في الوقت الذي نتفيأ فيه ظلال بيوتنا، وبرودة تكييفها وراحتنا فيها؛ ظللنا نتابع وثائقيات الحرب العالمية الثانية، قصص الحلفاء والصينيين والروس الذين قضوا جوعًا، والفلاحون الفرنسيون وما عانوه، فضلا عن البولنديين والألمان الذين لم يكونوا مع الحكومة الهتلرية وتبعات ذلك على حياتهم وعائلاتهم.
وظلت مشاهد الأجساد الشاحبة كما لو كانت ظلالا لما نسميه إنسانا، والهياكل العظمية المغطاة بالجلد المهترئ، ظلت جميعها في عقولنا وذاكرتنا كما لو كانت كابوسا لن يتكرر.
ما يُمارَس على غزة والغزيين من إبادة وتجويع وتدمير شامل للبنية الأساسية ومقومات الحياة ليس شيئا عشوائيا بهدف «القضاء على المقاومة» كما يدّعي قادة الكيان، بل هي صورة من صور الردع الاستراتيجية والأنموذج والمثال لبقية شعوب المنطقة والعالم.
يتعدى الأمر هذا السياق ليتم توظيفه بصورة مباشرة وحية -كما في جزء من لبنان وسوريا- لتوسيع رقعة الاحتلال، في صورة مستفزة ورسالة مضمونها، إما الخضوع أو الإبادة.
فالكيان الصهيوني وراعيه الأول -أمريكا- يدركان أن شعوب المنطقة لا ترحب بهما، وهو ما كان جليا في دراسات علمائهما والإحصائيات التي توالت قبل وبعد فترة الربيع العربي.
وهو ما دق ناقوس الخطر لدى الكيان وأمريكا على السواء، فتتالت المشروعات التي تهيئ الناس لقبول الكيان باعتباره حقيقة واقعة ومفروضة، ومن منطلق شرعية القوة لا شرعية الحق كما عند الفلسطينيين.
فما يحدث في غزة من دعم غربي واضح وصريح للإبادة البيِّنة والتدمير الشامل، ليس المقصود به غزة وحدها -كما صرح بذلك عدد من وزراء الاحتلال علنا- بل هو رسالة ضمنية للجميع مفادها «تأملوا ما يحدث لمن يقاومنا، هذا ما ستلقونه إذا فكرتم بالمثل».
لينتقل الأمر من الردع الخفي أو اللاواعي، إلى الردع المباشر والحي، باعتقال كل من يتبنى خطاب المقاومة وتخويفه وترهيبه حتى لو كان ذلك الخطاب ثقافيا أو معنويا.
كما أنه لا يمكن بحال نسيان الرسالة المبطنة الموجهة نحو الوعي العربي بأجمعه والمحيط به كذلك، وهي أن مقاومتكم تؤدي في نهاية المطاف إلى الدمار والشتات والانهيار، ولن تحققوا النصر.
إنّ تجاوز الكيان لكل الخطوط الحمراء، والمحرمات، والألغام المخيفة للأفعال المتهورة عسكريا؛ ليس تجاوزا بريئا، بل هو شيء متعمد لردع كل من يفكر بالوقوف ضدها من الأفراد والأنظمة.
والأدهى من ذلك، أن لهذا الكيان حصانة من العدالة الدولية -أو ما يسمونها كذلك- فغزة والحال هذه أنموذج لكل العالم. لأجل ذلك تحديدا تصمت وتتردد كثير من الأنظمة تجاه الإبادة والجرائم الواضحة وضوح الشمس.
هناك معادلة جديدة تتم صياغتها من خلال الحرب الحالية، وهي معادلة ليست منبتة عن السياق الذي شرع كثير من المتحدثين بالعربية يرددونه؛ وهو شرعنة الاحتلال وتوسيع رقعته.
فكثرت الأفواه التي تدعو إلى الكف عن المقاومة والقتال إلى أن تتيسر ظروف النصر ومعادلتها، وإلى الخنوع للاحتلال وقبوله باعتباره واقعًا خيِّرًا أجد من المقاومة.
إننا أمام سابقة سياسية وعسكرية تبعث الذعر، فمنطق العقاب الجماعي الذي يتبناه الكيان يثبت سردية مفادها «من لا يُسلّمنا رقبته طوعا، نعرّض شعبه وأرضه للتدمير الشامل دون تمييز بين جنس أو عرق أو عمر محدد».
كما أن مفهوم الأمن القومي الذي كانت -ولا تزال- تتبناه أمريكا حين أرادت اجتياح العراق، تستعمله إسرائيل اليوم في قصف لبنان، واليمن، وسوريا، وإيران حتى! فيتعدى الأمر انتظار الفعل الذي يستدعي التحرك -تصنيع أسلحة، ابتداء بالمواجهة- إلى اعتبار المدارس، والمستشفيات، والمخيمات وحتى الفكر المقاوم كلها تصبح مسوغات سخيفة للقصف والهجوم. ليتحول مسؤولو تلك الدول -المنقادة- إلى ما يشبه الشرطة والحاجز الأول للكيان ذاته، لترسيخ فكرة أن الاحتلال ليس مصدر اضطراب وخراب وتدمير؛ بل هو ضامن للسلام والاستقرار، فمن يُسالم الاحتلال وينقاد له، يَسلَم منه -عسكريا بالطبع.
وهذا ما يحول مشهد غزة وأنموذجها إلى وسيلة ابتزاز؛ فتصبح الدول المحيطة رهينة لمشيئة الاحتلال وابتزازاته اللانهائية «فإما أن تفعل كذا، أو تكون مثل غزة».
الأمر الخطير هو أنه بعد فترة من الزمن، سيتم تجريم ومحاسبة أو تصفية من يتحدث عن الاحتلال بسوء، باعتباره مهددا للسلام مع الكيان.
وستستمر الابتزازات التي تبدأ بالتلويح بأنموذج غزة، ولا تنتهي إلا باعتبار واقعها الحالي أنموذجا لأي رفضٍ للانصياع لطلبات المُبتز اللانهائية. ولا يوجد مبتز يكتفي بالابتزاز لمرة واحدة فحسب، بل يصبح الأمر سلسلة ودوامة لا تنتهي، وإذا كان هذا الحال عند الأفراد؛ فللقارئ أن يطلق خياله لما يمكن أن يفعله الاحتلال والخطوط التي سيتجاوزها بابتزازاته لا محالة.
من المعلوم أن مفهوم الردع في العقيدة العسكرية الصهيونية يتجلى في ألا يستطيع العدو ولا يجرؤ على تكرار ابتدائه أو مقاومته، ولكن الردع في غزة يتعدى ذلك ويتجاوزه إلى التمثيل بغزة كما لو كانت حقلا سينمائيا -توجد منصة في سديروت لرؤية الضربات الجوية والمدفعية على المدنيين والمنازل معروفة بسينما سديروت- واستعراضيا للقوة والحدود التي يجرؤ الصهاينة على تجاوزها.
فهو ردع ليس المقصود بل شلَّ المقاومة أو التغلب عليها فحسب؛ بل أن يكون ردعا لذاكرة أي مقاومة مقبلة في فلسطين أو في أي مكان يقرر الكيان اجتياحه مستقبلا. فهو ردع للذاكرة، وللتفكير، وللشجاعة، ولأي ذكرى أو صورة أو فكرة أو كلمة يمكن استلهامها من المقاومة.
النموذج الغزي وغزة ليست ضحية فحسب، بل هي رسالة واضحة وعلى الملأ «تريدون الحرية؟ فكروا مرتين، فهذه كلفة مجرد الحلم بالحرية والتحرر ولو جزئيا». ومن يتابع الاحتلال عن كثب، يدرك أن السكوت عن هذه السابقة التاريخية المسخ هي جريمة قابلة للاستنساخ والتكرار والتطبيق في المستقبل القريب، بل إن فكرة التوسع فيها مطروحة منذ زمن وخصوصا بعدما تيقن الصهاينة ألا أحد يحاسبهم حقا أو يقف في طريقهم.
الردع هو الكفُّ عن الشيء، وردع الرجل فلانا بمعنى مَنَعَهُ وأوقفه، فكيف يكون ردع المقاومة في هذا السياق؟ إن التاريخ هو الحكاية التي تشعلنا وتحرك فينا كوامن الفعل، وتاريخ المقاومة للشعوب الرازحة تحت الاحتلال ليس حكايةً فحسب، بل هو واقع معيش يوما بيوم.
فإن تردع الذاكرة وتمحو سردية المقاومة، فكأنما تقطعُ السلسلة المتوارثة للحق والحقيقة في الأرض والشرف والذود عن حياض الوطن. والوحشية اللامسبوقة والقتل لأجل القتل ذاته، وسيلة إضافية لبث الذعر والرعب والخوف من المحتل باعتباره الوحش المحمي وغير القابل للمس، فتموت فكرة المقاومة بداخل المقهور قبل أن تولد حتى.
أما ردع الإلهام، فإنه يتلخص في تصريح سابق لمسؤول الاستخبارات الأمريكي بريت هولمغرين الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الاستخبارات والبحث في إدارة بايدن «الغضب يتصاعد ضدنا بسبب دعم إسرائيل عسكريا.
الحرب التي تخوضها حماس تُلهم الكثيرين»، وهو شيء يثير رعب الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة المهيمنة على العالم والمتحكمة في رقاب الأشهاد، لذلك ينبغي -وفق رؤية الصهاينة ومموليهم- أن تكون غزة عبرة لا لهذا الوقت فحسب، بل للقادم من الوقت والأجيال.
فهل سنشهد رضوخ مزيد من الأنظمة لمشيئة الاحتلال؟ أم هل يمكن أن تستخدم الدول العربية نفوذها وسلطتها في فرض واقع جديد؟ أم ستظل دوامة «التفاوض لأجل التفاوض» هي الواقع المأمول إلى أن تتم إبادة الحياة من على أرض غزة ولا يبقى فيها حجر ولا بشر؟ رغم كل الآلام والأفق الذي لا يبشر بخير، إلا أن المرء يردد تلك العبارة الخالدة «للبيت ربٌّ يحميه»، ولغزة ربٌّ وينصرها لا محالة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
واشنطن تبحث ترتيبات نشر قوة الاستقرار الدولية في غزة
قال مسؤولون أميركيون إن العمل جارٍ لتحديد حجم وهيكلية قوة الاستقرار الدولية المزمع نشرها في قطاع غزة، بما في ذلك قواعد الاشتباك والمهام الموكلة إليها، مؤكدين أن القوة لن تكون مكلفة بقتال حماس.
وأشار المسؤولون إلى أن الولايات المتحدة تدرس تعيين جنرال أميركي برتبة لواء لقيادة القوة، في وقت أبدت عدة دول استعدادها للمساهمة فيها.
وبحسب المصادر، قد تبدأ القوة انتشارها في غزة في وقت مبكر من الشهر المقبل، وسط مشاورات مستمرة لوضع الصيغة النهائية للمهام وآليات العمل.
اقرأ أيضًا.. قاضي قضاة فلسطين: مصر أفشلت مُخطط تهجير شعبنا
وقالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" إن ما يدخل من مستلزمات الإيواء والخيام لقطاع غزة لا يلبي الحد الأدنى من المتطلبات ولا يقي من المطر والبرد.
ولفتت الحركة إلى ارتقاء شهداء في غزة بسبب غرق الخيام والبرد والانهيارات يؤكد أن حرب الإبادة مستمرة وإن تغيرت أدواتها.
وفي وقت سابق، أصيب طبيب فلسطيني برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي، مساء امس الخميس، في مدينة جنين.
وأفادت مصادر طبية بأن الطبيب أصيب بالرصاص الحي في الفخذ أثناء مغادرته أحد بيوت العزاء داخل مخيم جنين، حيث أطلقه جنود الاحتلال المتواجدون في المكان. وتم نقل المصاب إلى مستشفى ابن سينا لتلقي العلاج، وسط استمرار انتهاكات الاحتلال في المناطق الفلسطينية.
واعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الخميس، الشاب إبراهيم حبش، بعد محاصرة منزله في البلدة القديمة بمدينة نابلس.
وأفاد مراسلنا بأن قوات خاصة إسرائيلية تسللت إلى حي القيسارية، وحاصرت المنزل الذي كان يتواجد فيه الشاب، قبل أن تقوم آليات الاحتلال باقتحام البلدة ومحيطها، في استمرار لعمليات الاعتقال والمداهمات التي تنفذها قوات الاحتلال في المدينة.
دعا عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رئيس اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم علي أبو زهري، إلى إدراج التعليم الفلسطيني ضمن منظومة الحماية والأولوية الدولية، مؤكدًا أن استهداف الجامعات والطلبة والمعلمين يشكّل جريمة حرب تتطلب المساءلة الدولية، وأن إنقاذ التعليم في فلسطين أصبح مهمة عاجلة للمجتمع الدولي.
جاء ذلك خلال مشاركة فلسطين في اجتماع اتحاد مجالس البحث العلمي العربية في مسقط، حيث أشار أبو زهري إلى أن التعليم والبحث العلمي، خصوصًا في غزة، يتعرضان لدمار غير مسبوق يهدد مستقبل المعرفة العربية.
وأكد ضرورة دعم برامج التعليم في الطوارئ وتأمين التمويل المستدام لاستمرار العملية التعليمية، معتبراً التعليم بوابة نحو الحرية والكرامة.
وأكدت الأمم المتحدة، اليوم، أن الفلسطينيين عانوا لعقود طويلة من فقدان حقوقهم الأساسية، محذرة من الأوضاع الإنسانية الصعبة في قطاع غزة، حيث لا توفر الخيام الحالية حماية كافية للسكان من الظروف الجوية القاسية.
ودعت المنظمة المجتمع الدولي إلى التحرك بسرعة لضمان الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة، بما يشمل تحسين ظروف المدنيين وتأمين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، والعمل على تثبيت وقف إطلاق النار، وحماية السكان من أي مخاطر إضافية تهدد حياتهم وأمنهم في القطاع