ما زال الإقليم على أبواب هاوية أكبر!
تاريخ النشر: 24th, July 2025 GMT
يحلو لأشدّ المتحمّسين، والمُعجبين بـ»الانتصارات» الأميركية الإسرائيلية أن يتحدثوا بأريحيّةٍ يُحسدون عليها عن إقليم مزدهر، خالٍ من «الأذرع» الإيرانية، أو أذرعٍ لم تعد تمتلك القدرة على إيقاف مسار هذا الازدهار، وهو المقصود بـ»الشرق الأوسط الجديد».
لا يختلف هذا التقييم عن التقييم الأميركي الإسرائيلي لا في الشكل ولا في المضمون، وهو في الواقع ليس سوى الصدى لما يتحدث عنه دونالد ترامب، ولما يكرّره بنيامين نتنياهو، صُبح مساء، على مسامع المجتمع الإسرائيلي، ويُمنّي به النفس، ويُفسّر به الدوافع الكبيرة لاستمرار الحروب التي يشنّها، وتدافع هذه الحروب على جبهات متعدّدة، بحيث ما إن تهدأ نسبياً وجزئياً جبهة حتى تشتعل أخرى حتى يخال للمراقبين أن القرار الإسرائيلي المنسّق مع الإدارة الأميركية في جوهره هو استمرار الحرب بلا توقُّف، وافتعال المعارك، والبحث عن كل ما من شأنه تأمين هذا المسار.
توجد قاعدة فقهية تقول: إذا طرأ الاحتمال سقط الاستدلال. فإذا كانت أميركا ومعها دولة الاحتلال قد حقّقتا مثل هذه «الانتصارات» فعلاً، فما هي الحاجة لاستمرار هذه الحروب؟ وما هي الحاجة لافتعال المزيد منها؟
أحد الاحتمالات على الأقل أن تكون هذه «الانتصارات» وهمية وواهية. أو أنها «أنصاف انتصارات»، أو حتى انكسارات يتمّ التعويض عنها بالادّعاءات والتصريحات الإعلامية.
ففي الملفّ الإيراني تحديداً بدأت أوروبا بتحديد مسار تفاوضي مع إيران خوفاً من بقاء الملف النووي تحت الأرض، وخوفاً من أن يتحوّل إلى كل ما ترغب به إيران، وبالطريقة وبالشكل الذي يناسبها هي، وينسجم مع تطلّعاتها هي، ووفق مصالحها قبل أي مصالح أخرى.
وإيران ليست مُستاءة من التصريحات والتبجُّحات الأميركية، وتلك الإسرائيلية حول «التدمير»، بل إنها مسرورة بها، وذلك لأنها تخفّف من الضغوط عليها للتفاوض، طالما أنه تم «تدمير» ما كان يتم التفاوض عليه!
وفي الملفّ العسكري لم يعد أحد في هذا العالم يصدّق أميركا أن البرنامج الصاروخي الإيراني الذي كان يعمل حتى الساعة الأخيرة من الحرب بكفاءة عالية من حيث قوة التدمير، ومن حيث دقّة الإصابات قد تم تدميره.
ويتحدث كل مراقبي الملفّ العسكري الإيراني أن إيران تعمل على مدار الساعة لإعادة بناء دفاعاتها الجوي بالاعتماد على صناعاتها العسكرية، وبالاعتماد على دعم صيني وروسي وباكستاني مُعلن.
ثم لماذا يصرّح ترامب بأنه قد يُعاود الهجوم على إيران، طالما أن أميركا قد حقّقت انتصاراً «رائعاً» كما يصف ترامب كل أفعاله؟
لا حاجة كبيرة للحديث عن جماعة «أنصار الله» (الحوثيين) اليمنية لأن الردود الإسرائيلية على ما تقوم به ضد دولة الاحتلال، وما تقوم به من فرض حصار حقيقي في البحر الأحمر عليها قد تحوّل إلى نوعٍ من «الضربات» الأقرب إلى رفع العتب منها إلى ردود جدّية.
وفي لبنان يكاد موضوع «أولوية» سحب سلاح «حزب الله» اللبناني أن يُسحب من التداول بعد أن اكتشف اللبنانيون فجأةً أن ما يضمره نظام «الدواعش» المتحوّرين في دمشق لبلادهم ليس سوى وصفة مضمونة لحرب أهلية جديدة، حتى لا نذهب إلى توصيفات أكبر وأكثر وأخطر.
أما في سورية، وهي البلد الذي سقط نظامها السابق على هيئة هدّية من السماء فإن النظام «المدوعش والمتدوعش» فيها فقد كل توازنه عند أوّل منعطف.
قالوا له في «باكو»، وقالوا له بصريح العبارة: ها نحن نرفع عنك كل قيد، فقد تم «تبييض» «النصرة» من حركة إرهابية على قوائم الإرهاب إلى «عماد» لقيام نظام جديد يُعهد إليه بلعب أدوار «إقليمية» لإخضاع أعداء أميركا وحلفائها الإسرائيليين والعرب، و»لتأديب» كل من تسوّل له نفسه الوقوف في وجه هذا الحلف الذي يسمّى الشرق الأوسط، حتى وإن كانت دولة الاحتلال تلعب دور المُهيمن، ويلعب النظام العربي دور القبول بمجرّد بقائه في إطار هذا الحلف وعدم تهديده بصورة مباشرة في هذه المرحلة على الأقل، والنتيجة حتى الآن فشل وتذابح في الساحل وفي السويداء السوريتين.
في غزة تعطّلت «عربات جدعون»، ويراوح الاجتياح الإسرائيلي في مكانه
وأما في غزّة فقد تعطّلت «عربات جدعون»، ويراوح الاجتياح الإسرائيلي في مكانه، وتوقّفت الهجمات البرّية البربرية بصورة شبه تامّة، وطار النصر الحاسم الذي وعد به نتنياهو ووزير جيشه، ولم تتمّكن «العربات» من حماية جنودها، وتتالي أعداد القتلى والجرحى كل يوم، ويعلن قادة وجُناة الجيش ويصرخون ويستصرخون المجتمع الإسرائيلي بالضغط لوقف الحرب الهمجية، والذهاب إلى صفقة بعد أن فقد الجيش زمام المبادرة، وأصبح يغامر بالغوص في رمال غزّة، من دون خطط عملية، أو أهداف خارج نطاق القتل والإجرام، وجرى استبدال «كامل» خطط «النصر الحاسم» بالتجويع القاتل في تحوّلٍ دراماتيكي نحو أشكال أشدّ من الإبادة الجماعية، والتي تتمثّل بالموت الجماعي، وخلق تشوُّهات خطيرة على صحّة السكان المدنيين على المدى المتوسط والبعيد، إضافةً إلى أعداد الذين يموتون، أو هم مرشّحون للموت جرّاء هذه المسغبة.
تبدو دولة الاحتلال وكأنها تربح المعارك هنا وهناك، ولكنها تخسر الحرب في الواقع، والسبب بسيط هو أنها عندما «تربح» فإنها لا تحسم، والملفّات لم تحسم بالجملة لأنها لم تحسم بصورةٍ منفردة، وعندما تراوح النتائج المترتبة على هذه المعارك مكانها، أو تستنفد أغراضها دون حسم بأي اتجاه سوى اتجاه القوة والإجرام والبطش، فإن المعارك نفسها تتحوّل إلى عبء كبير، وذلك لأن الاستمرار بها لا يضيف سوى الأعباء الجديدة، وتوقفها لا يحمل في طيّاته سوى فتح ملفات داخلية حارقة.
واضح لكل من لديه القدرة على القراءة السياسية الجادّة والموضوعية أن منطقة الشرق الأوسط هي الحصن الأخير لأميركا، إن كان لجهة الثروات أو الموقع أو الممرّات، وواضح أن «الترامبية» قد خسرت كل معاركها الداخلية ضد جماعات التكنولوجيا ممثلة بـ «إيلون ماسك»، وواضح أن ترامب يواجه ضغوطات شديدة من لوبيات مختلفة تحدّ من قدرته على المضيّ قدماً في مشروع «أميركا العظيمة».
وواضح أن الدولة العميقة ما زالت تقاوم مع أن علماء على قدرٍ كبير من سعة المعرفة والاطلاع لا يراهنون كثيراً على هذه المقاومة، إلّا أن المحصّلة النهائية التي تبلورت حتى الآن أن أميركا ليس أمامها سوى هذا الإقليم لإحداث الفرق في مستقبل «الترامبية» كلّها، إذ لا أمل لديه في مواجهة روسيا والصين.
عند هذه الحدود من تطوّر الأحداث في الإقليم لم يحسم شيء نهائياً، والحروب التي وضعت أوزارها مؤقّتاً لم تؤدّ إلى ميلٍ كافٍ أو نهائي في كفّة الميزان، والمراوحة لن تؤدّي ألا إلى المزيد من المراوحة السلبية، ولهذا ليس أمام «الترامبية» سوى أن تستمر مؤقّتاً بإشعال الحروب الصغيرة، والتهديد بالحروب الكبيرة أملاً بالحصول على نتائج تمكّنها من تحقيق درجة أو أخرى من النجاح، أو الادّعاء به على الأقلّ.
وما يسري على «الترامبية» يسري بصورةٍ أكبر، وبصورة أشدّ وأكبر على دولة الاحتلال، خصوصاً أن الفشل بالحسم في الحالة «الترامبية» أشدّ وطأة، وبما لا يُقاس.
نقطة قوّة التوجهات الأميركية والصهيونية كلّها تكمن في الانخراط الأعمى للنظام العربي، وحتى الإسلامي إذا جاز التعبير في كلّ المخطّطات والتوجّهات لتحقيق أهداف هذا التحالف الأميركي الصهيوني «الغربي»، وهو ما يحوّل المراوحة الأميركية والصهيونية، وربّما الفشل والعجز إلى حالة إنجاز، وقد يحوّلها إلى نجاحات معيّنة.
الحروب التي هدأت قليلاً، والتي ربّما تهدأ مؤقّتاً حتى في القطاع ليست سوى مقدّمات لحروب طاحنة، أهلية ووطنية، شاملة وعامّة ستطال الجزء الأكبر من المشرق العربي، وكل حرب أو معركة منها ستشعل أخرى وتدخل على خطوط جديدة، وعلى معارك جديدة، حتى أن مصطلح استراحة المحارب سيكون وصفاً شكلياً ليس إلّا.
الأيام الفلسطينية
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الإيرانية ترامب الاحتلال الحوثيين إيران غزة الاحتلال الحوثي ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دولة الاحتلال
إقرأ أيضاً:
نهاية أوهام حل الدولتين.. من رؤية نتنياهو إلى قرار ضم الضفة
علي بن حبيب اللواتي
في تسعينيات القرن الماضي، أصدر بنيامين نتنياهو كتابه السياسي "تحت الشمس"، الذي لم يكن مجرد تأريخ سياسي، بل بيان أيديولوجي يكشف عن ملامح المشروع الصهيوني في صورته الصلبة.
وفي كتابه، عارض نتنياهو صراحة قيام دولة فلسطينية مستقلة، مؤكدًا أن "أمن إسرائيل ووجودها" يتطلبان السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، بما فيها غور الأردن، ورفض أي انسحاب أو تفكيك للمستوطنات.
واعتبر أن ما يُعرض على الفلسطينيين يجب ألا يتجاوز حكمًا ذاتيًا إداريًا بلا سيادة حقيقية فعلية، بل كبلدية تُدار تحت قبضة أمن الاحتلال.
وجاء قرار الكنيست الإسرائيلي الصادر يوم الأربعاء بتاريخ 23 يوليو 2025، بالإجماع (71 صوتًا مقابل فقط 13) بضم الضفة الغربية وغور الأردن كجزء لا يتجزأ من "أرض إسرائيل"، داعيًا الحكومة إلى فرض السيادة الكاملة على مناطق الاستيطان، ليشكّل علامة فارقة في مسار القضية الفلسطينية المركزية.
إن قرار الكنيست يعد بمثابة "شهادة وفاة سياسية" رسمية لحل الدولتين، فالقرار لم يُبقِ أي مجال جغرافي أو قانوني لقيام دولة فلسطينية.
بل هو إعلان صريح بأن إسرائيل لم تعد تعتبر الضفة "أرضًا متنازعًا عليها"، بل هي جزءٌ من "أرض إسرائيل الكبرى".
ورغم أنه قرار رمزي غير ملزم، إلا أنه يعكس إرادة سياسية متصاعدة تسعى إلى ترجمة رؤية نتنياهو في كتابه إلى واقع فعلي معاش.
ولتأكيد ذلك، نشاهد ازدياد عدد المستوطنين في الضفة ليتجاوز المليون مستوطن حاليًا، وإنشاء أكثر من 150 مستوطنة كبرى تم إنشاؤها بقضم أراضي الضفة الغربية، وتشييد شبكات طرق خاصة تربطها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وتفصلها عن قطاع غزة، وجدار الفصل العنصري الذي مزّق الجغرافيا الفلسطينية تمزيقًا، والحواجز الأمنية التي حجزت أصحاب الأرض في أحياء مقفلة.
هذه التعديات على الأرض جعلت من أي تصور لدولة فلسطينية "متصلة" أشبه بالخيال...!
فهل بعد ذلك يمكن أن يُبنى ويُعمر روح السلام وتُقام دولة فلسطينية على خريطة ممزقة؟
والمتابع للأحداث يجد بأن مواقف القيادة الإسرائيلية فعليًا ترفض تمامًا إقامة دولة فلسطينية، فعلى الرغم من اختلاف الوجوه والأحزاب الحاكمة، ظل الموقف الإسرائيلي متصلبًا.
لم توافق قيادات دولة الاحتلال رسميًا في أي لحظة على قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة.
وكل ما قُدِّم للفلسطينيين في أفضل صوره باتفاقية أوسلو هو إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات، فعليًا ليس حكمًا ذاتيًا مستقلًا، بل أشبه بإدارة بلدية تقع تحت قبضة الأمن العسكري للاحتلال، ومن دون سيطرة على الحدود أو الموارد أو المجال الجوي والبحري. وما خفي من الشروط أعظم.
أما الدعم الأمريكي خلال العقود الماضية، فقد كان وما زال الراعي الأول المحتكر لمفاوضات "السلام" دون السماح لدول أخرى بمشاركتها.
لكنها عمليًا، ظلت واستمرت منحازة بالكامل لدولة الاحتلال.
إدارة تلو الأخرى، بما فيها إدارة بايدن وترامب، لم تضغط بشكل حقيقي على إسرائيل لإنهاء الاحتلال، بل اكتفت ببيانات دبلوماسية تحمل أوجه تفسيرات متعددة، ومن دون أي خطوات عملية تردع التوسع الاستيطاني أو الانتهاكات اليومية التي فرضت سيطرتها على الأرض.
وفي الطرف الآخر، منذ تسعينيات القرن الماضي، ظل مصطلح "حل الدولتين" يتردد كالنشيد الدبلوماسي في كل محفل دولي يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ورغم تعاقب الحكومات، وتبدل القيادات في الوطن العربي، ظل جوهر الطرح العربي: إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 تعيش جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل.
غير أن الواقع السياسي للاحتلال، والحقائق على الأرض، تحكي واقعًا مختلفًا...!!
والقرار العربي الرسمي يبدو مستمرًا في تكرار نفس الخطاب، فرغم كل هذه المعطيات الجديدة، لا تزال بعض الأطراف العربية متمسكة بخيار الدولتين كأن شيئًا لم يحدث.
ويرى بعض المحللين العرب أن هذا التمسك بات يُستخدم كذريعة لتبرير "اللاحراك" العربي الرسمي، وتتفادى الدول اتخاذ مواقف حاسمة.
فخيار الدولتين، كما يُطرح اليوم، أصبح أقرب إلى شعار بروتوكولي، لا يعكس واقعية سياسية.
وأخيرًا.. يأتي السؤال الصعب الآن:
إذا كان حل الدولتين قد انتهى واقعيًا، فما هو البديل؟
هل نحن أمام حل الدولة الواحدة؟
أم هو نموذج الفصل العنصري الطويل الأمد؟
أم ستشهد فلسطين انفجارًا جديدًا؟
وقد أصبح واضحًا الآن للشعب الفلسطيني المضطهد وللشعوب العربية، بعد حرب الإبادة المنظمة في غزة وتآكل أراضي الضفة الغربية وقرار الكنيست (الذي لم يتم إقراره إلا بعد أن كشف الاحتلال ضعف الرد العربي الحازم والعالمي تجاه الإبادة الإجرامية الهمجية في غزة)، أنهم لم يعودوا يثقون بما يسمى "المجتمع الدولي" بأنه جاد في إنصاف الشعب الفلسطيني وإعطائه حقوقه المشروعة.
ومع كل ذلك، تبقى إرادة الشعوب، وحق الفلسطينيين في أرضهم، حقيقة لا تمحوها قرارات الكنيست، ولا جدران الاحتلال، ولا حكم فرض الواقع.
فهل بعد تلك الوقائع يصحو العالم العربي الرسمي من غفوته ليتطلع إلى مشروع حضاري يوازي التحديات فيعيد التوازن للقضية المركزية العربية الإسلامية الأولى؟
سؤال ستكشف الأحداث عن إجابته، لنتابع تطورها...
والسلام على فلسطين يوم احتُلّت، ويوم قاومت، ويوم تتحرر كوعدٍ إلهي سيأتي يومًا.
رابط مختصر