ما بين الحياة الآمنة تحت الاحتلال والمقاومة.. أيهما كلفته أكبر؟ (1)
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
لطالما شكَّل هذا السؤال نقطة خلاف بين طرفين، الطرف الأول يرى أن مفاهيم مثل المقاومة والتحرر من الاستعمار والكرامة والعدالة والتصدي للظلم، لم تكن يوما محل نزاع شعبي، بل كانت مسلّمات إنسانية متفقا عليها تستحق النضال والتضحية والاستبسال من أجلها حتى الموت. كانت تلك القيم حاضرة في الأدب والسينما، ورموزها يحظون بالاحترام العام.
لكن هذا الوضع تغيّر، لم تعد تلك القيم تحظى بالتأييد ذاته، بل صار الداعمون لها قِلّة، وأحيانا موضع استهجان. تصاعدت الفردانية، وصارت حياة الفرد ورغباته فوق كل قيمة (الفريق الثاني)، حتى لو تعارض ذلك مع مفاهيم وقيم إنسانية نبيلة وأصيلة مثل التضحية في سبيل الدفاع عن الأوطان والأعراض.
أصبحت الحياة والعيش غاية بحد ذاتها، سواء بكرامة أو دونها. جاء هذا التحوّل تحت هيمنة الليبرالية على الإعلام، الذي صاغ وعيا عالميا جديدا.
في هذا المقال، نحاول الإجابة على السؤال المطروح من خلال استعراض تجارب تاريخية في الاستعمار والتحرر، وتحليل المسارات والنتائج التي انتهت إليها، لنصل إلى خلاصات مدعومة بوقائع.
أولا: تجارب النضال.. من الرفض شعبي إلى التبني
أ- حكومة فيشي.. العار الذي لم يُمحَ إلا بالمقاومة
كان الاحتلال النازي لفرنسا عام 1940 صدمة لم تخطر ببال الفرنسيين، الذين لم يتصوروا أنهم سيذوقون مرارة الاحتلال، بعد تاريخهم الاستعماري الطويل. تشكلت حكومة فيشي بقيادة "فيليب بيتان"، أحد القادة العسكريين الفرنسيين في الحرب العالمية الأولى، وجرى تقسيم فرنسا بين منطقة تحت الاحتلال المباشر، وأخرى تديرها حكومة موالية للنازيين من مدينة فيشي.
هذه الحكومة نشأت برغبة قطاعات من الفرنسيين، خصوصا الطبقات الوسطى والعسكرية، التي فضّلت السلامة على الصراع، حيث رأت أن الاستسلام الكامل للألمان والانخراط معهم في خططه ومشاريعهم، هو الضامن الوحيد للحياة والاستقرار.
في البداية لم تُقابل هذه الخطوة بمقاومة تُذكر، بل ساد الخوف والرغبة في تجنّب المصير المجهول. بل من المفارقات، أن حكومة فيشي وافقت على تحمل الفرنسيين نفقات احتلال بلدهم وتمويل الجيش الألماني.
رغم هذا الخضوع الكامل، شهدت حقبة حكومة فيشي تدهورا شاملا على جميع الأصعدة، ففقدت فرنسا قوتها العاملة التي تشرذمت ما بين سجناء في معسكرات النازيين، وآخرين أُجبروا على العمل القسري لصالح الألمان. كما انهارت الأحوال المعيشية والصحية، واشتُهر في تلك الفترة تعاون العديد من الفرنسيات مع الاحتلال، ليصبح ذلك الأمر إلى اليوم، وصمة عار مُذِلَّة لا يرغب الفرنسيون في تذكرها أو التحدث عنها.
فقدت فرنسا بريقها وهيبتها التي بنتها على مر تاريخها الاستعماري الطويل، وانطفأ بريقها الذي بقي مشرقا لقرون، وذلك في أقل من عامين فقط من استسلامها.
عندها بدأت نواة المقاومة في التشكل، في البداية كانت محدودة، مرفوضة جماهيريا، وتعرضت لقمع شديد من السلطات الألمانية وحكومة فيشي. لم يتردد النازيون في ارتكاب مجازر شاملة بحق قرى كاملة لمجرد الاشتباه في علاقتها بالمقاومة، حتى وإن لم تكن تلك القرى منخرطة بشكل مباشر في أنشطة ضد الاحتلال، مثل مذبحة "أورادور سور غلان" التي أُبيد فيها سكان القرية كلهم، ثلثهم من الأطفال، وذلك بسبب عمليات المقــاومة الفرنسية التي كانت تستهدف القوات النازية في محيط القرية. ويُقدَّر عدد الفرنسيين الذين قتلهم النازيون خلال 3 سنوات فقط تحت سلطة حكومة فيشي وفقا لبعض المصادر والمراجع بحوالي 300 ألف فرنسي.
مع مرور الوقت، بدأت المقاومة تحظى بدعم شعبي متزايد بفضل إصرارها على الاستقلال، وتلقت دعم الحلفاء، ولعبت دورا حاسما في إنزال نورماندي، الذي مهد لتحرير فرنسا.
الدرس هنا، أن الاستسلام لا يحمي من البطش ولا يمنح كرامة، ولو خضعت المقاومة لصوت الغالبية المستسلمة منذ البداية، لما كانت الأمة الفرنسية موجودة اليوم، ولكان الفرنسيون اليوم ألمانا من الدرجة الثانية ولكن بلكنة فرنسية، وبهوية مشوهة لا ألمانية خالصة ولا فرنسية نقية، يعتنقون أفكارا ليست أفكارهم، ويعيشون وسط مجتمعات وأعراف لا ينتمون إليها.
ب- ثورة التحرير الجزائرية.. من الرفض الشعبي إلى المليون شهيد
بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830، وواجه الجزائريون منذ لحظاته الأولى قمعا ممنهجا يهدف إلى طمس هويتهم، فأُغلقت المساجد، واستُبدلت العربية بالفرنسية، وانتشر الفقر، وسُلبت الأراضي.
امتلأت السجون بالمعتقلين الذين تعرضوا لأبشع ألوان التعذيب، وارتكب الفرنسيون مذابح بحق الجزائريين، نفذوا خلالها إعدامات جماعية بحق قادة ونشطاء الثورات، بل نقلوا 18 ألف جمجمة من رؤوس هؤلاء الثوار إلى متحف "الإنسان" في باريس بين عامي 1880 و1881 لتعرض بين التحف المعروضة، ولا تزال فرنسا تحتفظ بها حتى اليوم.
كما فُرض التجنيد الإجباري، وزُج بمئات الآلاف من الجزائريين للقتال في الحربين العالميتين، ووقعت مجازر 8 أيار/ مايو 1945، حين قتلت القوات الفرنسية أكثر من 45 ألف متظاهر جزائري خرجوا سلميا للمطالبة بالاستقلال.
كل هذا مهّد لإعلان جبهة التحرير الوطني الجزائرية الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي عام 1954. ورغم أن الظروف الإقليمية حينها كانت مهيأة، إذ استقلت ليبيا 1951 وأُعلنت الجمهورية المصرية واندلعت الثورة التونسية 1952، إلا أن المقاومة واجهت في البداية رفضا شعبيا مدفوعا بالخوف من بطش الاستعمار أو انهيار الأوضاع الاقتصادية، خاصة من الطبقات العاملة في المدن الكبرى التي كانت تعتمد على وظائفها في الإدارة الاستعمارية.
لكن الفاعلية الديناميكية للمقاومة تمكنت من تغيير المواقف، وأقنعت الناس بأنهم لم يعد لديهم خيار آخر سوى الانخراط مع المقاومة فعلا واحتضانا، فكان الاستقلال خير ختام لأعظم تضحيات.
نجحت ثورة التحرير الجزائرية وحدها دون غيرها من التجارب، في الترويج لذلك النموذج الفريد، الذي أثبت أن قيمة الحرية تستحق أن يدفع في مقابلها تلك الكلفة الباهظة، مليون ونصف شهيد خلال نضال استمر 7 سنوات كاملة، قدمت فيه الأمة الجزائرية تقريبا نحو 14 في المئة من عدد سكانها في ذلك الوقت شهداء على طريق التحرير، وبمعدل أكثر من 200 ألف شهيد سنويا.
هكذا اختارت فرنسا والجزائر درب المقاومة، فسجل التاريخ باسميهما فصولا من الكرامة رغم الكُلفة الباهظة على طريق التحرير.
لكن هناك آخرين، آثروا سلوك مسارات أخرى غير المواجهة والصدام، أقرب للسلامة وأقل في الكلفة والخسائر، فهل جنوا الثمار ذاتها؟ وهل كانت مآلاتها النهائية مُرضية؟
في المقال القادم، نستعرض تجارب أخرى اختارت عكس الاتجاه ونناقش نتائجها ومآلاتها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات المقاومة الاحتلال التحرير الحرية احتلال مقاومة حرية تحرير مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
عاجل. المقاومة يجب أن تتصاعد.. جورج عبد الله حراً في بيروت بعد 40 عاماً في السجون الفرنسية
وصل السجين اللبناني في فرنسا جورج عبد الله إلى بيروت بعد ما يزيد عن 40 عاماً قضاها في السجون الفرنسية لاتهامه بالمسؤولية اغتيال دبلوماسي أمريكي وآخر إسرائيلي عام 1982. اعلان
وصلت الطائرة التي حملت عبد الله، 74 عاماً، من فرنسا إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت قرابة الساعة 2:30 ظهراً بالتوقيت المحلي (11:30 بتوقيت غرينتش)، واستقبلته عائلته وعدد من السياسيين اللبنانيين في صالون الشرف في المطار من بينهم رئيس الحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب وممثلين عن حزب الله.
أولى كلمات عبد الله: فلسطين
فور دخوله قاعة الاستقبال في المطار، تحدث عبد الله إلى عدد من وسائل الإعلام المحلية، وقال إن "المناضل داخل الأسر يصمد بقدر قدرة رفاقه في الخارج على المواجهة"، مؤكداً أنه "لا توجد عدالة معلّقة في السماء بل موازين قوى بفضل حركات التضامن".
وأكد أن "المقاومة في فلسطين يجب أن تتحرّك وهناك ملايين العرب الذين يتفرجون بينما أطفال فلسطين يموتون من الجوع"، معتبراً أن "هذا معيب في حق الجماهير"، داعياً المصريين إلى "التحرك".
وحيّا عبد الله الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ التي تحركت نحو غزة ضمن أسطول الحرية وقامت إسرائيل بترحيلها مع الناشطين الذين كانوا برفقتها.
واعتبر أن "المقاومة في لبنان ليست ضعيفة"، ودعا للالتفاف حولها أكثر من أي وقت مضى بسبب "الهياكل العظمية للأطفال". وأضاف أن تحرّك مليون شخص باتجاه حدود غزة كفيل لوقف "حرب الإبادة"، كما وصفها.
توجّه عبد الله لاحقاً إلى طريق مطار بيروت حيث أقيم له استقبال شعبي رفع فيه المشاركون الأعلام اللبنانية والفلسطينية وأعلام حزب الله.
ومن المقّرر أن يتوجّه الناشط لاحقا إلى مسقط رأسه في القبيات في شمال لبنان حيث سينظّم له استقبال شعبي ورسمي تتخلّله كلمة له أو لأحد أفراد عائلته.
الخروج من فرنسا
أفرجت فرنسا صباح الجمعة عن عبدالله الذي أدين بالتواطؤ في اغتيال دبلوماسيَين أميركي وإسرائيلي في ثمانينات القرن الماضي، بعدما أمضى 40 عاما في السجون، واستقل طائرة متجهة إلى بيروت.
انطلق موكب من ست مركبات من بينها حافلتان صغيرتان من سجن لانميزان في مقاطعة أوت-بيرينه بجنوب غرب فرنسا. وأقلعت الطائرة التي تقله بعيد الساعة 09:30 بالتوقيت المحلي لفرنسا (الساعة 07:30 بتوقيت غرينتش) من مطار رواسي الباريسي.
وأصدرت محكمة الاستئناف في باريس الأسبوع الماضي قرارها بالإفراج عن الناشط اللبناني "في 25 يوليو/ تموز" شرط أن يغادر فرنسا وألا يعود إليها.
Related بعد أربعة عقود في السجن... محكمة باريس تحسم مصير جورج عبد الله في 17 تموزمحكمة الاستئناف في باريس ترجئ البت في قرار الإفراج عن جورج عبد الله إلى يونيوأمضى أربعة عقود خلف القضبان.. من هو جورج عبد الله ولماذا تُعد قضيته استثنائية؟حياة عبد الله قبل الأسر
أصيب جورج عبدالله أثناء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في العام 1978، وانضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الحركة اليسارية التي كان يتزعمها جورج حبش.
بعدها، أسس مع أفراد من عائلته الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وهي تنظيم ماركسي مناهض للإمبريالية تبنى خمسة هجمات في أوروبا بين العامين 1981 و1982 في إطار نشاطه المؤيد للقضية الفلسطينية. وأوقعت أربعة من هذه الهجمات قتلى في فرنسا.
اعتُبر عبدالله لفترة طويلة مسؤولا عن موجة اعتداءات شهدتها باريس بين العامين 1985 و1986 وأوقعت 13 قتيلا ناشرة الخوف في العاصمة الفرنسية.
حُكم عليه في العام 1986 في ليون بالسجن أربع سنوات بتهمة التآمر الإجرامي وحيازة أسلحة ومتفجرات، وحوكم في العام التالي أمام محكمة الجنايات الخاصة في باريس بتهمة التواطؤ في اغتيال الدبلوماسيين الأمريكي تشارلز راي والإسرائيلي ياكوف بارسيمينتوف عام 1982، ومحاولة اغتيال ثالث عام 1984.
وبعد شهرين من الحكم على عبد الله بالسجن مدى الحياة، تم التعرف على المسؤولين الحقيقيين عن هذه الاعتداءات وهم على ارتباط بإيران، بسحب وسائل إعلام فرنسية.
ولم يُقرّ عبد الله بضلوعه في عمليتي الاغتيال اللتين صنفهما في خانة أعمال "المقاومة" ضد "الاضطهاد الإسرائيلي والأمريكي" في سياق الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) والغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة