مدخل إلى الإشكالية
لطالما كان التفاعل مع الثقافة الغربية جزءًا لا يتجزأ من مسيرة المثقف السوداني، حيث تنوعت أشكال هذا التفاعل بين الاستلهام النقدي، والتبني الحذر، والتبعية غير المشروطة. ومع تزايد العولمة وسهولة الوصول إلى المعارف، تصاعد الجدل حول مدى تأثير الثقافة الغربية على الهوية الفكرية للمثقف السوداني، وما إذا كان هذا التأثير يشكّل إثراءً معرفيًا أم استلابًا ثقافيًا.

هذا المقال يحاول تحليل هذه الإشكالية من خلال منهجية تحليل الخطاب الثقافي المعاصر، مع التركيز على الجدلية بين الحداثة والمحافظة، وأزمة الإبداع، وحالة الشتات الثقافي التي يعيشها المثقف السوداني.

جدلية الهوية والتأثير الثقافي: بين الحداثة والمحافظة
التيار الحداثي
يعتبر هذا التيار أن الثقافة الغربية تمثل أدوات ضرورية للتحديث والتقدم، خاصة في مجالات مثل الديمقراطية، حقوق الإنسان، والفلسفة العقلانية. يمكن أن نجد هذا التيار ممثلًا في أعمال مفكرين مثل عبد الله الطيب، الذي تأثر بالأدب الإنجليزي، لكنه أعاد صياغته ضمن سياق عربي-إسلامي في كتابه الشهير "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها". كذلك، محمد عبد الحي يُعد نموذجًا لمثقف سوداني تبنّى رؤية حداثية عبر "مدرسة الخرطوم" الشعرية، التي دمجت التأثيرات الغربية مع التراث الإفريقي والصوفي.

التيار المحافظ
على الطرف الآخر، يعبر هذا التيار عن مخاوف من فقدان الهوية الثقافية، حيث يُنظر إلى الثقافة الغربية كتهديد للقيم والتقاليد المحلية. نجد في كتابات الطيب صالح، خاصة رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، تصويرًا واضحًا لهذه الجدلية، حيث يظهر البطل "مصطفى سعيد" كمثقف مستلب، يخوض صراعًا داخليًا بين ثقافته الأصلية والهوية الغربية التي تبناها. هذا التيار يتجلى أيضًا في خطابات تدعو إلى الحفاظ على "الأصالة" و"الخصوصية الثقافية"، لكنه قد يقع في فخ الانغلاق والرفض المطلق لأي تأثير خارجي.

تحليل الجدلية
يمكن القول إن الصراع بين هذين التيارين يعكس أزمة هوية يعيشها المثقف السوداني، حيث يحاول التوفيق بين الانتماء إلى تراثه الثقافي والانفتاح على العالم. هذه الأزمة تتجلى بوضوح في الكتابات الفكرية والأدبية، التي تتأرجح بين الدعوة إلى التحديث والتحذير من الاستلاب.

بين الترجمة والتبعية: أزمة الإبداع
الترجمة النقدية
تُعتبر الترجمة أداة أساسية في نقل المعرفة، لكنها ليست مجرد نقل نصوص، بل عملية ثقافية معقدة تتضمن إعادة إنتاج الأفكار في سياق جديد. بعض المثقفين السودانيين اعتمدوا الترجمة كوسيلة لفهم الثقافة الغربية وإعادة توظيفها محليًا. على سبيل المثال، نجد أن الفيصل عبد الرحمن علي طه قدَّم ترجمات قانونية وفكرية تسهم في إثراء الخطاب القانوني السوداني برؤى عالمية.

التبعية الحرفية
على النقيض، نجد مثقفين آخرين يتبنون الأفكار الغربية دون نقد أو تحليل، مما يؤدي إلى إنتاج خطاب فكري يفتقر إلى الأصالة. هنا يمكن الإشارة إلى بعض تيارات الماركسية السودانية التي استوردت مفاهيم الصراع الطبقي بصيغتها الغربية دون مراعاة السياق السوداني، مما أدى إلى تصادم مع الواقع المحلي.

تحليل الأزمة
أزمة الإبداع هنا تكمن في عدم القدرة على تحقيق التوازن بين الاستفادة من الثقافة الغربية والحفاظ على الهوية المحلية. هذا يتطلب تطوير أدوات نقدية تسمح للمثقف بفهم الثقافة الغربية بشكل أعمق، وإعادة توظيفها في إنتاج معرفة أصيلة.

المثقف في شتات ثقافي: بين التوفيق والتمزق
التوفيق الإيجابي
بعض المثقفين تمكنوا من تحقيق توازن بين الثقافتين، حيث استخدموا الأدوات الفكرية الغربية لفهم وتحليل واقعهم المحلي. مثال ذلك عبد الله علي إبراهيم، الذي يوظف مفاهيم من النقد الثقافي الغربي لفهم التحولات الاجتماعية والسياسية في السودان.

التمزق الثقافي
في المقابل، نجد مثقفين يعيشون صراعًا داخليًا يجعلهم عاجزين عن إنتاج معرفة أصيلة. هذه الحالة تتجلى في مثقفين يتحدثون بلغة النخبة الغربية، مما يجعلهم معزولين عن واقعهم المحلي.

تحليل الشتات الثقافي
حالة الشتات الثقافي تعكس التحديات التي يواجهها المثقف السوداني في ظل العولمة. التغلب على هذه التحديات يتطلب تطوير خطاب نقدي يسمح بفهم الثقافة الغربية بشكل أعمق، وإعادة توظيفها في إنتاج معرفة محلية.

المرأة المثقفة في السودان: إعادة تعريف الهوية بين التراث والحداثة
المرأة المثقفة في السودان تواجه تحديات فريدة في تفاعلها مع الثقافة الغربية، حيث تجد نفسها في صراع بين الانفتاح على الحداثة والالتزام بالتقاليد المحلية. ومع ذلك، فإن العديد من النساء المثقفات استطعن إعادة تعريف دورهن في ظل هذه التحديات، مستفيدات من الثقافة الغربية دون فقدان جذورهن الثقافية.

إيمان صاخبة: تُعتبر إيمان صاخبة، مؤسسة موقع "سودانية فور أول" ومفكرة وشاعرة، نموذجًا للمرأة المثقفة التي تفاعلت مع الثقافة الغربية بشكل نقدي. من خلال كتاباتها، استطاعت أن تدمج بين الأدوات الفكرية الغربية والرؤية المحلية، مما جعلها صوتًا مؤثرًا في الخطاب الثقافي السوداني.

فاطمة عبد المحمود: كسياسية وطبيبة، تُعد فاطمة عبد المحمود نموذجًا للمرأة التي استفادت من التعليم الغربي دون أن تفقد ارتباطها بالواقع السوداني. كانت ;كأمرأة سودانية تتقلد منصبًا وزارياً، واستخدمت خبراتها الدولية في خدمة قضايا المرأة والتعليم في السودان.

بليس بدري: كأكاديمية وناشطة في مجال التعليم، لعبت بلقيس بدري دورًا محوريًا في تطوير التعليم العالي في السودان. استفادت من خبراتها الدولية في إعادة صياغة مناهج الجامعة التعليمية لتلائم السياق السوداني، مما يعكس قدرتها على التوفيق بين الثقافة الغربية والتراث المحلي.

نحو استعادة المثقف لذاته
لتجاوز أزمة الاستلاب، يجب على المثقف السوداني أن يعيد تعريف دوره في ظل التفاعل مع الثقافة الغربية. هذا يتطلب:

النقد الذاتي: يجب على المثقف أن يطور وعيًا نقديًا بذاته، حيث يميز بين الإلهام والاستلاب.

إنتاج معرفة أصيلة: السعي لإنتاج معرفة تعكس واقع المجتمع السوداني، دون الانغلاق على الذات أو التبعية للآخر.

إعادة توظيف المفاهيم الغربية: بدلاً من استيرادها كما هي، يجب تكييفها وفقًا للسياق السوداني.

يظل المثقف السوداني في قلب معركة الهوية والثقافة، حيث يواجه تحديًا مزدوجًا هو الاستفادة من المعارف الغربية دون السقوط في التبعية، والتمسك بجذوره الثقافية دون الوقوع في الانغلاق. وبين هذين الحدين، تتشكل رؤى جديدة قد تؤدي إلى نهضة فكرية تدمج الأصالة بالمعاصرة في إطار أكثر توازنًا واستقلالية.

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: مع الثقافة الغربیة المثقف السودانی الغربیة دون فی السودان هذا التیار

إقرأ أيضاً:

مجلس صحار الثقافي.. منارة للإبداع

 

 

 

جابر حسين العُماني **

[email protected]

 

يُعد مجلس صحار الثقافي من أهم الصروح الثقافية العُمانية، والتي لها دورها الفعّال في نشر المعارف العلمية الرصينة في المجتمع المحلي والخارجي، ومنذ أن تأسس وإلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال لا يزال القائمون على المجلس يعملون بجدٍّ واجتهادٍ كخلية نحلٍ لا تكلّ ولا تملّ، حاملين رسالة الثقافة العُمانية الأصيلة، التي تعزّز الوعي الاجتماعي وإحياء التراث الوطني وتعريفه للعالم، واحترام العقول، وتشجيع الحوار العلمي البنّاء، وممارسة الإبداع واستغلاله في المجالات الحياتية المتنوعة؛ سواء على الصعيد الثقافي أو الأدبي أو الفكري، والمُساهمة الجادة في حفظ ذاكرة الأمم.

يسعى مجلس صحار الثقافي بما يمتلكه من رؤى ثاقبة، وطاقات شبابية عُمانية مخلصة، إلى الإسهام الدائم والفعّال في بناء المجتمع فكرًا ومنهجًا، بما يليق بالثقافة العُمانية الأصيلة التي لا تنبتُ إلّا طيبًا.

لقد عمل المجلس على تقديم منصات حوارية تجمع الأدباء والباحثين والمؤلفين المخلصين في المجتمع العُماني، سعيًا منه إلى إبراز الهوية الوطنية بأجمل صورها للجميع. وذلك من خلال تنظيم الفعاليات الثقافية المتواصلة، التي تسلّط الأضواء على الموروث العُماني العريق، والتعريف بالتاريخ المشرق في سلطنة عُمان. وقد كان لتلك البرامج أثرٌ واضحٌ في ترسيخ الانتماء الوطني لدى الأجيال الناشئة، وربطها بماضي الأجداد المجيد.

يولي مجلس صحار الثقافي منذ الوهلة الأولى لتأسيسه وحتى اللحظة، اهتمامًا كبيرًا لتنمية المواهب الأدبية، ودعمها وصقلها وتشجيعها، سواء على صعيد الكتابة والرسم، والقصة والرواية، أو الفنون الأخرى المختلفة، وذلك باستضافة المبدعين والموهوبين من شباب الوطن، الذين نذروا أنفسهم وسخّروا طاقاتهم المتفتِّقة بنور العلم والفهم لخدمة الوطن وأهله الكرام، وإتاحة الفرصة لهم لتقديم تجاربهم الإبداعية والمساهمة بذلك في خدمة الوطن والمجتمع.

ومن الجهود الطيّبة المبذولة في المجلس أيضًا، الاهتمام بالكتّاب العُمانيين، وفي الوقت نفسه تسليط الضوء الإعلامي على إصداراتهم الفكرية ومناقشتها، وتعريفها للمجتمعات العربية والإسلامية، بحيث يسهم ذلك في حركة واضحة للنشر في المجتمع المحلي والخارجي، كما يسعى المجلس مشكورًا لكي يكون الملاذ الآمن للباحثين والمؤلفين والمفكرين، وذلك بتعزيز الحوار وتفعيله في أهم القضايا الإنسانية والاجتماعية التي يحتاجها المجتمع، ويأتي ذلك من خلال عقد الكثير من الجلسات الفكرية النقاشية المستمرة، التي تهتم بفنون الأدب بكافة أشكاله وأنواعه، وبما يتناسب مع القيم والمبادئ العُمانية السمحة التي تربى عليها الإنسان العُماني.

وإن من أهم الموارد التي ينبغي الاهتمام بها على الصعيد الثقافي هو الاستثمار الحقيقي للإنسان، وتعزيز مستقبله بين الأمم. ولا يزال مجلس صحار يبرهن للجميع أنه نموذج حقيقي للبناء الناجح، لما يملكه من طاقات فكرية شبابية تؤهله للإسهام الفاعل والمستمر في رقي المجتمع العُماني وازدهاره.

ومن هنا، ينبغي على الجهات الرسمية في البلاد توفير الدعم اللوجستي والمالي والإعلامي لتعزيز ما يقوم به المجلس من فعاليات وأنشطة ثقافية مباركة، تسهم في حفظ المجتمع من الجهل والتجهيل، وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "الجهل أصل كل شرّ".

اليوم.. نحن بحاجة ماسة إلى أن نحذو حذو مجلس صحار الثقافي، وأن ننشئ مجالس مماثلة في بقية الولايات تُعنى بالشأن الثقافي وتسهم في نشر الوعي بين أفراد المجتمع بصورة أوسع وأكثر فاعلية، حتى يتمكن الجميع من نبذ الجهل والتمسك بالقيم الإنسانية والاجتماعية.

ختامًا.. إنَّ ما نأمله اليوم من كافة الجهات الرسمية والمُجتمعية على كافة الأصعدة هو أن تتضافر الجهود لتكون يدًا واحدة في دعم مجلس صحار الثقافي، وكذلك المجالس المُماثلة له حتى تتمكن من أداء واجباتها الثقافية على أكمل وجهٍ مُمكن، وبالتالي نستطيع جميعًا تحقيق الأهداف الرسالية في خدمة الوطن وأبنائه الكرام.

** عضو الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • الوفد المصري يحتفل بتسجيل الكشري في قوائم التراث الثقافي غير المادي
  • السوداني يوجه بإغاثة اقليم كوردستان نتيجة سيول الأمطار الشديدة
  • معرض الأسرة والطفل يُثري فعاليات "ملتقى إزكي الثقافي"
  • 66 فنا وحرفة تتنافس على قوائم التراث الثقافي باليونسكو
  • حي حراء الثقافي يعزّز التجربة السياحية بتنظيم رحلات إلى غار حراء
  • عُمان تتمكن من إدراج "البشت" ضمن التراث الثقافي غير المادي لليونسكو
  • مستشار السوداني: القانون يمنع الحكومة من الاقتراض الداخلي والخارجي حالياً
  • وزير الثقافة يلتقي نظيره الأذربيجاني لبحث آليات تعزيز التعاون الثقافي
  • السوداني يدعو من بغداد الى احياء مشروع السياحة العربية المشتركة
  • مجلس صحار الثقافي.. منارة للإبداع