عالَمُ عبد السّلام ياسين قبل تحوّله الأوّل.. من الميلاد إلى ما قبل أزمته الرّوحية
تاريخ النشر: 3rd, March 2025 GMT
حينما ولد عبد السلام ياسين، عام 1928م، كانت قد مرّت ستّ عشرة سنة على معاهدة فاس التي أعلنت بداية الاحتلال الفرنسي الإسباني للمغرب، يومها كان البلد يتخبّط في كلّ شيء، في السّياسة كما في الاجتماع والاقتصاد، وقد دخل توّا في "إصلاحات" قادتها الإدارة الاستعمارية، أرادت من خلالها ـ كما صرّحت ـ تهيئته للخروج من دوّامة التّخلف.
كان عبد السّلام طفلا رضيعا في السّنة الأولى عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية ذات خميس أسود، وهو نفس العام الذي وُلدَ فيه الحسن، وهو من سيغدو وليّا للعهد ثمّ ملكا ومنصوحا؛ إذ سيكون، بعد أربع وأربعين سنة، المخاطبَ في الرّسالة الشهيرة "الإسلام أو الطوفان" ضمن التّحوّلات الكثيرة التي سيعرفها ياسين في مساره، وهي الرسالة التي ستقوده إلى مستشفى الأمراض العقلية عقابا له على "تجرّئه" على مُكاتبة ملك خرجّ للتّو جريحا من محاولتين انقلابيتين ويريدُ أن يحسم بالعنف مع كلّ صوت نشاز يشوّش على حكمه. وكان في الثانية من عمره يوم نزل النّاس إلى شوارع سلا وفاس وغيرهما من المدن المغربية يحتجّون على الظهير البربري السيئ السمعة الذي أراد من خلاله المستعمر أن يفرّق بين المغاربة ويشعل فتيل الفتنة بين عربهم وأمازيغيهم. وعندما تقدّم مجموعة من الوطنيين بوثيقة للمطالبة بالاستقلال كان قد وصل تسعا.
عبد السلام ياسين شابا
ظلّ، وحيدَ والديه الأمازيغيين الأمّيين، بعد أن توفّيت أخته الكبرى، وكشأن كلّ طفل مفرد عاش مُدلّلا في أحياء مراكش الشعبية، ولكنّه كان مِمْرَاضًا؛ فقد أصيب بعلل كثيرة وشديدة. وهذه من جملة الأمور الذي جعلته ينمو هادئا محبّا للسّلام، وحين كِبَرِهِ سيحتفظ دائما بالخصلة الثانية بينما ستغدو حياته سلسلة واحدة تمسك بعضها برقاب بعض من القطائع والتّحوّلات لتستقرّ في النّهاية على تجربة نادرة في الأناة والأمن والتّؤدة والحِلم والرّجاحة والسّكينة وما شئت من ألفاظ تُرادف هذا المعجم.
كان المشرق العربي ـ مثلا ـ يحترق بأحداث جسام، وعلى رأسها تلك التي كانت تجري في فلسطين، إذ تمّ الإعلان عن قيام "دولة إسرائيل"، وما سبقه ورافقه من تقتيل للفلسطينيين وتهجير لهم، في نفس الوقت الذي بلغ فيه ياسين العشرين من عمره، ولكنّه لم يكن يهتمّ أبدا بمثل هذه الأمور.أدْخِل الكُتّاب وهو دون الخامسة ليبدأ حفظ القرآن الكريم، وسيحضر بعد بضع سنين مجالس لعلّامة المغرب محمد المختار السوسي دون أن يكون ذا كبير فهم ووعي، ولكنّها اللقاءات التي ستنسج في فؤاده حبّا عظيما لهذا الرّجل، ولن يملّ القول، يوم أصبح كاتبا، أنّه ينتسب لتلك الدّوحة أدبا وعلما.
ورغم أنّه كان كثير الغياب عن الكتّاب، بسبب مكابداته لتلك الأمراض، فإنّ حفظه واستيعابه كانا خفيفين، لذلك سرعان ما استظهر القرآن الكريم، والكثير من الأشعار، وتمكّن من أساسيات أصول اللغة العربية، ثمّ قرض الشّعر ونظمه. وحينما أغلقت مدرسة العلّامة، بسبب نفيه إلى بلاد سوس، انتقل التّلميذ إلى كُتّاب آخر ثمّ إلى معهد ابن يوسف الشّهير.
كان هذا المعهد بمثابة جامعة، وقد قام بأدوار علمية طلائعية على مدى قرون أربعة. وعلى أرضيته وحصيره، قرأ متونا وحفظها، وفي زواياه طالع لأوّل مرّة مجلة "الرسّالة" التي كانت تأتي، عزيزة، من مصر. ولكنّ نفسه الشغوفة بالبحث والعلم تطلّعت إلى ما فوق الأسلوب التقليدي الذي كانت تُلقى به الدّروس في المعهد. وأثناء بحثه عن الأفضل استيقن أنّ ما تشرّبه في مدرسة السّوسي أعمق ممّا أخذه في كلّية ابن يوسف وأمتن؛ والسّبب أنّ الأولى طوّرت منهجا وأسلوبا خاصّا بعيدا عن مقرّرات الدّولة واختياراتها، لذلك لن يتوقّف ياسين عن الدّعوة إلى ضرورة تحرّير التّعليم من قبضة السّلطة السياسية وإبعاده عن دائرتها وتأثيرها.
عندما بلغ التّاسعة عشرة من عمره، وكان لا يزال في المعهد، اكتشف أنّه بصدد المزيد من تضييع العمر إن هو استمرّ على هذا النّمط من التّعلّم، فقرّر أوّلا أن يكتسب اللغة الفرنسية. وبما أنّ حالة أسرته الاقتصادية كما أصوله الاجتماعية لا يسمحان له بولوج مدرسة من تلك المدارس العصرية التي أنشأها المستعمر، فقد ذهب ليتتلمذ على يد أحد أصدقائه في الحيّ كان يدرس في إحدى تلك المدارس. وسيظلّ رفقتَه يُعلّمه الحروف والنّصوص والأشعار وينجز له الفروض إلى أن دخل مدرسة المعلّمين. الغريب جدّا، أنّ ياسين في هذه الفترة، وبالضّبط عام 1947م، وهو يتعلّم الفرنسية بتلك الطريقة البدائية، كتبَ مخطوطا من عشرين صفحة يشرح فيه كيفيّة تعلّم لغة المستعمر هذه.
في هذا العام، سينتقل من مدينته الأثيرة البعيدة مراكش إلى العاصمة، وعندها سيعرف أنّه خرج كما قال في إحدى حواراته "من الهامش" إلى عالم جديد واعد. وهناك سيتفتّح حين اختلط بالمجتمع الرّباطي ووسط زملائه من الطّلبة الذين قدموا من كلّ جهات المغرب حاملين معه ثقافاتهم وعاداتهم ولهجاتهم. وسيتقرّب من كلّ طالب عَلِم أنّه يعرف لغة أجنبية؛ إنجليزية كانت أو إسبانية أو ألمانية؛ فقد كان تعلّمُ اللغات أهم هواجسه يومئذ. في إحدى حلقات برنامج "مراجعات" الذي بثّته قناة الحوار اللّندنية اعترف ياسين أنّه بذلك ارتكب خطأ تربويا، وبذلك ينصح بتجاوزه؛ فلم يكن عليه أن يتّبع هذا المسعى، بل كان يجب أن لا ينتقل لتعلّم لغة أجنبية ثانية حتى يتمكّن من الأولى، ولكنّه لم يجد مَن يوجّهه الوجهة التربويّة الصحيحة، وما أكثر الأخطاء التي يرتكبها المتعلّم المبتدئ إذا لم يُصادف من يأخذ بيده ويسلك به بين المطبّات.
في نهاية الموسم كان موعده مع خبرين متضاربين؛ نجاحه في التّخرّج معلّما، ووفاة والده قبل أن يفرح بتخرّجه، وهو الذي كان يُمنّي النّفس أن يحضر أياا من العزّ رفقة ابن موظّف في مجتمع جديد يقدّر "فئة" حديثة العهد في المغرب.
ولكن، ما موقع النّضال والسياسة في حياته وبلده محتلّا؟
يجيب ياسين ضمن نفس البرنامج بأنّه كان غائبا "عن كلّ ذلك غيابا مطلقا"؛ فلم يكن يقرأ الصحف، وكانت السياسة غير حاضرة بالمرّة في كلّ ما يفكّر فيه، وحده التّحصيل في اللغات والتحصيل في العربية ما كان يهمّه، أمّا "الوعي فقد جاء بعد ذلك"؛ هكذا أكّد. لم ينتسب لأيّ حزب ولم ينخرط في أيّة حركة على عكس الكثير من زملائه وأقرانه؛ مثل محمد بن سعيد أيت يدّر والفقيه البصري وغيرهما. كان "خُبزيّا" كما اعترف بكثير من الأريحي.
كان المشرق العربي ـ مثلا ـ يحترق بأحداث جسام، وعلى رأسها تلك التي كانت تجري في فلسطين، إذ تمّ الإعلان عن قيام "دولة إسرائيل"، وما سبقه ورافقه من تقتيل للفلسطينيين وتهجير لهم، في نفس الوقت الذي بلغ فيه ياسين العشرين من عمره، ولكنّه لم يكن يهتمّ أبدا بمثل هذه الأمور.
وإلى هنا، وعلى امتداد ستّ عشرة سنة من الدّراسة والتّعلم، يكون ياسين قد تتلمذ على ثلاث مدارس لكلّ واحدة منها خصائصها وتأثيرها في شخصيته ونفسيته وفكره؛ مدرسة محمد المختار السّوسي، ومعهد ابن يوسف، ومدرسة المعلّمين. وها هو الآن قد توجّه إلى مدينة الجديدة ليلج عالم الحياة المهنية مُعلّما للغة العربية، وبذلك يكون قد ودّع عالما ووضع رجله في مدخل عالم جديد.
في عام 1949م، وهو نفس العام الذي اغتيل فيه حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بمصر، والذي لا مؤشّر على أن ياسين اهتمّ حينها به أو بجماعته أو باغتياله، ولكنّ هذا السياسي والتّربويّ الكبير سيصبح واحدا من مُلهميه أثناء تحوّله الثاني. في هذه السّنة إذن عاد إلى مدينته مراكش، ليشتغل في العديد من مدارسها، وسيحكي عن تجربة استغلّه فيها أحد مدرائه الأجانب؛ إذ كان يُخفّف عنه بعض الحصص ليستغلّه في شيء آخر؛ فقد كان هذا المدير "يُعدّ أطروحته للدّكتوراه عن مدينة مراكش، فكان يأتيني ـ كما قال في مراجعاته ـ ببعض المخطوطات بالعربية لأترجمها له"، ولا شكّ عندي أنّ ياسين استفاد من هذا "الاستغلال" أيّما استفادة، في معرفة النّصوص، وقراءة المخطوط، وكيفية التعامل المنهجي معه، والكثير من المعلومات والمعطيات التي كان يمرّ عليها وهو يترجم تلك الرّقاع.
كان ياسين يدركُ أنّ مقامه في سُلّم المعلم يصدّه عن طموحاته المعرفية، لذلك عمل على اجتياز مباراة لنيل شهادة تخوّله الانتقال للتدريس في السلك الثانوي، ولكنّه سقط سقوطا مزريا؛ "سقوطا آلمني ـ كما عبّر بحرقة ـ ولكنّه حفّزني". ولم يكن هذا السقوط ليهدّه، فقد نجح في العام الموالي، فيُعيّن مدرّسا للتّرجمة. وهنا سيقتني سيّارة، وكانت يومها شيئا عزيزا، ولا يستطيع امتلاكها سوى آحاد النّاس.
مع توالي الأيّام سيزداد انعزالا عن الحياة السياسية، ولن يجد راحته سوى مع الكتب وفي بطونها، وسينال حبّ جميع أصدقائه وزملائه لأنّهم لمسوا ـ أثناء معاشرته ـ جدّيّته وصدقه، أمّا صرامته المبدئية فقد شهد بها كلّ من اقترب منه، خاصة تلامذته، ويكفي العودة لسيرة تلميذه اليساري عبد الغني أبي العزم والمعنونة بـ"الضّريح الآخر" لنقف على كلام عال ولطيف يصوّر هذه الخصال. هذه السّيرة تتضمّن شهادة، من ثلاثين صفحة، شديدة الكثافة والغنى يوم كان الكاتب طالبا في مدرسة تكوين المعلّمين بمراكش وكان مديره مثقّفا "جينتلمانا" اسمه عبد السلام ياسين.
كان ياسين يدركُ أنّ مقامه في سُلّم المعلم يصدّه عن طموحاته المعرفية، لذلك عمل على اجتياز مباراة لنيل شهادة تخوّله الانتقال للتدريس في السلك الثانوي، ولكنّه سقط سقوطا مزريا؛ "سقوطا آلمني ـ كما عبّر بحرقة ـ ولكنّه حفّزني". ولم يكن هذا السقوط ليهدّه، فقد نجح في العام الموالي، فيُعيّن مدرّسا للتّرجمة. وهنا سيقتني سيّارة، وكانت يومها شيئا عزيزا، ولا يستطيع امتلاكها سوى آحاد النّاس.قبل الإعلان عن استقلال المغرب بسنة واحدة سيُعيّن ياسين مفتّشا في التعليم الابتدائي بالدّار البيضاء، وهي أكبر مدينة مغربية وعاصمته الاقتصادية، وهناك سيكتشف مغربا آخر غير ذلك الذي خبره في مدينته مراكش؛ مغرب مركّب في كلّ شيء بسبب الهجرة التي عرفتها المدينة من جميع نواحي المغرب. وما إن التحق بعمله هناك حتى عاد الملك محمد الخامس من المنفى، وكانت مناسبة ليكون شاهدا على الشعبية التي كان يتمتّع بها الملك.
"جاء الاستقلال ـ يقول ياسين ـ فكنتُ من الرّعيل الأوّل من الموظّفين المغاربة الذين تسلّموا مقاليد الأمور من الإدارة الفرنسية"، وعندئذ سيجد نفسه وجها لوجه أمام أمراض بدأت تنتشر بسرعة، من قبيل الحزبية والبيروقراطية والوصولية والمحسوبية والرّشوة. لم تنتظر الإدارة المغربية ابتعاد المستعمر كثيرا لتحتضن الفساد، بل سارعت إليه وهو لمّا يغادر الغرف بعد.
ولأنّه ـ كما سبق القول ـ كان صارما في مبدئيّته، وبسببها لُقّب بـ"عمر بن الخطّاب"، فقد اصطدم سريعا بتيّار الفساد وتألّبوا ضدّه إلى حدّ التهديد بالقتل كما أخبر هو بنفسه في ذلك الحوار.
في سنة 1957م، ولم يكن قد مر على استقلال المغرب سوى عام واحد "فقد ياسين استقلاله"! فما إن أحسّ باستقرار ماديّ ومهنيّ حتى بادر إلى الزّواج، وقد تأّخر في ذلك على غير عادة الشباب المغاربة في ذلك العهد، تزوّج وهو في التّاسعة والعشرين من عمره من إحدى تلميذات صديقه العزيز محمد شفيق؛ شفيق الذي سيغدو مع مرور السّنوات واحدا من أبرز التربويين المغاربة، وواحدا من أشهر النّاشطين الثقافيين الأمازيغيين، وفيما بعد ستفترق بهما السّبل؛ ففي الوقت الذي سيلج فيه شفيق مسالك الارتقاء في "الوظيف" الحكومي الرّسمي، من مفتّش إلى كاتب للدّولة إلى مكلّف بمهمة لدى الدّيوان الملكي، مع احتفاظه بعضويته داخل أكاديمية المملكة، ثمّ أوّل عميد للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فإن ياسين سيغدو واحدا من أشهر معارضي النّظام المغربي، سواء وهو فرد أو حين أسّس من ستصبح أكبر جماعة إسلامية في البلد، وهي جماعة العدل والإحسان، وسيُسجن مرات، ثمّ ستُفرض عليه الإقامة الإجبارية في بيته بمدينة سلا لعشر سنوات كاملة، وربّما لا يزاحمه في هذه الشّهرة سوى المهدي بنبركة. ولكنّ الصّديقان القديمان سيعودان للالتقاء بعد سنوات طويلة، ولكن هذه المرّة عبر حوار في السياسة والثقافة والدّين نُشر عام 1997م تحت عنوان "حوار مع صديق أمازيغي"، وحينها كان الاختلاف في المرجعيات والأسس الفكرية قد بلغ بينهما حدّا كبيرا.
الشيخ عبد السلام ياسين شابا
وسريعا أصبح أبا؛ إذ رزق بأوّل أبنائه في نفس الوقت الذي عُيّن مفتّشا إقليميا ببني ملال، وسمّاها نادية. هذه الفتاة الكثيرة الشّبه بأبيها ستقتفي أثره، وستمنح لنفسها الوقت الكافي من التّكوين، خاصة في المدارس الفرنسية، قبل أن تصبح ناشطة سياسية وكاتبة.
في الوقت الذي كان فيه ياسين مشغولا بسؤال: كيف يعمل المغرب على النّهوض بالشّأن التربوي والتعليمي لمغرب ما بعد الاستقلال، كانت منطقة الرّيف، في الشمال، تغلي سياسيا واجتماعيا، حيث انفجر الوضع في انتفاضة عارمة، أخمدها الجيش المغربي بقسوة وعنف مستعملا كلّ الوسائل، بما فيها الطّيران العسكري، وعلى الأرض قام أفراده بمخازنٍ لا تزال لحدّ الآن تشكّل جزءا من المخيال الجمعي للرّيفيين.
وبسبب ذلك الانشغال اختير للمشاركة ضمن وفد في تداريب تربوية في معاهد غربية مشهورة في فرنسا كما في الولايات المتّحدة، وهناك لم يقتصر تأثّره ـ كما يقول محمد العربي أبو حزم في كتابه "عبد السلام ياسين الإمام المجدد" ـ بـ"مدارس الفكر التربوي السائدة فيهما، بل تجاوزه إلى التّأثر بنمط التفكير وبأسلوب الحياة وبمظاهرهما". وهذا ما يفسّر لنا اهتمام ياسين يومها بالهندام، فكان أنيقا، وكان شغوفا بالموسيقى، خاصة الموسيقى الغربية الكلاسيكية مع روادها الكبار أمثال بيتهوفن وموزارت، عازفا على العود والكمان والبيانو وغيرها من الآلات. كما شارك عام 1961م ضمن وفد تربوي أيضا في تداريب بيداغوجية في مصر ولبنان، ومن هناك توجّه لأداء مناسك الحجّ.
لقد أصبح ياسين مُلمّا بالمدارس التربوية وطرق التّدريس إلماما كبيرا جيّدا، وكان يستلهم من المدارس الغربية حين ولج التّأليف المدرسي، فنشر العديد من الكتب، منها الموجّه لتكوين المعلّمين مثل: "مذكّرات في التربية" و"النصوص التربوية" و"كيف أكتب إنشاء بيداغوجيا"، وقد صدرت عام 1963م. ومنها الموجّه للتلاميذ مثل: سلسلة "المطالعة الجديدة" في أربعة أجزاء بمعيّة بعض زملائه، و"الحساب الجديد"، و"الجديد في دروس الإنشاء". كما نشر بعض القصص الخاصة بالأطفال.
كانت السنوات الثّماني التي تقع بين عامي 1956 و1964 زاخرة في حياته، وهذا ما يحكيه صديقه أحمد الملاخ في حوار له، إذ يقول في نصّ طويل أنقله كاملا من كتاب محمد العربي أبي الحزم السّابق الذّكر: "كان رجلا ذا ثقافة، وكان يريدُ أن يتعلّم لغات كثيرة، وكان همّه في تلك الفترة تعلّم اللغة الرّوسية. والميزة الخاصة هي محاولاته في الموسيقى؛ كان يُلحّنُ بعض الأناشيد. وبحثنا على تعلّم الموسيقى، فاشترينا جميعا ماندولين، وذهبنا إلى الكونسيرفاتوار نتعلّم النوطة والصّولفيج، ويأتي أحيانا ليعزف بعض مقاطعه من الأناشيد التي كان يلحّنها. وكان يجمعنا في حلقة لسماع موسيقى بيتهوفن وموزار. وكان كذلك يحبّ الرياضة ويحثّ على ذلك بالرّغم مما يبدو من نحافة جسمه ومن ضعف. وكان كذلك يلقي المحاضرات. وهذه الصورة المتكاملة كنّا نسمع عنها من قريب ومن بعيد. كان يشارك جلساءه في قرض الشّعر وفي مطارحة القضايا اللغوية. وكان مشاركا، وكان نموذجيا متألّقا في عالم الفكر إذ ذاك في بداية الاستقلال ... وكان متصدّرا، وكان متزعّما لمثقّفيها. بالنّسبة لي هذه الصّورة المتكاملة كانت تُثيرني وكانت تجذبني".
ونضيف أنّه كان لاعبا ماهرا في الشّطرنج، ومهتمّا جدا بفنّ التصوير، وبسبب هذا الشّغف اقتنى كاميرا متطوّرة، وبهذه الكاميرا سيوثّق ما سيعتبره هو نفسه أهم لقاء في حياته، وذلك عام 1966م، حين سيعيش أزمة روحية خانقة، ولن يُخرجه منها سوى لقائه مُنقذه ومربّيه الشّيخ العبّاس، حين سيذهب إليه "بفتيلته مزيّتةً" إلى مقرّ زاويته في شرق المغرب. وهذا هو ما قصدناه في العنوان بالتّحوّل الأوّل.
إطلالة خفيفة على لائحة أسماء أصدقائه وتلامذته الذين اشتركوا معه في التّهمم التربوي، واشترك الكثير منهم معه في التّكوينات والتّأليفات والمسؤوليات، ومنهم من تقلّد مسؤوليات حكومية ومناصب قريبة جدّا من رجالات السّلطة بما فيه القصر نفسه، وآخرهم أحمد التّوفيق وزير الأوقاف والشّؤون الإسلامية الذي ما زلنا ننتظر ما الذي سيكتبه عن أستاذه القديمة ضمن ما سيرته التي صدر منها جزآن لحدّ الآن تحت عنوان "والد وما ولد"، هذه الإطلالة تبيّن أن الرّجل بالفعل كان متميّزا، وكان المستقبل الوظيفي يهتبل به لولا أنّه اختار مسلكا وعرا جدّا، سيجرّ عليه الكثير من المتاعب، وهو بدون أدنى شكّ الطريق الذي سيجعل منه عبد السّلام ياسين الذي نعرفه اليوم، وتلك قصّة أخرى أشدّ تركيبا وأكثر ثراءً تستحقّ أن تُروى.
(تنويه: اعتمدتُ في كتابة هذه المقالة على مراجع ومصادر كثيرة، بعضها مكتوب وآخر مرئيّ، ولكن يبقى كتاب "عبد السلام ياسين الإمام المجدد" لمحمد العربي أبي الحزم أهمّها).
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير عبد السلام ياسين المغربية السياسة المغرب تاريخ سياسة عبد السلام ياسين اسلاميون سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الوقت الذی المعل مین التی کان عبد الس من عمره ولم یکن ن یاسین ولکن ه کانت ت لم یکن فی الس فی الت
إقرأ أيضاً:
اللغة التي تفشل
تكتمل الكارثة بالعجز اللغوي عن وصفها. لم نعد قادرين على القول؛ لأن القول لم يعد قادرًا على ممارسة أفعاله، ولأن القول العاري من الإرادة موعود بخيانة نفسه. سولماز شريف، الشاعرة الأمريكية الإيرانية الأصل كانت قد كتبت ذات مرة:
«كل قصيدة فعل.
كل فعل عمل سياسي.
ولذا فكل القصائد سياسية». (اقرأ مقالتها «الخصائص شبه المشتركة بين السياسي والشعري: المحو» بترجمة مزنة الرحبية، على مجلة الفلق الإلكترونية).
تذكرنا شريف، فيما ننسى، بأن تسييس القصيدة ليس مسألة اختيار، بل هو شرط شعري مسبوق بشرط أول: أن تكون القصيدة فعلاً. فعل القصيدة شرط شعري لا حياد عنه. على القصيدة أن تفعل فعلها السياسي، «أن تدقَّ جدار الخزان» بتعبير غسان كنفاني كي تتحقق شعريًا. وبهذا المعنى تضع سولماز شريف شعرنا المكتوب في خضم الكارثة أمام تحدٍ وجودي يعيدنا للبحث في أزمة سابقة تتعلق بالدولة والحرية، وبالفضاء السياسي للغة عمومًا: كيف نكتب شعرًا «فاعلًا» بلغة معقَّمة معطَّلة سياسيًا من الأساس؟ فإذا كانت الخطب المنبرية الصريحة تفشل فشلها الذريع في الفعل، فكيف لإيماء الشعر أن يفعل بهذه اللغة المقهورة سياسيًا؟! يدهشني أن أقرأ عن غزيين يحاولون تعلم اللغة الإنجليزية كلغة طوارئ يترجمون بها معاناتهم للعالم. ولعل هذا الشاهد هو الأبلغ على فشل هذه اللغة، العربية، وعلى عطالتها السياسية، اللغة التي لم تعد تسعف، ولم تعد تلبي مهمة التواصل والوصول.
«قهر اللغة» هو الفصلُ الأقسى من فصول هذه الإبادة المفتوحة، حين تنتحر الكلمات على حدود السياج الخفي، الفاصل الواصل بين اللفظ ودقة المعنى. اللغة المقهورة التي ظلت عاجزة عن الفعل السياسي نكتشف اليوم، في امتحانها الأصعب، أنها مصابة بالعجز حتى أن الإيفاء بوظيفتها الأخيرة «التعبير». ولكن من منَّا الآن على استعداد ليقرَّ بعجز لغته عن التعبير، فضلاً عن الإتيان بجديد في هذا المناخ من الاستعصاء المرير، استعصاء ما بعد الصدمة؟!
سؤال الإبداع في الإبادة هو أيضًا سؤال إشكالي من ناحية أخلاقية وفلسفية في الآن نفسه: كيف لنا، قبل أي شيء، أن نبحث في الإبادة عن معنى؟ معنى جديد؟ كيف نطالب بإبداع من وحي الإبادة دون أن نجد في هذا المطلب تناقضًا فلسفيًا من قبل أن يكون أخلاقًيا؟ أوليس في هذا التسول البائس تواطؤًا يجعل من الكتابة «الجمالية» عن الإبادة تطبيعًا لها، أو توكيدًا ضمنيًا لما تسعى لاستنكاره؟ ربما تصبح مقولة أدورنو الشهيرة عن استحالة كتابة الشعر بعد «أوشفيتز» ضرورية في هذا السياق، حتى وإن بدت لنا مكابرة الكتابة في هذا الظرف، رغم قهر اللغة، مكابرةً أخلاقيةً مشروعة، بذريعة أن بديلها المطروح ليس سوى الصمت، الصمت عن الجريمة.
ما الذي يمكن فعله بهذه اللغة التي تفشل؟ على مدى عامين تقريبًا وأنا أراقب لغتي بخوف وحذر. الإبادة المستمرة هناك تمتحن لغتي هنا كما لم أعرف من قبل امتحانًا في اللغة. كيف يكتب اليوم من لم يهيئ نفسه وأدواته من قبل لاستقبال العالم بهذه الصورة؟ ثمة وحشية فاجرة، أكبر من طاقة اللغة على الاستيعاب. عنف يحشرني في زاوية ضيقة من المعجم، وهو ما يجبرني على تعلم أساليب جديدة في المراوغة والتملص للنجاة من هذا الحصار، حصار السكوت الذي لا يقترح إلا الكلام الجاهز.
أستطيع أن أحدد يوم السابع من أكتوبر 2023 تاريخًا لبداية مرحلة جديدة من لغتي. صرتُ كثير التَّفكر في اللغة باعتبارها موضوعًا موازيًا للعالم. بات عليَّ أن أُعقلن لغتي أكثر، أن أرشِّدها، وأن أتحداها في الوقت نفسه. يظهر هذا في تلعثمي وتعثري بالألفاظ كلما حاولتُ الكتابة أو الحديث عن الإبادة التي لم أعد أستطيع التعبير عنها بأي شكل من الأشكال دون الدخول في صراع مع اللغة وإمكانياتها. حتى وأنا أكتب كلمة «إبادة» الآن أصطدم بفراغ عدمي بعد الكلمة، وأدخل في متاه مفتوح لا يؤدي إلى أي شيء، عدم يحيل هذه الكلمة إلى مجرد لفظة إجرائية فقدت حوافها وحدودها من فرط الاستهلاك اليومي.
تختبر الحرب قدرة الشعر والفكر على امتصاص الصدمة واستقبال الفجيعة. حدث هذا جليًا في عقب الصدمة التي ولَّدتها النكسة سنة 1967، سنة الانقلابات الشخصية والتحولات الكبرى في صفوف الشعراء والمثقفين العرب. وهو ما يحدث اليوم وعلى مدى أشهر في صورة أكثر بطئًا وتماديًا. والحرب تأتي لتفحص جهوزية اللغة ولتعيد تشكيلها في نهاية المطاف. إنها تعبثُ بالعلاقة بين الدال والمدلول، وتبعثر الاستعارات القديمة لتأتي باستعاراتها الجديدة، وتفرض مع الوقت معجمها الموحَّد الذي توزعه على الجميع. كما تفتحُ الحرب الباب للشعراء الهواة لتقديم استقالاتهم والانصراف البيوت (لا شاعر للمهمات الصعبة اليوم)، وإن كانت في الوقت نفسه توفر مناخًا انتهازيًا لهذه الفئة من الشعراء المتسلقين على المراثي وأحصنة الحماسة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني