عبد الله علي إبراهيم
(نشرت في الخرطوم 4-10-1988)
في أعقاب إعلان دولة نميري الدينية قامت سلطات معتمدية الخرطوم بالتعاون مع جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلال أكتوبر 1984 بملاحقة وطرد مداح النبي عليه أفضل الصلاة والسلام من حلقاتهم بوسط الخرطوم. وهذه "الكشة" من شاكلة "العبارة" (وهي الأمر الشاذ) التي أزعجت حاج الماحي، عميد المداحين، حين أمره الأتراك بالكف عن مديح النبي.
ما سِمِع في المديح إنكارا
وواضح أن المعتمدية تبنت في "عبارتها" أو كشتها هذه مفهوماً شرعياً أغبش سائداً يحرم الغناء وبستقبح جملة ممارسات فنية وجمالية بما في ذلك الشعر. وحين نظر المستشرقون إلى ازدهار الغناء والفن والشعر في الحضارة الإسلامية على تحريم، أو تقبيح، الإسلام لها خَلِصوا إلى أن تلك الفنون إنما أوجدت نفسها برغم الإسلام. وهذه نتيجة ظالمة وخاطئة تصور الإسلام وكأنه لفحة سموم صحراوية لا موضع فيها لحس بالجمال أو لإشباعه. وكان ميسوراً للمعتمدية "في هذا الدين اليسر" أن تختار مفهوماً موازياً (إن لم يكن قوياً) يجيز الغناء ويستند إلى حديث المصطفى الذي سأل فيه بنات حي من العرب أن يتقن غناءهن.
ظنت الجمهرة من الناس أن في اختلاف التقاليد الإسلامية حول الغناء والشعر والتصوير اضطراباً لا يليق بعقيدة دينية. ولذا مالوا، أو حُمِلوا، لاعتماد وجهة التحريم لأنها الأقوى مركزاً. ولو استشارت هذه الجمهرة النظريات الثقافية المستحدثة لصح عندها أن مثل هذا الخلاف رحمة مثل قولنا اختلاف العلماء رحمة. فهو مما يشير إلى أن الثقافة الإسلامية لم تخضع لأحكام جامعة مانعة وإنما لتباين في وجهات النظر حول المسائل. فهي ثقافة تراوح بين من يحرم الغناء ومن يحلله، ومن يعجب بالشعر ومن بستقبحه، وبين مبغض للتظرف وبين ممارس له. فديناميكية أي ثقافة (فعلها في المجتمع) لا تقوم على أحكام قاطعة متفق عليها وإنما نطاح وجهات نظر قد يكون فيها الغالب والضعيف وكلها راغبة في أن تصبح أحكاماً مطلقة وتقصر دون ذلك بسبب المراوحات.
أشد أنواع الظلم فتكاً أن نغنى بالفن ونلعن الفنان. فالمديح يحظى الآن بمعجبين غير قليلين، ولكن يغيب عنا الاضطهاد التاريخي والاجتماعي الواقع على المداحين منذ ابتداء أمرهم حتى كشة المعتمدية على حلقات المديح. ووددت لو جدد الأستاذ الطيب محمد الطيب* نشر كلمته عن المداحين التي ظهرت بجريدة الأيام في النصف الأول من 1974 لأنها أول ما فتح نظري لعلم اجتماع المادح. فالمادح عندنا مرادف للشحاذ والمتبطل والخليع. وقد كرهه الكارهون لمظاهر الهندمة فيه والتي هي زينة الفنان. وكرهوه للرقص (ويسميه المداحون "العسكرة" طلباً للخشونة ربما) المصاحب لأداء المداحين. وكرهوه للأدوات الموسيقية التي تعينه على الأداء. فالمادح عندنا إما شيء زائد أو متهم.
وأدى هذا الاضطهاد الاجتماعي بالمداحين إلى تبني خطتين دفاعيتين. فهم يُضَمِنون مديحهم فقرات يحاولون الرد فيها على كارهيهم وتحسين صورتهم مثل قول المادح ود شبو: "اعوام الخلوق سابانا". والخطة الأخرى هي إذاعتهم لفقه مهني خاص بهم يقول إن الناس تبعث عرايا يوم القيامة ما عدا المؤذن والمادح الذي يقوم لابساً جلد طاره. إن اضطرار المادحين لإنشاء هذا "المديح في المديح" وإدخال أنفسهم في مأثرة يوم البعث العظيم لمؤشر على مدى الاضطهاد الذي يلقونه.
في القانون الجنائي المطروح (في 1984) مواد تقيد الممارسات الفنية بموافقة الشرع. وهذا عدوان كبير محتمل على المادحين قياساً على ما رأينا من كشة معتمدية الخرطوم وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسيحتاج المداحون والفنانون إلى شذى من كبرياء حاج الماحي في القبض على جمر الورع والفن. فحين منع الترك حاج الماحي من المديح استغرب هذه "العبارة" وتحداها قائلاً:
حتى إن كان تفور باقدارا
نمدح فوق رسولنا بطارا
إن كان اخشى اخلي الطارا
عقبان اسم ابويا خسارا
وسيحتاج المادح إلى تضامن أصيل من جمهورهم لرد الكيد عنهم وشل يد عاطلي الذوق. وللجمهور في الشائب الذي روى عنه بابكر بدري أسوة حسنة. فقد كان الشائب يختلف إلى حلقات المديح فينجذب "ويعسكر". فقرر أبناؤه منعه من ذلك وإلا طلقوا أمهم منه. فلما جاء المادح إلى القرية ونقر طاره اندفع الشائب إلى حلقة المديح قائلاً: "دابو جاكم البطلق أمكم"
ليكن للمديح هذا البطر في مؤديه وهذا الأسر على جمهوره في محنة المادحين القادمة.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
بنك الخرطوم يعيد تشغيل فرع الكلاكلة: إيذانًا بعودة الحياة الاقتصادية
في خطوة تعكس روح الأمل والإصرار على تجاوز تحديات المرحلة الراهنة، أعاد بنك الخرطوم اليوم افتتاح فرع #الكلاكلة_اللفة، وذلك بعد توقف دام قرابة العامين، خضع خلالها الفرع لعمليات صيانة وإعادة تأهيل شاملة إثر الأضرار التي لحقت به جراء الحرب. يمثل هذا الافتتاح علامة فارقة في مسيرة تعافي القطاع المصرفي والاقتصادي في العاصمة السودانية.
شهد حفل الافتتاح حضوراً رفيع المستوى، تمثل في مدير إدارة الفروع وممثل الإدارة العليا، والإدارة التنفيذية لمحلية الكلاكلة وجبل أولياء، وقيادات من شرطة الولاية، ومسؤولين حكوميين، وجمع غفير من رموز المجتمع المحلي. وقد أكد الحضور على الأهمية الرمزية والاقتصادية لهذا الحدث، الذي يبعث برسالة قوية مفادها أن الحياة الاقتصادية والمصرفية في الخرطوم بدأت تستعيد عافيتها تدريجياً.
يأتي هذا الإنجاز ليؤكد مجدداً على تفوق بنك الخرطوم وريادته في قطاع المال والأعمال السوداني. فلطالما كان البنك في طليعة المؤسسات المالية التي تتولى زمام المبادرة في دعم مسيرة الاقتصاد والمجتمع السوداني، من خلال التزامه بتقديم أفضل الخدمات المصرفية والمساهمة الفاعلة في التنمية.
هذا وقد أشارت إدارة البنك في كلمتها خلال الافتتاح، إلى أن إعادة تشغيل فرع الكلاكلة ليس مجرد استئناف لعمليات مصرفية، بل هو تجسيد للإرادة الوطنية في بناء مستقبل أفضل. وأضافت أن البنك سوف يواصل مسيرة الإنجازات، واعدةً بتشغيل المزيد من الفروع في العاصمة، مما سيسهم في تعزيز الشمول المالي وتوفير الخدمات المصرفية للمواطنين في مختلف أنحاء الخرطوم.
يؤكد بنك الخرطوم من خلال هذه الخطوة التزامه الراسخ تجاه عملائه والمجتمع السوداني، ويجدد عهده بأن يكون شريكاً أساسياً في جهود إعادة الإعمار والتنمية، معرباً عن ثقته بأن السودان سيتجاوز هذه المرحلة نحو مستقبل مزدهر ان شاء الله.