شهدت الساحة السورية مؤخرا توقيع اتفاق بالغ الأهمية بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يقضي باندماج الأخيرة ضمن مؤسسات الدولة السورية، مع تأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم والفدرلة التي طُرحت سابقا. هذا الاتفاق، الذي بدا مفاجئا للكثيرين في توقيته وسرعة إنجازه، لم يكن سوى نتيجة منطقية لتراكم عوامل استراتيجية وأمنية دفعت الأطراف إلى الالتقاء عند نقطة مشتركة، بعد أن بات استمرار التعنت السياسي خيارا مكلفا، لا سيما لقسد التي وجدت نفسها أمام حائط مسدود.



التحليل الجوهري لهذا الاتفاق يبدأ من الخارج لا من الداخل، فقد بدا واضحا أن تحولات السياسة الأمريكية تجاه سوريا -وتحديدا بعد عودة إدارة ترامب- مثّلت عاملا حاسما في تغيير قواعد اللعبة. الأكراد أدركوا أن الملف السوري أصبح هامشيا في أولويات واشنطن، وأن استمرار المراهنة على المظلة الأمريكية بات عبثا في ظل تقارب شخصي واستراتيجي بين ترامب وأردوغان، ما جعل قسد في مرمى التهديد التركي دون وجود ضمانات حقيقية من حلفائها الغربيين.

ما كان بالأمس ورقة ضغط أمريكية في وجه النظام السوري، أصبح اليوم عبئا جيوسياسيا لا يجد من يدافع عنه، الأمر الذي دفع قيادة قسد إلى البحث عن مظلة بديلة، ولو كانت تلك المظلة هي دمشق نفسها
فما كان بالأمس ورقة ضغط أمريكية في وجه النظام السوري، أصبح اليوم عبئا جيوسياسيا لا يجد من يدافع عنه، الأمر الذي دفع قيادة قسد إلى البحث عن مظلة بديلة، ولو كانت تلك المظلة هي دمشق نفسها.

التحول الإقليمي لم يقتصر على واشنطن وأنقرة، بل شمل أيضا عودة التفاهم العربي السني مع الحكومة السورية، وخصوصا مع الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، التي نجحت في إحداث اختراق واسع في الحاضنة العربية والدولية، رغم كل ما يحيط بها من تعقيدات داخلية.

هذا الالتفاف العربي، بالإضافة إلى صمت أوروبي مدروس حيال تطورات الساحل السوري والقمع الذي شهدته بعض المناطق، بعث برسالة صريحة لقسد والدروز معا بأن مشاريع الكانتونات والفدرلة لم تعد تجد آذانا صاغية، وأن البديل الواقعي الآن هو إعادة التموضع ضمن مؤسسات الدولة السورية.

من العوامل غير المعلنة التي سرّعت توقيع الاتفاق، كانت تحركات ما يُعرف بـ"فلول الأسد" المدعومة من إيران عبر العراق وحزب الله، والتي بدأت تنشط في دمشق والساحل بشكل ممنهج. تزامن ذلك مع محاولات كردية للتقدم عبر سد تشرين، فقوبلت هذه الخطوات بتدخل عسكري تركي مباشر وتلويح صريح بالحرب، ما جعل القيادة الكردية تدرك أن الصدام مع دمشق بدعم تركي يعني خسارة حتمية في ظل غياب الدعم الأمريكي وتآكل التفاهمات الإقليمية.

رغم كل الخطابات العلنية التي توحي بأن الاتفاق تم بقرار داخلي سوري بحت، إلا أن الواقع يُظهر أن واشنطن كانت حاضرة، وإن من خلف الستار. فالمفاوضات بين قسد ودمشق جرت تحت رعاية أمريكية ضمنية، في محاولة لتأمين خروج ناعم لقسد دون أن تبدو وكأنها انهارت سياسيا. وهذا يعكس الدور المزدوج الذي تمارسه الولايات المتحدة: تتنصل رسميا من الملف، لكنها تُبقي على أدوات ضبطه خلف الستار.

النقطة الأخطر في الاتفاق تكمن فيما غُيّب عمدا من نصوصه: مصير مخيمات داعش. مخيم الهول وسجن غويران، اللذين يضمان أكثر من 20 ألف معتقل من التنظيم، لم يُذكر مصيرهما بوضوح. الحكومة السورية طالبت منذ البداية بإدارتهما، لكن الاتفاق لم يحسم هذه المسألة، ما قد يشكّل قنبلة موقوتة قابلة للتفجير في أي لحظة، خصوصا أن المجتمع الدولي يعتبر هذا الملف من أولوياته الأمنية.

واحدة من المكاسب غير المباشرة التي جناها النظام السوري من الاتفاق هي استعادة السيطرة على مصادر الطاقة الحيوية في شمال شرق سوريا، خصوصا حقول النفط والغاز والقمح والمياه. وقد بدأت أولى المؤشرات فعليا بتحركات دولية اقتصادية لافتة: تواصل الحكومة القطرية مع وزارة النفط السورية، وطلب بعض منظمات الأمم المتحدة ملف مصفاة حمص لدراسة إعادة تأهيلها.

قطر لم تقف عند حدود مراقبة التطورات، بل بادرت بشكل مبكر ومسؤول إلى فتح قناة تواصل مع وزارة النفط السورية، في خطوة تعكس فهما عميقا لأهمية استقرار سوريا ومتانة بنيتها الاقتصادية. المبادرة القطرية لم تكن مجرد استجابة لنداء أو ظرف طارئ، بل بدت وكأنها تحركٌ مدروس يُعيد تثبيت الدور العربي في لحظة كانت تحتاج فيها سوريا إلى يدٍ تمتد نحوها لا مجرد بيانات تضامن عابرة. والاهتمام بواقع مصفاة حمص يعزز هذا التوجّه،الاتفاق ليس انتصارا سياسيا بقدر ما هو اعتراف متبادل بالواقع: قسد تخلّت عن حلمها الفيدرالي، والنظام السوري أعاد دمج شريحة كبيرة من خصومه دون معارك. لكنه في الوقت ذاته يحمل بذور توترات مستقبلية في إشارة إلى بداية تحركات جادة لإعادة تأهيل البنية التحتية للطاقة، بما يفتح الباب أمام تحسين إنتاج الكهرباء واستعادة جزء من الاستقرار الاقتصادي والخدمي.

إذا تحقق هذا المشروع، فإن الحكومة السورية قد تتمكن من رفع إنتاج الكهرباء من 1500 ميغاواط إلى نحو 4500 ميغاواط، وهو إنجاز استراتيجي سيمنح دمشق قدرة أكبر على تثبيت سلطتها في الداخل، وتعزيز الشرعية عبر خدمات أساسية طالما عجزت عن توفيرها خلال السنوات الماضية.

الاتفاق ليس انتصارا سياسيا بقدر ما هو اعتراف متبادل بالواقع: قسد تخلّت عن حلمها الفيدرالي، والنظام السوري أعاد دمج شريحة كبيرة من خصومه دون معارك. لكنه في الوقت ذاته يحمل بذور توترات مستقبلية: من سيدير مخيمات داعش؟ كيف سيتم دمج المؤسسات العسكرية دون احتكاك؟ وهل ستقبل أطراف داخلية نافذة بهذا الترتيب الجديد؟

لكن الواضح أن ميزان القوى في سوريا دخل طورا جديدا، عنوانه: "العودة إلى المركز"، بعد سنوات من التشتت السياسي والمناطقي. فالفيدراليات سقطت، والتقسيم بات مشروعا مستحيلا، ودمشق استعادت زمام المبادرة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا قسد الأمريكية الشرع سوريا تركيا أمريكي الشرع قسد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحکومة السوریة

إقرأ أيضاً:

فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)

الجديد برس| خاص| تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الساعات الماضية، مقاطع فيديو ، رصدها الجديد برس” تكشف ما وصفوه بفضيحة مدوية تتعلق بالمساعدات الإماراتية المقدمة لقطاع غزة، حيث أظهرت المقاطع عبور شاحنات تحمل لافتات “مساعدات من دولة الإمارات” نحو القطاع وهي فارغة تمامًا. ووثّقت المقاطع التي التُقطت من عدة زوايا، دخول الشاحنات عبر المعابر المؤدية إلى غزة دون أي حمولة في صناديقها، في مشهد أثار موجة استنكار وسخط واسع، وسط اتهامات للإمارات وبعض الدول العربية بالتواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي في تشديد الحصار وتجويع السكان المحاصرين. وكانت الإمارات قد أعلنت يوم أمس ، دخول قافلة مساعدات إماراتية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح المصري، ضمن ما اسمته “عملية الفارس الشهم3” الإنسانية. ورأى نشطاء ومراقبون أن هذا المشهد لا يمثل فقط خداعًا للرأي العام، بل يكشف عن استخدام “المساعدات الإنسانية” كأداة دعائية لتمرير مواقف سياسية تتماهى مع سياسات الاحتلال، على حساب المأساة التي يعيشها أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع. وتأتي هذه الفضيحة وسط تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، حيث تعاني المستشفيات من نقص حاد في الإمدادات الطبية والغذائية، مع استمرار العدوان الإسرائيلي والحصار الخانق، ما يجعل أي تلاعب بالمساعدات قضية إنسانية وأخلاقية كبرى تستدعي تحقيقًا دوليًا ومساءلة علنية، بحسب نشطاء حقوقيين. https://www.aljadeedpress.net/wp-content/uploads/2025/07/فضيحة-اماراتية-في-غزة-شاحنات-بدون-مساعدات.mp4

مقالات مشابهة

  • الواقع القضائي في سوريا والتحديات التي تواجه عمل العدليات خلال اجتماع في وزارة العدل
  • باريس تحتضن المفاوضات بين الإدارة السورية وقسد
  • توفيق عكاشة: الصورة السلبية التي تُسوَّق عن الإسلام تعود إلى أفعال جماعات متطرفة
  • وزير الاقتصاد والصناعة الدكتور محمد نضال الشعار: سوريا الجديدة هي المنتجة التي تعيد تشكيل معاملها وبناء إنتاجها
  • حمزة: أدعو جميع الشركات والمستثمرين الوطنيين والدوليين للمشاركة في هذا الحدث الاقتصادي النوعي كما أدعو الجميع لزيارة المعرض والتعرف على التطورات الاقتصادية والصناعية والثقافية والاجتماعية التي تشهدها سوريا
  • حمزة: تلقينا حتى الآن تأكيدات بمشاركات دولية كبيرة إضافة إلى مشاركة فاعلة من المحافظات السورية والقطاعات الصناعية والزراعية والحرفية وهو ما يجعل من هذه الدورة منصة وطنية شاملة تعبر عن قدرات سوريا وتنوعها
  • حمزة: هذه الدورة تعكس إرادة الدولة السورية في العودة القوية إلى واجهة الاقتصاد الإقليمي والدولي
  • المدير العام للمؤسسة السورية للمعارض والأسواق الدولية محمد حمزة: معرض دمشق الدولي حدث تاريخي عريق طالما شكل علامة فارقة في المشهد الاقتصادي السوري والعربي والدولي
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • 4 انفجارات متتالية تهز العاصمة السورية دمشق