لجريدة عمان:
2025-07-26@23:28:20 GMT

النّـزاع على حقـوق الإنسـان

تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT

ليس النّـزاعُ على حـقـوق الإنسان نزاعا حصـريّا بين مَـن يتمسّـكون بها مناضلين عنها بثـباتٍ وإصـرارٍ، من جهـة، ومَن يَعـتسفونَـها ويَـنْهكـون حُرمتها، شديـدَ النَّـهْك، من جهـةٍ مقابلة. قـد يكون هـذا هو النّـزاع الـرّئيس بين المنزوعـة حقوقُـه بالقـوّة -فـردا كان أو جماعةً- والمتسـلِّطِ الغاشم الذي يصادِرها مـن النّاس بالإكـراه، غير أنّـه ليس وحـدهُ النّـزاع الدّائـر عليها في المجتمع ولا هو يُخفي، بالتّالي، أنواعا أخرى من النّـزاع في شأنها تـتوزّع فيها قواها على مواقـعَ متباينة وأحياناً متناقضة في المسألة.

تـتبيّـن قيـمةُ التّعريج على النّـزاع على هذه الحقوق حين نأخـذ في الحسبان ما كان سائدا من معـتـقـدٍ حقوقيّ وسياسيّ في العالـم -وإلى عهـدٍ قريب- عن صلة النّسب بين فـكرة حقـوق الإنسان والفكر السّياسيّ اللّيبراليّ؛ حيث دُرِج على تلك النّسبة حتّى باتت من بداهات السّياسة والفـكر السّياسيّ! وليس الأمرُ كذلك، أَلْـبَتَّـةَ، لأنّ تيارات فـكريّـةً وسياسيّة أخرى، غيرَ التّـيّار اللّيبراليّ، كانت شريكا أصيلا في الـدّفاع عن تلك الحقوق وأنتجت مفاهـيمَها الخاصّة لِـتُـبْـنَى عليها استراتيـجيّاتُ عمـلٍ على الصُّـعد المدنيّـة: الحقوقـيّـة والمطلبيّـة ثـمّ السّياسيّـة؛ الأمر الذي يعني أنّ الأيـديولوجيا اللّيبراليّة لم تكن صاحبةَ وكـالةٍ حصريّـة -كما زعـمتْ ألسنـتُها وأقلامُـها- للنّـطق باسم إرادة حماية حقوق الإنسان والمدافَعة عنها في وجه القـوى السّلطويّـة التي تعـتـدي عليها أو تـنال منها.

نعْـلم، على القطـع، أنّ نزاعا على مفهـوم حـقـوق الإنسان نَـشب -واستمـرّ طـويلا- بين تـيّارات أيـديولوجيّـة وسياسيّـة أربعـة جـرّب كـلُّ واحـدٍ منها أن يتـمسّـك بمفهومـه لتلك الحقوق ناظرا إليه بوصفه الصّحيح أو، على الأقـلّ، بوصفـه الأَوْلى بالاعتـناء من غيره. هـذه حقيقة شهـدت عليها قضيّة حـقـوق الإنسان في مجتمعات العالم كـلِّها، مع ملاحظة أنّ غلبة مفهـومٍ على غيره من مفاهيـم حـقـوق الإنسان الأربعة هـذه واقـعٌ يُـفسِّـره ما يَحتـلّه في كـلّ منطقة من العالم الكيانُ الذي يُـفْـتَـرَض أنّه مركزُ تلك الحقوق وقُطبُ الرّحى فيها.

والكيانُ الذي نعنيـه، هـنا، هو الكائـن الاجتماعيّ الحامل لقضيّـة حـقـوق الإنسان أو المنظور إليه من حيث هـو الفاعل الاجتماعيّ المُصادَرةُ حقوقُـه والذي ينبغي أن يُـدَافَـع عنها من قِـبَـلِه ومن قِـبَـل مَـن يدعـم حقّــه من القوى الاجتماعيّـة. أمّـا هـذا الكائن فلا يعـدو -في خطابات التّـيّـارات الأربعـة- أن يكون غيـرَ واحـدٍ من هـذه الحدود الأربعـة: الفـرد، الطّـبقـة والفـئـة الاجتماعيّـة، الشّـعب، والأمّــة. وما أغـنانا عـن القول إنّ كـلّ مفهـومٍ من هـذه يكـوِّن نـواةً لأيـديولوجيا من الأيـديولوجيّـات السّياسيّـة الأربع التي تـدخل في معـمعان ذلك النّـزاع على حقـوق الإنسان، مثـلما يـرمـز إلى حقـبـةٍ من حـقـب السّياسـة والفـكـر السّياسيّ في التّاريخ المعاصر.

حـقـوق الإنسان، بالتّـعريف، هي حقـوق الفـرد في الخطـاب اللّيبراليّ؛ فهـو، عنده، مبدأُ المجتمع والوحـدةُ الأساس فيه الذي تعـتـرف به الـدّولة وتَـسُنّ لـه القـوانين وتُـقِـرّ له الحقـوق وتـفرض عليه الواجبات. حـقـوقُه، بهـذا المعنى، حـقـوقٌ مـدنيّـة وسياسيّـة، كانت تـنـتمـي أمـس إلى منظـومة حـقوق المواطَنـة ولكـن صار يُـراد لها اليـوم -في حقبـة الفـردانيّـة العولميّـة- أن تـكون «كونيّـة» عابرة للأوطان والـدّول. في الخطـاب الاشتـراكيّ أو الماركسيّ يخـتلف الأمـر؛ حقـوق الإنسان حقـوق طبقات اجتماعيّـة في الثّـروة (طبقـة عاملة، فلاّحون، طبقـة وسطى، فـئات مهمّـشة...) وحقـوق فـئات اجتماعيّـة مستَحَـقَّـة (نساء، شباب، أطفـال، مستـهـلكون، مهـنـيّـون...)؛ إذِ المجتمع -في هـذا الخطاب- ليس مـؤّلـفا من أفراد، كما يخال الخطاب اللّيبراليّ، بـل من طبقات وفئات اجتماعيّة متناقضةِ المصالح ومتفاوتـةِ المراتب إزاء الثّـروة العامّـة. ولقد وسّع الخـطاب الوطـنيّ دائـرة الجماعة الاجتماعيّـة فانتـقـل بها من الطّـبقة إلى الجماعة الوطـنيّـة ومادّتها الصّلبة (= الشّـعب).

هكذا أصبحت حقوق الشّـعب (= حـقّ تقـرير المصير الوطنيّ وحيازة الاستـقلال والسّيادة مثـلاً) هي جـوهر حـقـوق الإنسان لدى هـذا التّـيّار؛ فيما كان الخطـاب القـوميّ يـذهـب بعيدا في توسعـتـه إطارَ الجماعة الاجتماعيّـة بحيث تُطابِـق حدودُه حدودَ الأمّة. هكذا انتهى معنى حـقـوق الإنسان عنده إلى حيث بات يُـلـحّ على فـكـرة حـقّ الأمّـة في وضع حـدٍّ لتجزئـتها الكيانيّـة واستعادتها لوحـدتها القـوميّـة التي تعـرّضت للتّـمزيق الاستعـماريّ.

مـن البـيّـن أنّ كـلّ مفهـوم لحـقـوق الإنسان، من المفاهيـم الأربعة هذه، يترجم مرحلةً من الوعي الفلسفيّ والسّياسيّ والحقـوقيّ ويقـترن بحوادث العالم الكبرى التي أسّست له وبـرّرتـه. ارتبطت دعوى حقوق الفـرد، في صيغتها الفلسفيّـة- الحقوقـيّـة الأولى (قـ 17 و18)، بالفلسفة اللّيبراليّـة، وفي صيغـتها العولميّة الجديدة الرّاهنة بالنّيوليبراليّـة؛ وارتبطت دعـوى حقوق الطّـبقات والفئات الاجتماعيّـة بصعود الحركات العـمّاليّـة والنّـقابيّـة والمدنـيّة وتنامي الخطاب الماركسيّ (بين نهايات القرن 19 وسبعيـنيّـات القرن 20)؛ فيما اقترنت دعـوى حقـوق الشّـعب بحقبة الاستعمار الأوروبيّ والأمريكيّ واليابانيّ لبلدان الجنوب وصعود حركات التّحرّر الوطنيّ فيها، واقـترنت دعـوى حقـوق الأمّـة بواقعة التّـجزئة الكولونياليّـة التي تـقـطَّعت بها أوصالُ كيانات عـدّة في القارّات الثّـلاث المستعـمَـرَة ونشوء حركات التّـوحيد القوميّ في الجنوب. نحن، إذن، أمام أربعة مفاهيم تـترجم وعي أربعة تـيّارات سياسيّـة وفكريّـة، بل أربعة أجيالٍ من فكـرة الحقّ: الحقوق السّياسيّـة والقانونيّـة (للفـرد)؛ الحقـوق الاجتماعيّـة (للطّـبقات والفئـات)؛ الحقـوق الوطنيّـة (للشّـعوب)؛ ثمّ الحقوق القـوميّـة (للأمم). وهي مفاهيـم تُظْـهِـرُنا على ذلك الذي أسميناهُ نزاعا على مفهوم حقوق الإنسان؛ أي على سعْـيٍ متعـدِّد الأطراف إلى فرض مفهومٍ بعيـنه لها.

هل من تَعارُضٍ، إذن، بين هذه الأنواع من الحقوق التي جرى النّـزاعُ على معناها ويجري، والتي حاول كـلُّ فريقٍ منخرطٍ فيه أن ينـتـزع لنـفسه حقّ احتكـارِ تسميـةِ حقـوق الإنسان وتعيين ماهـيتها؟

ما مِـن تعارُضٍ، في ما نرى، بين حقـوق الآحاد من النّاس وحقـوق الجماعات، طبقاتٍ وفـئاتٍ اجتماعيّـةً وشعوبا وأمما، طالما ظلّ هناك ما يـبرِّر كـلَّ مدافَعَـةٍ عنها. نعم تـتـبرَّر حقوق الفـرد والطّبقة والشّعب والأمّـة جميعُـها طالما ظلّ هناك تسـلُّطٌ، واستغلالٌ (أو سـوء توزيع الثّروة)، واحتلالٌ، وتجزئـة.

إنّها (حقوقٌ) تكون في حالةِ تَعارُض فـقط إنْ أُخِـذَ بها منعزلةً يُـقابِـل بعضُها بعضا. أمّا إن أُخِـذَت مجتمعةً، بوصفها منظومةً غيرَ قـابلة للمقايضة، فـتبدو على نحـوٍ من التّـرابُط والتّداخُـل والتّـضامُن لا لبْس في مشروعيّـته ويرتفع عنها، بالتّالي، ذلك النّـزاع والتّخاصُم الذي يُباعِـد بين حـدودها.

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حـقـوق الإنسان حقـوق الإنسان الاجتماعی ـة اجتماعی ـة الس یاسی یاسی ـة الذی ی

إقرأ أيضاً:

الكليات المتاحة لطلاب العلمي والأدبي في تنسيق الجامعات 2025

ساعات ويبدأ تنسيق المرحلة الاولي من تنسيق الجامعات 2025، ويستعد طلاب الثانوية العامة 2025 ، لعلميات القبول بالكليات المختلفة في تنسيق الجامعات 2025 حسب درجات كل طالب في نتيجة الثانوية العامة 2025 .

خطوات تقدم طلاب الثانوية إلى مكتب تنسيق القبول بالجامعات والمعاهد |فيديوتقترب من الـ 50 درجة| بيان عاجل من الأرصاد بشأن طقس الغد95 % للفني الصحي و87.1% للتمريض و98.3% لهندسة البترول.. مؤشرات تنسيق الدبلومات الفنية 2025

يبحث طلاب الثانوية العامة وأولياء الأمور عن الكليات المتاحة لطلاب الشعبة العلمية علوم ورياضية والشعبة الأدبية بالإضافة إلى أفضل الكليات الجديدة في تنسيق الجامعات 2025 .

أفضل الكليات الجديدة في تنسيق الجامعات 2025 
الكليات المتاحة لشعبة علمي علوم :
* كلية الطب
* كلية طب الأسنان
* كلية الصيدلة
* كلية العلاج الطبيعي
* كلية الملاحة وعلوم الفضاء ببني سويف
* كلية العلوم الصحية التطبيقية
* كلية الطب البيطري
* كلية التمريض
* كلية حاسبات ومعلومات "بايو ميديكال أو بايونفورماتيكس"
* كلية العلوم
* كلية تجاره إنجلش
* كلية الإقتصاد والعلوم السياسية
* كلية الألسن
*كليه الإعلام
* كلية الفنون الجميلة
* كلية الفنون التطبيقية
* كليات التربية والتربية النوعية
* كلية علوم البترول والتعدين بمطروح
* كلية حقوق إنجلش
* كلية اللغات والترجمة
* كلية دار العلوم
* كلية الآداب
* كلية حقوق
* كلية تجارة
* كلية رياض الأطفال
* كلية الإقتصاد المنزلي
* المعاهد العليا لعلوم الحاسب والتكنولوجيا شعبة علوم الحاسوب
* كلية التربية الرياضية
* كلية السياحة والفنادق
* كلية الزراعة

الكليات المتاحة لشعبة علمي رياضة :

* كلية هندسة التعدين والبترول
* كلية الهندسة
* كلية الملاحة وعلوم الفضاء ببنى سويف
* كلية حاسبات ومعلومات
* كلية تجاره إنجلش
* كلية العلوم
* كلية علوم البترول والتعدين بمطروح
* كلية الفنون التطبيقية
* كلية التربية
* كلية التربية النوعية
* المعاهد العليا لعلوم الحاسب والتكنولوجيا شعبة علوم الحاسوب
* كلية حقوق إنجلش
* كلية التربية الرياضية
* كلية حقوق
* كلية تجارة
* كلية رياض الأطفال
* كلية الإقتصاد المنزلي
* كلية السياحة والفنادق
* كلية الزراعة

الكليات المتاحة لشعبة أدبي :

* كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
* كلية علوم الآثار
* كلية تجاره إنجلش
* كلية الألسن
* كلية الإعلام
* كلية الجغرافيا والمساحة
* كلية الفنون الجميلة
* كلية التربية
* كلية التربية النوعية
* كلية حقوق إنجلش
* كلية اللغات والترجمة
* كلية دار العلوم
* كلية رياض الأطفال
* كلية الآداب
* كلية الخدمة الإجتماعية
* كلية الإقتصاد المنزلي
*كلية حقوق
* كلية تجارة
* المعاهد العليا للغات والترجمة
* المعاهد العليا لعلوم الحاسب والتكنولوجيا

طباعة شارك تنسيق الجامعات 2025 تنسيق المرحلة الاولي المرحلة الاولي من تنسيق الجامعات طلاب الثانوية العامة الكليات المتاحة لطلاب الشعبة العلمية علوم تنسيق المرحلة الاولي

مقالات مشابهة

  • غدا.. مسوؤل “أممي” رفيع في السودان  
  • حملة توعية رقمية عن مخاطر الدارك ويب في دمياط
  • جوتيريش: ما يحدث في غزة أزمة أخلاقية تتحدى الضمير العالمى
  • العفو الدولية وأحزاب يطالبون بوقف تدهور حقوق الإنسان بتونس ووضع حد للانقلاب
  • الكليات المتاحة لطلاب العلمي والأدبي في تنسيق الجامعات 2025
  • ترامب يثير الجدل من جديد: لا يجب فرض رسوم على تدريب الذكاء الاصطناعي
  • ترامب: يجب عدم تقييد نماذج الذكاء الاصطناعي بقوانين حقوق النشر
  • ضبط مكتب كاستينج بدون ترخيص بالجيزة
  • مجلس النواب يشارك باجتماع لجنة «حقوق الإنسان» في البرلمان الإفريقي
  • الخارجية النيابية:(زيدان) لم يدافع عن حقوق العراق ومصالحه