"الجوع" سلاح الجبناء
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
سالم البادي "أبو معن"
ما هو الجُرم الذي اقترفه شعب غزة ليستحق هذا العقاب القاسي المؤلم؟
ما هو الذنب الذي اقترفه أطفال ونساء وشيوخ أهل غزة ليُعاقَبوا بسلاح الجوع والعطش؟ ما هو السر وراء الصمت المُخزِي للمجتمع الدولي تجاه هذه الجريمة الشنعاء بحق شعب أعزل محاصر؟
أين الضمير الإنساني؟ أين الخوف من عقاب الله تعالى؟ أين دور الأمة التي نادى بها رسولنا الكريم ﷺ وضحّى وانتصر ودعا لها وأسس أركانها وأقام كيانها؟
"شعب غزة" عانى طويلًا، لأكثر من ٢٢ شهرًا، من كل أنواع وأشكال العذاب والاضطهاد والاستبداد والتدمير والتهجير والتجويع، ليس إلا لأنه يحمل دينًا ونخوة وكرامة وصمودًا وعِزّة، ولأنه يدافع عن نفسه وعِرضه وأرضه، لأنه لم ولن يرفع الراية البيضاء، ورفض أن يُطأطئ رأسه مثل غيره، واعتز وافتخر بكرامته.
يا لِحقدكم وضغينتكم وكرهكم للشرفاء، يا أعداء الأمة والإنسانية، في زمن انعدمت فيه كل القيم والمبادئ، ولم تبقَ ذرة إنسانية لدى البشر على هذا الكوكب.
لا أحد من البشر يمكنه تصور حجم المعاناة الإنسانية التي تكبّدها الفلسطينيون طيلة الـ ٢٢ شهرًا الماضية.
تلك الإبادة الجماعية التي يواصل الكيان الصهيوني الهمجي اللاإنساني ارتكابها في قطاع غزة، حوّلت كتائب جيش الطغاة الصهيوني الغاشم السافر القطاع إلى جثث متناثرة، قُتلت وزُهِقت وعُذّبت بسلاح "التجويع" بلا رحمة، وبلا هوادة، ولا ذرة إنسانية، وكأن شعب غزة ليسوا بشرًا.
أرضٌ أُحرقت ودُمّرت، وأصبحت كالهشيم، بل كالجحيم من الموت والدمار والإبادة.
على مدار أكثر من شهرين، قطع الكيان المحتل بالكامل إمدادات المساعدات الإنسانية وغيرها من المواد الضرورية لإنقاذ أرواح المدنيين، في محاولة واضحة ومقصودة ومتعمدة لمعاقبة أكثر من مليوني مدني جماعيًا، وجعل قطاع غزة مكانًا غير صالح للعيش.
هذه إبادة جماعية مستمرة، ليستمر العدو في خططه لتهجير وطرد أصحاب الأرض، بعد أن عجز عن ذلك بالقوة العسكرية الصهيونية.
في الحروب الحديثة، لم تعد المعارك تقتصر على استخدام السلاح والرصاص فقط، بل باتت الموارد الأساسية مثل الطعام والماء والدواء أدوات للقتل البطيء.
يُستخدم التجويع كسلاح حرب لا يقل فتكًا عن الأعمال العسكرية، لكنه في بعض الأحيان، أشد قسوة، إذ يستهدف الحياة اليومية للمدنيين، مُحوِّلًا الحاجة الأساسية للبقاء إلى "وسيلة ضغط" و"إخضاع".
مع استمرار الحصار والقصف، تُحرَم آلاف العائلات من الوصول إلى الغذاء والماء والدواء، بينما تُسجَّل يوميًا وفيات جرّاء التجويع وسوء التغذية، خصوصًا بين الأطفال والنساء.
تُشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أن الوضع الغذائي في قطاع غزة بلغ المرحلة الخامسة (كارثية)، أي الموت الحتمي، وفق تصنيف "آي بي سي" (IPC) العالمي لانعدام الأمن الغذائي، وهي أعلى درجات التصنيف، وتُشير إلى وقوع المجاعة.
قالت منظمة العفو الدولية: إن على الكيان المحتل أن يُنهي فورًا حصاره المدمّر المفروض على قطاع غزة، باعتباره فعلًا من أفعال الإبادة الجماعية، وشكلًا سافرًا من أشكال العقاب الجماعي، وجريمة حرب تتمثل في استخدام تجويع المدنيين كسلاح من أسلحة الحرب.
لكن لا حياة لمن تنادي، فالكيان الصهيوني المحتل لا يعترف بالمنظمات والجمعيات والهيئات الأممية والدولية، لأنه يعلم يقينًا أن خلفه دولة طاغية عظمى تحميه، وحليفًا استراتيجيًا يدافع عنه، ألا وهي أمريكا -"المجرم الأكبر"- ومعها الغرب الطغاة المنافقون.
فبمنع دخول الإمدادات الحيوية اللازمة لبقاء السكان على قيد الحياة، تواصل القوات الصهيو-أمريكية الغربية والدول المتواطئة معها سياستها الممنهجة في فرض ظروف معيشية قاسية ومؤلمة على الفلسطينيين، يُراد بها تدميرهم نفسيًا؛ وهو ما يُشكّل أحد أفعال الإبادة الجماعية.
وعلى وصف صحيفة لوتان السويسرية -وهي أول وسيلة إعلام ناطقة بالفرنسية- فإن الصهاينة المحتلين يقولون إن غزة مكان "لا أهمية فيه لفقدان الأرواح البشرية"، لذا يُطلق الجنود الصهاينة النار على المدنيين الذين يسعون للحصول على مساعدات غذائية.
وهكذا يجد هؤلاء المدنيون أنفسهم في مواجهة أقسى المعضلات: الموت جوعًا أو خطر التعرض لإطلاق النار.
يقول المؤرخ والباحث الدكتور عصام خليفة: إن الإفلات من العقاب، وغياب الإرادة السياسية للمحاسبة، "يمنح الجناة غطاءً للاستمرار في استخدام هذا السلاح الصامت الذي يفتك بالأمل والحياة في المكان المنكوب".
"التجويع"، خاصة حين يكون منظمًا، يُعد جريمة مدانة في القانون الدولي، ويُصنَّف ضمن أساليب الإبادة الجماعية، بحسب الاتفاقيات الدولية.
عبر التاريخ، استُخدم التجويع كسلاح لإخضاع الشعوب، كما حصل في جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، وفي مجازر الأرمن والآشوريين، ولاحقًا في البوسنة والهرسك.
وفي كل حالة، كان الهدف تفكيك النسيج المجتمعي، ودفع السكان إلى النزوح أو الخضوع القسري.
من منظور تاريخي، يشير د. خليفة إلى أن التجويع لا يُستخدم فقط كأداة قتل، بل كوسيلة لإعادة رسم الجغرافيا السكانية، والسيطرة على القرار السياسي للسكان.
كما تؤكد تقارير مجلس الأمن الدولي، ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، وبرنامج الأغذية العالمي، أن الحصار والتجويع أصبحا استراتيجيات عسكرية ممنهجة تُستخدم لإخضاع المجتمعات عبر تدمير منظومة حياتها اليومية، وليس مجرد آثار جانبية للحرب.
أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة أن أكثر من ٨٦ شخصًا استُشهدوا بسبب الجوع، بينهم ٧٦ طفلًا حتى تاريخ كتابة هذا المقال، وحذرت الوزارة من أن ما يجري في غزة هو سياسة تجويع ممنهجة تتبعها قوات العدو الصهيوني، وهي أرقام مرشحة للارتفاع في ظل غياب التغذية واستمرار الحصار.
السؤال المكرّر دائمًا: لماذا لا توجد قوة رادعة في العالم قادرة على وقف هذا القتل والإجرام والخراب والدمار والحرق والتعذيب والجوع حتى الآن؟ هل أصبح العالم عاجزًا عن الدفاع عن المظلومين ودفع العدوان والطغيان عن شعب غزة؟ هل تجرد العالم من فطرته الإنسانية؟ ماذا عسانا أن نقول لأهالي الضحايا في غزة؟ هل هناك كلمات تكفي لتعزية شخص فقد كل عائلته؟ هل هناك كلمات تُخفّف بها أوجاعهم وآلامهم وأحزانهم؟
مشاهد لا يمكن لعقل الإنسان تحمّلها، فكيف لأهل غزة أن يعيشوا هذا العذاب لمدة أكثر من ٦٦٠ يومًا؟.. ماذا عسانا أن نكتب أو نُعبّر عمّا في خلجات قلوبنا في وصف هذا العدوان الهمجي على قطاع غزة؟ فمهما كتبنا، موهِمين أنفسنا أننا نقول جديدًا في وصف هذه الحرب، إن صوتًا من أعماقنا سيزجرنا، ويهتف بمقولة الشاعر المخضرم كعب بن زهير: "ما أرانا نقول إلا رجيعًا... ومعادًا من قولنا مكرورًا."
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة قطاع غزة شعب غزة أکثر من
إقرأ أيضاً:
أستاذ سياسة: التجويع الممنهج سلاح تستخدمه إسرائيل لإخضاع المدنيين
في ظل تصاعد الكارثة الإنسانية في غزة، وتزايد التقارير الدولية عن استخدام التجويع كأداة حرب، تتكشف أبعاد جديدة لصورة الصراع، حيث لم تعد المساعدات الإنسانية مجرد وسيلة للنجدة والإغاثة، بل تحولت إلى ورقة ضغط تستخدم في إدارة الأزمة.
وفي هذا السياق، حذرت الدكتورة رنا أبو عمرة، الخبيرة في الشؤون الإنسانية، من خطورة التحول المنهجي في التعامل مع العمل الإغاثي، معتبرة أن الحرمان المتعمد من المساعدات أصبح أحد أبرز أسلحة القتال غير التقليدية، التي تمارسها القوة المحتلة في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
الحرمان الممنهج أداة قتال على الساحة الإنسانية للحربأشارت الدكتورة رنا أبوعمرة أستاذة السياسة إلى أن المساعدات الإنسانية تحولت إلى إحدى أوراق إدامة الصراع وإدارته بدلاً من كونها واحدة من أهم أوراق التهدئة والحل والتسوية.
وفي حديثها أوضحت أن سياسة الحرمان الممنهج أصبحت أداة حرب وقتال من قبل القوة المحتلة التي تتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، كما تتحمل القوى الكبرى مسؤولية مباشرة من خلال الامتناع عن ممارسة ضغوط جدية وفعالة على القوة المحتلة لإنهاء هذا الوضع غير الانساني وتأمين وصول المساعدات الانسانية لمستحقيها، فضلاً عن مسؤوليتها في انهاء سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها قوة الاحتلال منذ بداية الحرب ضد الشعب الفلسطيني، حتى بات تبني منهج دولي لفصل العمل الانساني عن ديناميات الصراع خاصة في تلك الحالات التي يكون فيها المدنيين في قلب الصراع أمراً حيوياً، لتظل الأولوية المقدمة هي التعامل الايجابي مع البعد الانساني للصراع بشكل مُلح وعاجل عوضاً عن التصعيد المبني على تحجيم العمل الانساني على المديين القصير والمتوسط سواء بمنع ادخال المساعدات او عرقلة الجهود الداعمة لايجاد حلول جدية.
أضافت أن ما تشهده الساحة الانسانية للحرب هو خرقًا واضحًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني الذي يؤكد على حيادية وضرورة الاستجابة للاحتياجات العاجلة للسكان المدنيين دون تمييز، كون تقليص العمليات الانسانية والاغاثية أو تسييسها يُسهم في ترسيخ واقع التجويع القسري، مالم يتم التعامل مع الوضع في اطار مقاربة جديدة تُعيد الاعتبار للعمل الإنساني ودوره الأصيل-بمعزل عن التجاذبات العسكرية - كأداة للحماية والنجدة وليس كأداة تصعيد بما لايفقد الشعوب ثقتها في النظام الإنساني العالمي ككل، بما يطرح تساؤلات حقيقية حول مدى حدود حدود النظام الدولي الراهن في الاستجابة للأزمات الإنسانية وجدوى الآليات الدولية القائمة في حماية المدنيين في وقت الحرب.