عن الذين تزبَّبُوا قبل أن يتَحصرَموا.. مأساةُ العقول التي نضجت في الوهم
تاريخ النشر: 6th, August 2025 GMT
في عالمٍ تتسارع فيه المعلومة، وتُقاس فيه الحكمة بعدد الإعجابات، وتُمنح فيه صكوك الاجتهاد قبل اكتمال أدوات الفهم؛ تبرز ظاهرةٌ فكريةٌ أشد خطرا من الجهل ذاته، وهي ظاهرة التزبّب قبل التحصْرُم؛ تلك الحالة التي يظنّ فيها الإنسان أنه بلغ النضج العقلي والفكري والمعرفي، بينما لم يغادر طور الطّيش المعرفي وبرزخ التّكوين الأوليّ.
و"التّحصْرُم" في جوهره لحظة فاصلة من النّضج، يُفترق فيها بين الطعم الصادق والطَعم المُتوهَّم، بين البدايات التي تبشّر والنهايات التي تُثمر، بين بواكير الغلّة ونضج قطافها، فمن تزبّب (من الزبيب) قبل أن يتحصْرِم إنما قفز فوق الزمن، ونَصّب نفسه شيخا قبل أن يُجرّب، ومجتهدا قبل أن يتعلّم، وناقدا قبل أن يتقن، ومُفتِيا قبل أن يُحصّل، ومفكّرا قبل أن يُبنى. وهي أزمة ذات طابع مزدوج؛ معرفيّ وأخلاقيّ، لأنّها تعبّر عن نقصٍ في البناء واختلال في الشعور بذات النفس وموقعها من مدارج الوعي ومسالك التكوين.
من تزبّب قبل أن يتحصْرِم إنما قفز فوق الزمن، ونَصّب نفسه شيخا قبل أن يُجرّب، ومجتهدا قبل أن يتعلّم، وناقدا قبل أن يتقن، ومُفتِيا قبل أن يُحصّل، ومفكّرا قبل أن يُبنى. وهي أزمة ذات طابع مزدوج؛ معرفيّ وأخلاقيّ، لأنّها تعبّر عن نقصٍ في البناء واختلال في الشعور بذات النفس وموقعها من مدارج الوعي ومسالك التكوين
من تجلّيات هذه العاهة الفكرية أن ترى من غاص في كتب التراث بوصفها أضرحة مغلقة يُقدَّس فيها القول لذاته، ويُحتفى بالمتون دون فقه السياقات، فتراه يغرق كما يغرق الطفل في بئرٍ بلا سلّم، يتشبّث بنصوص الماضي كأنها هواء النجاة، وليس هدفه البناء عليها بل أن يُقيم بها جدارا يحجزه عن كلّ جديد؛ فإذا التجديد عنده ضربٌ من الخيانة، والمعاصرة شكلٌ من التمرّد، والاجتهاد مزلقٌ إلى الانحلال، وكلّ ذلك ليس عن تأنّ أو تحفّظ بل لأنه استُدرج إلى فتنة النقل دون أدوات التفكيك، واغترّ بجمال العبارة دون تمحيص المقصد، فغابت عنه تحوّلات الزمان، وتغيّرت عليه خرائط المكان، وظنّ أن ما قيل بالأمس كُتب للخلود المطلق، وغفل عن المراجعة والتفعيل والامتداد؛ فراح يشهر سيف الجمود في وجوه المجتهدين، متّهما إيّاهم بالتهوّر والتّمييع؛ لأنه تزبّب قبل أن يتحصرم.
وفي الجهة المقابلة من الطيف ذاته، يلوح وجه آخر لنفس المرض، وجهٌ يلبس قناع الحداثة ويختبئ خلف شعارات النقد؛ ذاك الذي قرأ طائفة من كتب الفكر المعاصر؛ فاكتفى ببعض من لغتها الثائرة، واستراح إلى خطابها المعترض، وظنّ أنه قد بلغ من العمق مبلغا يُمكّنه من تقويض البناء كله؛ فاندفع يهدم التراث ويدكّه على رؤوس أهله، ويرفع راية "التحرر" على أطلال المكتبات، ولم يدرك أنّ ما بين النّقد والهدم بَوْنا شاسعا، وأنّ التغيير لا يبدأ من المحو، بل من الاستيعاب والتمحيص، متوهّما أنّ كلّ قديم رجعي، وكلّ أصيل استبدادي، وكلّ نصّ تقليديّ هو مجرّد خطاب هيمنة مقنّع؛ وما ذلك إلا لأنه تزبّب قبل أن يتحصرم، فحسب نفسه معولا للإصلاح، وهو في جوهره مطرقة جهلٍ تضرب في جدار الذاكرة، وتشقّ في جذر الحضارة شقوقا لا ترأبها الكلمات المنمّقة.
وقد ترى من انغمس في عوالم الكتب المترجَمَة، ينهل من ظاهرها دون أن يتبيّن جذورها الفلسفية أو سياقاتها الحضارية، فإذا هو يندفع في هجاء المسلمين وتحقير تراثهم، ساخطا على العاملين في الحقل الإسلامي الشّرعي والفكري والسياسيّ، مستخفّا بتجاربهم، متّهما الأمة كلّها بالتخلّف المعرفي والضحالة الفكرية، ولم يُدرِك أنّ المعرفة المجلوبة من غير بيئتها إن لم تُهضَم وتُعاد صياغتها في ضوء الذات؛ تحوّلت إلى أداة اغترابٍ وقطيعةٍ لا نقدٍ وإصلاح، لكنه لم ينتبه لذلك، لأنه تزبّب قبل أن يتحصرم.
ويُجمع إليه من يقرأ آية في كتاب الله تعالى، وحديثا في سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلّم، ثم يتوهم وجود التناقض بينهما، فينقضّ على الشريعة طعنا وتجريحا، وهو لم يذق بعدُ شيئا من علوم الأصول، ولم يدرس مقاصد الشريعة، ولم يعرف ترتيب الأدلة أو أنواع النسخ أو علل الاختلاف، يحكم على الشريعة من زاويةٍ ضيقة، فيقع في أعظم المفارقات؛ أن يتهم الكمال بالنقصان، والإحكام بالتناقض؛ وما فعل ذلك إلا لأنه تزبّب قبل أن يتحصرم.
وأخطرهم جميعا؛ من تضخّم ظلّه الرقمي بازدياد المتابعين، فتوهم أن صداه الافتراضي صدى للمعرفة الإلهية في الأرض، فكلما ارتفعت مؤشرات الإعجاب، ارتفع صوته في كل ميدان، من الدّين إلى السياسة، ومن العلم إلى الفن، يفتي بجهل، ويناقش بغرور، ويهدم بجهالة، مهاجما العلماء والمفكرين كأنه فوقهم مقاما، وما هو في الحقيقة إلا تلميذ في أول الصف، أُغري بالوهج لا بالجوهر، ولم يدفعه لذلك إلا أنه تزبّب قبل أن يتحصرم.
لقد انفتحت أبواب التّعبير بلا أبواب تكوين، وصار من السهل أن يصبح الإنسان محللا سياسيا بعد دورة، أو مفتِيا شرعيا بعد فيديو، أو ناقدا حضاريا بعد مقال؛ دون أن يمرّ بمراحل الشكّ المنهجي، والتربية المعرفية، وتمارين الإحاطة والتواضع، وهو ما يجعلنا في حضرة جيلٍ تحوّلت فيه المنصّات إلى منابر، والمشاهدات إلى شهادات، والإعجابات إلى إجازات!
أخطر ما في التزبّب المبكّر أنه يقطع الطّريق على التَّحصرم نفسه، أي على النضج الطبيعي، والتكوين التدريجي، لأن صاحبه لا يعود يسأل، ولا يبحث، ولا يشكّ، ولا يُراجع
إن أخطر ما في التزبّب المبكّر أنه يقطع الطّريق على التَّحصرم نفسه، أي على النضج الطبيعي، والتكوين التدريجي، لأن صاحبه لا يعود يسأل، ولا يبحث، ولا يشكّ، ولا يُراجع، وقد قال عمرو بن قيس الملائي: "إذا رأيت الشّاب أول ما ينشأ مع أهل السّنة والجماعة فارجُه -أي: ارجُ خيره- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه". فكيف بمن لم ينشأ أصلا بل تخيلَ وتوهّمَ أنه نشأ؟!
الحكمة لا تُؤتى دفعة، والمعرفة لا تُرتَقى قفزا، وكلّ من استعجل النضج فقد استعجل الزلل، ومن مظاهر التكوين: التواضع للعلم، وثنيُ الركب، والوعي بحدود الذات، والشكّ المنهجي، والاعتراف بالجهل بوصفه أول مراتب الفهم، ومن غفل عن هذه السُّنن، ظنّ أن التزبّب نضج، ولم يدرك أنه مجرد تجفّف وهميّ قبل اكتمال الغَلّة.
وفي نهاية هذا المسار المتعرّج بين وهم النّضج وسراب الفهم، تتكشّف الحقيقة الجارحة؛ ليس كلّ من قرأ أفلح، ولا كلّ من نطق فهِم، ولا كلّ من ظهر على المنصّات صار أهلا للمنبر؛ فثمة بَونٌ شاسعٌ بين من تمرّس بالحكمة صبرا، وتقلّب على جمر المعنى مرابطة، وتشمّس في مدارج المعاناة حتى تَلوَّنَتْ ثمارُه بصدق التجربة وبين من قفز فوق مراحل التكوين، وتوهّم أن التزبّب صورة النضج، وأنّ الجفاف ضربٌ من الاكتمال.
إنّ النضج الحقيقي لا يُستعار من كتب، ولا يُستخرج من ضجيج الجمهور، ولا يُكتسب بمجرّد الترداد المعرفي، بل يُنتزع انتزاعا من رحم الصمت الطويل، ومن مساءلات الذّات التي لا ترحم، ومن انكسارات اليقين التي تفضح الغرور، ومن الخضوع العميق للحقيقة حين تعاكس الهوى وتحرج الرغبة.
إنه ثمرةُ طلبٍ شاقٍّ للعلم على منهاجٍ صارمٍ لا يُراوغ، وبناء فكريّ تراكميّ لا يخضع للاستعراض ولا يستعجل الثمرة، يتشكّل طبقة فوق طبقة، وحقيقة فوق حقيقة، ليس على نحوٍ مشوّه ومبتور، بل في صيرورةٍ واعيةٍ تصهر الإنسان في أتون التكوين، وتطهّره من وهم الاكتمال، حتى يصير للمعرفة لحمٌ ودم، وللحكمة جذورٌ وسند.
ومن لم يمرّ بمرارة التحصْرُم، ولم تزعجه حرارة شمس البدايات، لن يتذوّق لذّة النضج؛ فأولئك الذين استعجلوا التزبّب قبل أوانه؛ جَفّوا على الأغصان كما تجفّ الأوراق التي خانها الربيع.
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء النضج المعرفة العلم تربية العلم معرفة حكمت نضج قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات صحافة سياسة صحافة من هنا وهناك صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بل أن ی
إقرأ أيضاً:
من فرنسا إلى السويداء.. كيف تحوّلت زيارة عائلية إلى مأساة؟
روت السيدة السورية الفرنسية أمجاد زريفة، بعد نجاح عملية إجلائها رفقة طفليها من السويداء، تفاصيل صادمة لما عاشته العائلة خلال أسبوع الصراع الدامي الذي شهدته المحافظة وأدى إلى مقتل زوجها فراس خلال إجازتهما المنتظرة طوال سنوات الحرب السورية.
وبحسب إذاعة فرنسا الدولية، قررت أمجاد وزوجها فراس مغادرة البلاد واللجوء إلى فرنسا رفضا لقمع نظام بشار الأسد منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، حيث أنهيا دراستهما بين عامي 2005 و2011.
استقر الزوجان في شمال غرب فرنسا عام 2014، ونالا الجنسية الفرنسية سريعا، فراس يعمل في مجال المعلوماتية، وأمجاد أستاذة رياضيات.
من مدينتهما الفرنسية روان، تابعت العائلة سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، قررا حينها قضاء عطلة الصيف في مسقط رأسيهما، مدينة السويداء، برفقة طفليهما البالغين من العمر 5 و15 عاما.
تروي أمجاد: "سافرنا في 5 يونيو، وصلنا إلى دمشق، ثم انتقلنا إلى السويداء، حيث خططنا للبقاء شهرين".
بداية المأساة: 13 يوليو
تقول أمجاد: "قضينا شهرا جميلا برفقة العائلة، لكن فجأة، في يومين فقط، انقلب كل شيء. كان ذلك في 13 يوليو"، في ذلك اليوم، اندلعت اشتباكات دامية بين مجموعات بدوية ومقاتلين محليين في السويداء.
سبق هذه الأحداث مواجهات مماثلة في أبريل ومايو، انتهت باتفاقات محلية بين القيادات الدينية والسلطات لاحتواء التصعيد، ودمج المقاتلين الدروز في الهياكل الجديدة للسلطة، لكن هذه التهدئة لم تدم.
مع تفاقم العنف، وجدت أمجاد نفسها مع طفليها عالقة في منزل عائلة زوجها في قلب المدينة.
وتقول: "بدأ الأطفال يشعرون بالخوف، وطلب مني زوجي أن أغادر معهم إلى منزل والديّ في قرية قنوات شمال المدينة"، وصلوا إلى القرية، حيث استقبلهم والدها مؤقتًا، على أمل أن تهدأ الأوضاع.
لكن الأمور لم تتحسن. بقي فراس عالقا في المدينة، وسط إطلاق نار كثيف وشوارع تعج بالمركبات المليئة بالنازحين.
وبحسب أمجاد احتمى فراس وشقيق زوجته في غرفة بالمنزل، ثم أرسل في 16 يوليو رسالة نصية قال فيها إن الدبابات وصلت الحي، لكن الوضع لا يزال تحت السيطرة. وبعد ساعة أرسل رسالة إلى مجموعة الحي مفادها: "نحن محاصرون هنا، نحتاج للمساعدة"، انقطعت الاتصالات عند الساعة 10:30 صباحًا.
قُتل فراس وشقيق أمجاد برصاص مباشر، ثم تعرض المنزل لخمس ضربات بقاذفات صواريخ قبل أن يُحرق بالكامل.
في اليوم التالي، علمت أمجاد بالخبر من جيران تمكنوا من الاختباء. في 17 يوليو، عُثر على بقايا جثة شقيقها وساعة فراس بين الأنقاض. لم تتمكن العائلة من العودة إلى المدينة إلا بعد أسبوع، وسط أوضاع أمنية كارثية، واحتمت بمنزل أحد الأعمام.
تقول أمجاد: "بقينا عالقين أسبوعين تقريبًا. لا وسيلة للعودة إلى دمشق، ولا إلى المطار. المدينة كانت محاصرة لا ماء، لا غذاء، لا دواء. الجثث منتشرة، خاصةً حول المستشفى".
رغم إعلان وقف إطلاق النار في 20 يوليو، بقيت الأوضاع متوترة. أقامت القوات الحكومية حواجز على الطرق المؤدية إلى المدينة، ولم تسمح إلا بمرور المركبات المصرح لها.
العودة إلى فرنسا
بمساعدة أحد أصدقاء العائلة، وبفضل جوازات السفر الفرنسية، تمكّن الصليب الأحمر السوري من إخراج أمجاد وطفليها من المدينة في 30 يوليو.
معهم غادر العديد من الدروز القادمين من فنزويلا ودول أخرى، بعدما استغلوا فرصة سقوط الأسد لزيارة وطنهم لأول مرة منذ سنوات.
في 31 يوليو، وصلت أمجاد وطفلاها إلى باريس مرورا بإسطنبول، بينما بقي معظم أفراد أسرتها في السويداء.