لجريدة عمان:
2025-07-27@00:32:23 GMT

شرعية القوة ضد شرعية الحق

تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT

في الوقت الذي نتفيأ فيه ظلال بيوتنا، وبرودة تكييفها وراحتنا فيها؛ ظللنا نتابع وثائقيات الحرب العالمية الثانية، قصص الحلفاء والصينيين والروس الذين قضوا جوعًا، والفلاحون الفرنسيون وما عانوه، فضلا عن البولنديين والألمان الذين لم يكونوا مع الحكومة الهتلرية وتبعات ذلك على حياتهم وعائلاتهم.

وظلت مشاهد الأجساد الشاحبة كما لو كانت ظلالا لما نسميه إنسانا، والهياكل العظمية المغطاة بالجلد المهترئ، ظلت جميعها في عقولنا وذاكرتنا كما لو كانت كابوسا لن يتكرر.

وبعد أقل من قرن، صرنا نشاهد المجزرة والمجاعة مباشرة وبالألوان، وصار للضحية صوت وهو يخاطبنا في لحظاته الأخيرة، فكيف يمكن لهذا أن يحدث؟ وما المغزى من استمرار حرب الإبادة رغم اعتبار قطاع غزة منطقة منكوبة؟ وكيف يمكن لهذا أن يكون مبررا للتطبيع؟

ما يُمارَس على غزة والغزيين من إبادة وتجويع وتدمير شامل للبنية الأساسية ومقومات الحياة ليس شيئا عشوائيا بهدف «القضاء على المقاومة» كما يدّعي قادة الكيان، بل هي صورة من صور الردع الاستراتيجية والأنموذج والمثال لبقية شعوب المنطقة والعالم.

يتعدى الأمر هذا السياق ليتم توظيفه بصورة مباشرة وحية -كما في جزء من لبنان وسوريا- لتوسيع رقعة الاحتلال، في صورة مستفزة ورسالة مضمونها، إما الخضوع أو الإبادة.

فالكيان الصهيوني وراعيه الأول -أمريكا- يدركان أن شعوب المنطقة لا ترحب بهما، وهو ما كان جليا في دراسات علمائهما والإحصائيات التي توالت قبل وبعد فترة الربيع العربي.

وهو ما دق ناقوس الخطر لدى الكيان وأمريكا على السواء، فتتالت المشروعات التي تهيئ الناس لقبول الكيان باعتباره حقيقة واقعة ومفروضة، ومن منطلق شرعية القوة لا شرعية الحق كما عند الفلسطينيين.

فما يحدث في غزة من دعم غربي واضح وصريح للإبادة البيِّنة والتدمير الشامل، ليس المقصود به غزة وحدها -كما صرح بذلك عدد من وزراء الاحتلال علنا- بل هو رسالة ضمنية للجميع مفادها «تأملوا ما يحدث لمن يقاومنا، هذا ما ستلقونه إذا فكرتم بالمثل».

لينتقل الأمر من الردع الخفي أو اللاواعي، إلى الردع المباشر والحي، باعتقال كل من يتبنى خطاب المقاومة وتخويفه وترهيبه حتى لو كان ذلك الخطاب ثقافيا أو معنويا.

كما أنه لا يمكن بحال نسيان الرسالة المبطنة الموجهة نحو الوعي العربي بأجمعه والمحيط به كذلك، وهي أن مقاومتكم تؤدي في نهاية المطاف إلى الدمار والشتات والانهيار، ولن تحققوا النصر.

إنّ تجاوز الكيان لكل الخطوط الحمراء، والمحرمات، والألغام المخيفة للأفعال المتهورة عسكريا؛ ليس تجاوزا بريئا، بل هو شيء متعمد لردع كل من يفكر بالوقوف ضدها من الأفراد والأنظمة.

والأدهى من ذلك، أن لهذا الكيان حصانة من العدالة الدولية -أو ما يسمونها كذلك- فغزة والحال هذه أنموذج لكل العالم. لأجل ذلك تحديدا تصمت وتتردد كثير من الأنظمة تجاه الإبادة والجرائم الواضحة وضوح الشمس.

هناك معادلة جديدة تتم صياغتها من خلال الحرب الحالية، وهي معادلة ليست منبتة عن السياق الذي شرع كثير من المتحدثين بالعربية يرددونه؛ وهو شرعنة الاحتلال وتوسيع رقعته.

فكثرت الأفواه التي تدعو إلى الكف عن المقاومة والقتال إلى أن تتيسر ظروف النصر ومعادلتها، وإلى الخنوع للاحتلال وقبوله باعتباره واقعًا خيِّرًا أجد من المقاومة.

إننا أمام سابقة سياسية وعسكرية تبعث الذعر، فمنطق العقاب الجماعي الذي يتبناه الكيان يثبت سردية مفادها «من لا يُسلّمنا رقبته طوعا، نعرّض شعبه وأرضه للتدمير الشامل دون تمييز بين جنس أو عرق أو عمر محدد».

كما أن مفهوم الأمن القومي الذي كانت -ولا تزال- تتبناه أمريكا حين أرادت اجتياح العراق، تستعمله إسرائيل اليوم في قصف لبنان، واليمن، وسوريا، وإيران حتى! فيتعدى الأمر انتظار الفعل الذي يستدعي التحرك -تصنيع أسلحة، ابتداء بالمواجهة- إلى اعتبار المدارس، والمستشفيات، والمخيمات وحتى الفكر المقاوم كلها تصبح مسوغات سخيفة للقصف والهجوم. ليتحول مسؤولو تلك الدول -المنقادة- إلى ما يشبه الشرطة والحاجز الأول للكيان ذاته، لترسيخ فكرة أن الاحتلال ليس مصدر اضطراب وخراب وتدمير؛ بل هو ضامن للسلام والاستقرار، فمن يُسالم الاحتلال وينقاد له، يَسلَم منه -عسكريا بالطبع.

وهذا ما يحول مشهد غزة وأنموذجها إلى وسيلة ابتزاز؛ فتصبح الدول المحيطة رهينة لمشيئة الاحتلال وابتزازاته اللانهائية «فإما أن تفعل كذا، أو تكون مثل غزة».

الأمر الخطير هو أنه بعد فترة من الزمن، سيتم تجريم ومحاسبة أو تصفية من يتحدث عن الاحتلال بسوء، باعتباره مهددا للسلام مع الكيان.

وستستمر الابتزازات التي تبدأ بالتلويح بأنموذج غزة، ولا تنتهي إلا باعتبار واقعها الحالي أنموذجا لأي رفضٍ للانصياع لطلبات المُبتز اللانهائية. ولا يوجد مبتز يكتفي بالابتزاز لمرة واحدة فحسب، بل يصبح الأمر سلسلة ودوامة لا تنتهي، وإذا كان هذا الحال عند الأفراد؛ فللقارئ أن يطلق خياله لما يمكن أن يفعله الاحتلال والخطوط التي سيتجاوزها بابتزازاته لا محالة.

من المعلوم أن مفهوم الردع في العقيدة العسكرية الصهيونية يتجلى في ألا يستطيع العدو ولا يجرؤ على تكرار ابتدائه أو مقاومته، ولكن الردع في غزة يتعدى ذلك ويتجاوزه إلى التمثيل بغزة كما لو كانت حقلا سينمائيا -توجد منصة في سديروت لرؤية الضربات الجوية والمدفعية على المدنيين والمنازل معروفة بسينما سديروت- واستعراضيا للقوة والحدود التي يجرؤ الصهاينة على تجاوزها.

فهو ردع ليس المقصود بل شلَّ المقاومة أو التغلب عليها فحسب؛ بل أن يكون ردعا لذاكرة أي مقاومة مقبلة في فلسطين أو في أي مكان يقرر الكيان اجتياحه مستقبلا. فهو ردع للذاكرة، وللتفكير، وللشجاعة، ولأي ذكرى أو صورة أو فكرة أو كلمة يمكن استلهامها من المقاومة.

النموذج الغزي وغزة ليست ضحية فحسب، بل هي رسالة واضحة وعلى الملأ «تريدون الحرية؟ فكروا مرتين، فهذه كلفة مجرد الحلم بالحرية والتحرر ولو جزئيا». ومن يتابع الاحتلال عن كثب، يدرك أن السكوت عن هذه السابقة التاريخية المسخ هي جريمة قابلة للاستنساخ والتكرار والتطبيق في المستقبل القريب، بل إن فكرة التوسع فيها مطروحة منذ زمن وخصوصا بعدما تيقن الصهاينة ألا أحد يحاسبهم حقا أو يقف في طريقهم.

الردع هو الكفُّ عن الشيء، وردع الرجل فلانا بمعنى مَنَعَهُ وأوقفه، فكيف يكون ردع المقاومة في هذا السياق؟ إن التاريخ هو الحكاية التي تشعلنا وتحرك فينا كوامن الفعل، وتاريخ المقاومة للشعوب الرازحة تحت الاحتلال ليس حكايةً فحسب، بل هو واقع معيش يوما بيوم.

فإن تردع الذاكرة وتمحو سردية المقاومة، فكأنما تقطعُ السلسلة المتوارثة للحق والحقيقة في الأرض والشرف والذود عن حياض الوطن. والوحشية اللامسبوقة والقتل لأجل القتل ذاته، وسيلة إضافية لبث الذعر والرعب والخوف من المحتل باعتباره الوحش المحمي وغير القابل للمس، فتموت فكرة المقاومة بداخل المقهور قبل أن تولد حتى.

أما ردع الإلهام، فإنه يتلخص في تصريح سابق لمسؤول الاستخبارات الأمريكي بريت هولمغرين الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الاستخبارات والبحث في إدارة بايدن «الغضب يتصاعد ضدنا بسبب دعم إسرائيل عسكريا.

الحرب التي تخوضها حماس تُلهم الكثيرين»، وهو شيء يثير رعب الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة المهيمنة على العالم والمتحكمة في رقاب الأشهاد، لذلك ينبغي -وفق رؤية الصهاينة ومموليهم- أن تكون غزة عبرة لا لهذا الوقت فحسب، بل للقادم من الوقت والأجيال.

فهل سنشهد رضوخ مزيد من الأنظمة لمشيئة الاحتلال؟ أم هل يمكن أن تستخدم الدول العربية نفوذها وسلطتها في فرض واقع جديد؟ أم ستظل دوامة «التفاوض لأجل التفاوض» هي الواقع المأمول إلى أن تتم إبادة الحياة من على أرض غزة ولا يبقى فيها حجر ولا بشر؟ رغم كل الآلام والأفق الذي لا يبشر بخير، إلا أن المرء يردد تلك العبارة الخالدة «للبيت ربٌّ يحميه»، ولغزة ربٌّ وينصرها لا محالة.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

نعيم: تصريحات ويتكوف تخدم الاحتلال وتخالف السياق التي جرت فيه جولة المفاوضات

الدوحة - صفا قال عضو المكتب السياسي لحركة حماس باسم نعيم إن تصريحات المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف السلبية، تخالف السياق الذي جرت فيه جولة المفاوضات الأخيرة تمامًا، وهو يعلم ذلك تمامًا. وأوضح نعيم في تصريح صحفي يوم الجمعة، أن تصريحات ويتكوف تأتي في سياق خدمة الموقف الإسرائيلي. وقال إن ويتكوف صرّح قبل أيام فقط "أننا وصلنا للتوافق على 3 نقاط من 4 ونقترب من إحداث اختراق"، إذًا لا يوجد تفسير للتصريحات إلا ممارسة مزيد من الضغط لصالح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في الجولة القادمة. وأضاف أن الوسطاء تلقوا رد حركة حماس بشكل إيجابي جدًا، واعتبروه ردًا بناءً يُوصل إلى اتفاق ويقترب كثيرًا مما عرضه الوسطاء على الطرفين. وتابع "وبعد ساعات عادوا للاجتماع مع الوفد المفاوض من الحركة، وأبلغوهم أن التغذية الراجعة من الطرف الآخر إيجابية، وأن الوفد سيغادر للتشاور وسيعود بداية الأسبوع لاستكمال المفاوضات على تفاصيل تنفيذ الاتفاق". وبين أن النقطة الأساسية التي دار حولها الحديث في الأيام الأخيرة هي "خرائط الانسحاب وإعادة الانتشار"، بعد أن حُسم تقريبًا البند المتعلق بالمساعدات الإنسانية، وجدول أعمال التفاوض أثناء فترة وقف إطلاق النار المؤقت "60 يومًا"، وضمانات استمرار التفاوض لحين الوصول إلى وقف إطلاق النار الدائم. وأما فيما يتعلق ببند صفقة التبادل للأسرى، قال نعيم إنه تم التوافق على صيغة عامة لتنجز تفاصيلها الوفود عند العودة للمفاوضات بداية الأسبوع. وأكد أن حركته وبالتنسيق والتشاور مع الفصائل قدمت هذا المستوى العالي من المرونة والإيجابية بالأساس؛ استجابةً لنداءات شعبنا في قطاع غزة، وحرصًا على إيقاف هذه المجزرة والمجاعة، رغم تشككنا الكبير في نوايا الاحتلال ومخططاته، والتي كنا نراها في كل كلمة وجملة يقترحها، وخاصة نوايا العودة للحرب وتنفيذ مخططات التطهير العرقي والتهجير. وقال: "ما قدمناه، بكل وعي وإدراك لتعقيد المشهد، نعتقد أنه يوصل لصفقة، لو كانت لدى العدو إرادة لذلك، ويمكن أن يبنى عليه اتفاق وقف إطلاق نار دائم وانسحاب القوات المعادية بشكل كامل". وأكد نعيم أن الكرة الآن في ملعب العدو الإسرائيلي وداعميه لإنهاء هذه اللعبة القذرة بالاستمرار في الحرب، خدمةً لأهداف سياسية لنتنياهو، وأيديولوجيات سوداء مريضة، لن تتحقق مهما كان الثمن ومهما طال الزمن، لأن شعبنا لن يتنازل عن حريته وحقه في تقرير مصيره. وشدد على أن ويتكوف مطالب أن يكون "وسيطًا نزيهًا" ويمارس الضغط على حكومة الاحتلال لإنجاز اتفاق في أسرع وقت، والالتزام بالذهاب إلى إنهاء الحرب، وانسحاب القوات المعادية الشامل، من أجل الذهاب لمسار يفضي إلى نوع من الهدوء والاستقرار في المنطقة. 

مقالات مشابهة

  • الجيش يوقف 90 سوريًّا لتجوّلهم داخل الأراضي اللبنانية بطريقة غير شرعية
  • ابو زيد يتحدث عن “المسافة صفر”.. التكتيك الذي حيّد نظام “تروفي” المتطور
  • حيت الخروج المليوني للشعب اليمني.. لجان المقاومة في فلسطين تبارك القصف اليمني على الكيان الصهيوني
  • سرايا القدس تنشر مشاهد لبقايا آليات الاحتلال التي دمرتها شرق دير البلح
  • نعيم: تصريحات ويتكوف تخدم الاحتلال وتخالف السياق التي جرت فيه جولة المفاوضات
  • وفاة عملاق المصارعة الأمريكي الذي أسر قلوب الملايين.. ترامب: فقدنا رمز القوة والقلب الكبير
  • شركات الطيران تواصل تمديد تعليق رحلاتها إلى مطارات الكيان
  • هل أُصيب جنود الاحتلال شمالي غزة فعلا نتيجة خطأ عملياتي؟
  • سرايا القدس تقصف تجمعات الاحتلال وترد على مطالب نزع سلاح المقاومة
  • مراسل ذي انترسبت يروي شهادته عن المجاعة التي تسبب بها الاحتلال في غزة