعد إجازة القرار، سـعى بعض زعماء عرب حاضرين لتخصيص دعم لحكومة السودان إكراماً لمبادرتها. عندها وقف وزير مالية السودان، الشريف الهندي، معبّراً عن تقدير السودان المسعى، وأعلن أن حكومته تعتذر، بإباء وشمم، عن عدم قبول أيّ دعمٍ، وأنها ترى أن الأَولى به الدول العربية الجريحة. كان فـؤاد هـناك شاهداً للوقائع، مثلما شهد بعد ذلك مبادرة رئيس وزراء السـودان للمصالحة الشهيرة بين زعيمين عربيين كبيرين، جمال عبد الناصر والملك فيصل، فطويت صفحة حـرب اليمن.

تلك من اللحظات التاريخية، تعلق الصحفي الكبير بعدها بالسّودان، وأحبّ أهله وجذبته السياسة السودانية، فصار من أوائل الصحافيين الذين تخصّصوا في الشأن السوداني، من غير السودانيين.

(4)

لم يطلب نظام سوداني ولم تطلب حكومة سابقة أو حاضرة، من مطر، أن يتخصّص في شؤون السودان، بل هي المحبّة التي عمّدته متخصصاً فيها. لقد تنبّه، باكراً، إلى تلك الثنائية التي علقت ببلاد السودان، فالجغرافيا جعلت نصفه الأعلى أقـرب إلى الشرق الأوسط، ونصفه الأدنى في قلب أفريقيا، فانطوى ذلـك على ما يشبه التمازج والتنافر في آنٍ واحد.

لم تقف الجغرافيا عند ذلك، بل أعطت السّودان، بسخاءٍ محمود، نهرين عظيمين، النيل الأبيض والنيل الأزرق. يتكاملان ليشكلا نهر النيل الواحد، في مسيره شمالاً إلى مصر، موهوباً إليها، فقال المؤرّخون إنّ مصر هبة النيل.

لم تغب تلك الثنائية الملتبسة عن ملاحظة الصحافي المعتق لها، فاختار لسلسلة كتاباته عن السـودان عنواناً حملَ الجدّية والطرافة معاً، وبما يعكس التنافر والتكامل معاً، فكانت سلسلة "الحُلـوُ.. مُـر"، عنواناً أصدر فؤاد مطر تحته عدة إصدارات بلغت ستة كتب توثيقية رصداً وتحليلاً، عن أحوال السودان وتقلباته السياسية، بين أنظمة مدنية وعسكرية، تناوبتْ على حكم البلاد بين حقبة وأخرى. و"الحلو.. مُـر" مشروب عصير تقليدي اختصّت به موائد السودانيين في إفطار شهر الصّوم، منذ زمانٍ قديم. ولا تخلو منه مائدة رمضانية، يعدّ من تخمير مخفّف لحبوب الذرة مع مكوّنات فيها بهارات، بعضها حلـوٌ وبعضها مُـرٌّ، فجاءت التسمية "حلو.. مُر". إنه مشروبٌ معتصر من ثنائية متنافرة.

أزمـة حـرب السـودان، التي عجــز المنـاخ السـياسي الدولي والإقليمي عن حلها، يخشى السودانيون من أن تطـول مثلما طالت عشرية بشّار في بلاد الشام

(5)

قدّم فؤاد مطر كتاباً توثيقياً وتحليلياً جامعاً، قارب عدد صفحاته الخمسمائة، صدر في عام 2020، عن تلك الانتفاضة، وتطوّر أحوالها خلال عامين بعد نجاح الثورة، مُتسلحاً بكامل ملكاته ومقدراته الصحافية الغنية. أراد أن يحمل عنوان كتابه ذلك التزاوج بيـن متنافرين، فاختار وجهاً سودانياً، نصفه الأيمن مدني، والنصف الآخـر عسكري لغلاف كتابه، تلميحاً ذكياً إلى المكوّنين اللذيْن تشاركا ثورة ديسمبر (2018)، لكأنّه ألمح إلى استحالة التوافق بين هذين المكوّنين اللذين ائـتلفا على تنافرهما بعد ثورة السودانيين، ووقف الجميع ينتظرون مولوداً ينتج من ذلك الائتلاف، فاستحال الأمر، واستحقّ أن يُضاف إلى العنقاءِ والخلِّ الوفي، لكن الحرب نشبت في السودان وتحققت الاستحالة التي ألمح إليها كتاب فؤاد مطر.

(6)

لعلّ الأسف الذي يستشعره أغلبُ المتابعين، قد تحوّل حسرة ما بعدها حسرة. لكننا لو أحسنّا التفاؤل، وهو بعيد، فإنّ المناخات والمواسم السياسية لن تمرّ كما تمرّ الفصول: شتاء بعده ربيع، ثم صيف يليه خريف، بل ستطول مواسم السياسة وتحوّلاتها سنوات وسنوات. ها هم السوريون، وقد عاشوا شتاءً قاسياً مُرّاً امتد 13 عاماً، يروْن موسم ربيعهم. أما ثورة السودانيين في ديسمبر/ كانون الأول 2018 فلم يزد موسم ربيعها على عامين، ويتمنّى ملايين السودانيين، في ملاذاتهم خارج بلادهم، ألّا يطول موسم شـتائهم الماثل، الذي اندلع منذ إبريل/ نيسان عام 2023، إلى أبعد من هذا العام. أزمة حرب السودان، التي عجز المناخ السياسي الدولي والإقليمي عن حلها، يخشى السودانيون من أن تطول مثلما طالت عشرية بشّار في بلاد الشام.

بعد أن غـيّبَ السودانيون بأيديهم ثورتهم التي أذهلت العالم، وفيما تتسارع وتيرة القتل والدّمار في حرب روسيا وأوكرانيا وحرب إسرائيل لإفناء فلسطين، فهل يكون لانتظار المجتمع الدولي ومنظماته من معنى، بعد أن فقد قدراته لإحلال السلم والأمن الدوليين؟ لن أرفع سـؤالي إلى شعب بلادي، أو حتى للصحافي الكبير، إذ إنَّ حلـوَ السودان قد غلب علـى مُرّه، ... ألا يُغني الحال الماثل عن السؤال؟  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

"العدل الدولية" ترفض دعوى الإبادة الجماعية التي رفعها السودان على الإمارات

رفضت محكمة العدل الدولية، الاثنين، دعوى السودان ضد الإمارات بشأن الإبادة الجماعية في دارفور، معتبرة أنها تفتقر للاختصاص، رغم اتهام الخرطوم لأبوظبي بتمويل وتسليح قوات الدعم السريع المتهمة بارتكاب فظائع ضد قبيلة المساليت في دارفور، فيما نفت الإمارات الاتهامات ووصفتها بالدعاية السياسية.

 

وجاء في نص قرار المحكمة: "نرفض الطلب الذي تقدم به السودان في 5 مارس/ آذار الماضي ضد الإمارات".

 

وتحفظت الإمارات على المادة 9 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تنص على اختصاص المحكمة بالنظر في "الخلافات المتعلقة بتفسير أو تطبيق أو تنفيذ الاتفاقية".

 

من جهتها، قالت ريم كتيت، نائب مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية ممثلة الإمارات، في كلمة أمام المحكمة، إن الدعوى المقامة من القوات المسلحة السودانية أمام محكمة العدل الدولية لا تستند إلى أسس قانونية أو واقعية، حسب وكالة أنباء الإمارات.

 

وأوضحت أن "دولة الإمارات ليست طرفًا في النزاع المسلح في السودان، ولا تقدم أي دعم لأي طرف ما يجعل الادعاءات الموجهة ضدها لا أساس لها من الصحة".

 

وفي وقت سابق من الشهر الجاري، قدم السودان دعوى متهمًا الإمارات بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها من خلال دعمها لقوات الدعم السريع المتورطة في النزاع المستمر في السودان.

 

تتضمن الاتهامات تقديم الإمارات تمويلا وتسليحا لهذه القوات، مما أدى إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية، قتل، اغتصاب، وتدمير ممتلكات تستهدف قبيلة المساليت في غرب دارفور خلال عام 2023.

 

وكان وفد سوداني بقيادة وزير العدل، معاوية محمد أحمد خير، شارك في الدورة الـ58 لمجلس حقوق الإنسان، والتي شملت بيان السودان خلال جلسة الحوار التفاعلي حول حالة حقوق الإنسان في السودان، حيث ركز البيان على سرد فظائع المليشيا المتمردة وانتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف.

 

وبحسب وكالة الأنباء السودانية تضمن البيان شرحاً تفصيليا للدعم الخارجي كسبب رئيس لإطالة أمد الحرب، شارحاً تورط دولة الإمارات في تسليح المليشيا المتمردة، واستمرار هذا الدعم رغم قرارات مجلس الأمن الداعية لوقف هذا الدعم.

 

وعقب الوزير في ختام الجلسة رداً على ممثل الإمارات الذي حاول نفي تورط بلاده في دعم المليشيا، حيث أكد أن تورط دولة الإمارات في دعم المليشيا المتمردة ورعايتها لها ليس مجرد اتهام بل تورط أثبته فريق خبراء الأمم المتحدة في تقريره منذ كانون الثاني/ يناير 2024 وتم نشر التقرير كوثيقة من وثائق الأمم المتحدة.


مقالات مشابهة

  • انطلاق فعاليات المؤتمر السنوي السابع مستقبل التربية وإعداد المعلم بالمجتمعات العربية بجامعة جنوب الوادي
  • السودان دا حق منو ؟؟! حق برهان؟ ولا حق الكيزان؟ ولا حق السودانيين ديل كلهم !
  • انطلاق فعاليات مؤتمر مستقبل التربية وإعداد المعلم بالمجتمعات العربية بجنوب الوادى
  • اليمن يدين الاعتداءات التي طالت البنية التحتية في بورتسودان
  • المكاسب التي سيحققها العراق من عقد القمة العربية في بغداد
  • نقابة الصحفيين السودانيين: يوم حرية الصحافة العالمي “عندما تهدأ البنادق، تبقى الحقيقة فقط شاهدًا
  • "العدل الدولية" ترفض دعوى الإبادة الجماعية التي رفعها السودان على الإمارات
  • العدل الدولية ترفض دعوى الإبادة الجماعية التي رفعها السودان على الإمارات
  • بعد تصدره التريند.. ما هي أبرز المحطات في حياة الفنان خالد الصاوي
  • في ديالكتيك ثورة ١٩ ديسمبر وثلاثي الثورة المضادة