منذ أن سيطرت ميليشيا الحوثي على ميناء الحديدة في أواخر 2014، ظل هذا المرفق البحري الحيوي أداة استراتيجية بيد الجماعة، ليس فقط لتمويل أنشطتها عبر فرض رسوم وجبايات على الواردات، بل أيضًا كبوابة رئيسية لتهريب الأسلحة والمعدات العسكرية الإيرانية، في انتهاك صارخ للقرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 2216 الصادر عن مجلس الأمن.

ومع تصاعد التوتر في البحر الأحمر وازدياد الهجمات الحوثية على السفن التجارية وناقلات النفط، يكتسب ملف تهريب السلاح عبر الحديدة بعدًا أكثر خطورة، خاصة مع بروز أدلة جديدة على تورط الميليشيا في عمليات تهريب منظمة ومعقّدة، تستغل ثغرات الرقابة الأممية وضعف البنية الأمنية في الميناء.

البيانات التي كشفها الحقوقي مجاهد الحقب على صفحته في منصة "إكس" تمثل نافذة نادرة على ما يجري خلف الأبواب المغلقة في ميناء الحديدة، وتكشف كيف تحوّل الميناء إلى "محطة ترانزيت" لأسلحة إيرانية الصنع، تصل إلى الحوثيين عبر مسارات بحرية معقّدة وبواجهات تجارية مموّهة.

عملية تفريغ سرية بتخطيط أمني محكم

في منتصف ليلة الأحد، 27 يوليو 2025، وفي ساعة يندر فيها النشاط البشري بالميناء، أُعطي الأمر بإخلاء جميع العمال والموظفين من داخل ميناء الحديدة، في إجراء غير معتاد يثير الكثير من الشبهات. لم يكن هذا القرار وليد اللحظة، بل كان جزءًا من خطة محكمة أشرف عليها ضباط جهاز الأمن والاستخبارات الحوثي، يتقدمهم القيادي البارز رياض بلدي، الذي تابع سير العملية من داخل سيارة ذات زجاج معتم، تجنبًا لكشف هويته أو إثارة الانتباه.

خلال هذه العملية، أُخرجت السفينة KHALED A (رقم IMO: 9010046، ترفع علم توغو) من الرصيف رقم 8 بشكل عاجل، لتفسح المجال لوصول السفينة JI ZHE 2  رقم IMO: 8594679، علم بنما، تديرها شركة Guangxi Hongxiang Shipping الصينية).

 فور رسوّها، بدأت رافعات السفينة بإنزال ما بين 160 إلى 180 حاوية، جرى تحميلها على شاحنات مدنية الشكل لكنها مملوكة لوزارة دفاع الحوثيين، وتحمل أرقامًا وهمية، ويتولى قيادتها عناصر من الأمن والاستخبارات بلباس مدني، في مشهد يعكس حرص الجماعة على إخفاء أي أثر لهذه الشحنة.

الحاويات التي تم إنزالها لم تتوجه إلى مناطق خاضعة للرقابة الجمركية أو الأمنية، بل سلكت مسارات محددة نحو صنعاء وحجة وذمار، وهي محافظات تشكل العمق الاستراتيجي للحوثيين ومراكز تخزين وتوزيع السلاح. عملية النقل استمرت يومين و8 ساعات من العمل المتواصل، وهو زمن طويل نسبيًا يشير إلى ضخامة الشحنة وأهمية محتواها.

بعد إتمام التفريغ، غادرت السفينة JI ZHE 2 فجر السبت 2 أغسطس متجهة إلى ميناء جدة، حيث مكثت 21 ساعة، قبل أن تتابع رحلتها إلى ميناء بورتسودان، في مسار ملاحي يعكس محاولات التمويه على طبيعة الشحنات الحقيقية وإضفاء صبغة تجارية عادية على رحلات السفينة.

المعلومات الاستخبارية.. ما وراء الشحنة

في الثاني من أغسطس، تلقّى النائب العام القاضي قاهر مصطفى بلاغًا رسميًا من جهاز مكافحة الإرهاب، يتضمن معلومات استخبارية "بالغة الدقة" حصلت عليها الأجهزة الأمنية من مصادر متعددة، بعضها من داخل ميناء الحديدة نفسه، وأخرى عبر قنوات تعاون أمني مع جهات إقليمية. ووفقًا لهذه المعلومات، لم تكن الشحنة التي أفرغتها السفينة JI ZHE 2 مجرد بضائع مدنية كما زُعم في الوثائق، بل كانت تحتوي على مكونات عسكرية متطورة ذات طابع استراتيجي، تشمل أجهزة طائرات مسيّرة بعيدة المدى، ووحدات تحكم رقمية عالية التقنية، وأجهزة بث واستقبال لاسلكي تعمل على ترددات يصعب اعتراضها، بالإضافة إلى حزم بطاريات متخصصة، وأنظمة ملاحة بالأقمار الصناعية (GPS) معدّلة للاستخدام العسكري، وقطع غيار لأسلحة متوسطة وثقيلة.

تؤكد التقارير أن هذه المعدات ليست مجرد تجهيزات منفصلة، بل أجزاء من منظومة تسليح متكاملة، يمكن عند تركيبها أن تنتج أسرابًا من الطائرات المسيّرة الهجومية والاستطلاعية، القادرة على تنفيذ عمليات دقيقة في عمق أراضي الخصوم أو على خطوط الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن. وبحسب المصادر الأمنية، فإن هذه النوعية من الطائرات تستخدم حاليًا في استهداف السفن التجارية وناقلات النفط في الممرات البحرية الدولية، وفي شن هجمات على مواقع حساسة داخل الأراضي السعودية، وهو ما يشير إلى أن الشحنة قد تغيّر ميزان القوى الميداني إذا ما تم دمجها في الترسانة الحوثية.

خطورة هذه الشحنة تكمن في توقيتها أيضًا؛ إذ تأتي في ظل تصاعد العمليات الحوثية ضد السفن الدولية منذ نهاية 2024، وتزايد استخدام تقنيات الطائرات بدون طيار في حرب الاستنزاف التي يخوضها الحوثيون، الأمر الذي يعقّد مهام الدفاعات الجوية للتحالف العربي، ويزيد من تكلفة العمليات البحرية الدولية لحماية الملاحة. ويرى خبراء أمنيون أن مثل هذه الشحنات لا تصل إلى الحوثيين إلا عبر شبكات تهريب معقّدة تموّلها وتديرها إيران، باستخدام واجهات تجارية وشركات شحن وهمية، وبالاستفادة من الثغرات الموجودة في آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM).

غطاء قانوني لشحنات مشبوهة

تكشف الوثائق الرسمية المرتبطة بالشحنة أن عملية إدخالها جرت تحت غطاء قانوني مُحكم، حيث تم تسجيلها في أوراق الشحن والتخليص الجمركي على أنها "قطع غيار سيارات ومحركات زراعية"، وهي تصنيفات شائعة الاستخدام في التجارة الشرعية، مما سهّل مرورها عبر المراحل الرقابية دون إثارة الشبهات. ووفق البيانات، فقد جرى تفريغ ما يقارب 79 حاوية في ثلاث محافظات رئيسية تخضع لسيطرة الحوثيين، هي صعدة وذمار وصنعاء، دون تنفيذ أي عمليات تفتيش أمني فعلية أو اتخاذ تدابير احترازية، كما هو معتاد في التعامل مع الشحنات ذات الحجم الكبير أو الوجهة العسكرية المحتملة.

الأخطر في هذه العملية كان النقل البري؛ إذ أُسندت مهمة نقل الحاويات إلى أسطول "القواطر" التابع مباشرة لوزارة الدفاع في حكومة الحوثيين غير المعترف بها دوليًا، حيث استُخدمت أرقام لوحات مدنية وهمية لإخفاء الهوية العسكرية للمركبات. رافق هذه القواطر عناصر من جهاز الأمن والاستخبارات الحوثي بملابس مدنية، في محاولة لتمويه طبيعة العملية والتقليل من فرص اكتشافها من قبل أي جهة رقابية محلية أو دولية.

مصادر عاملة في قطاع النقل الثقيل أكدت بشكل قاطع أنها لم تتلقَّ أي طلبات رسمية للمشاركة في نقل هذه الحاويات، وهو أمر غير معتاد في شحنات بهذا الحجم، ويشير بوضوح إلى أن العملية كانت مغلقة أمنيًا منذ لحظة خروج الحاويات من الميناء وحتى وصولها إلى مستودعات ومراكز تخزين سرية. هذا الأسلوب — بحسب خبراء لوجستيين — يعكس تطورًا في أساليب التهريب الحوثية، حيث يتم استغلال الغطاء القانوني للتجارة المدنية لتغطية عمليات نقل معدات عسكرية، في نمط مشابه لما تم رصده في عمليات تهريب سابقة مرتبطة بشحنات أسلحة إيرانية عبر موانئ الصومال وإريتريا قبل إعادة توجيهها إلى اليمن.

التحايل على آلية الأممية

من المعروف أن السفن المتجهة إلى موانئ الحديدة التي يسيطر عليها الحوثيون تخضع، نظريًا، لآلية التحقق والتفتيش التابعة للأمم المتحدة UNVIM ومقرها جيبوتي، والمُنشأة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2216 لعام 2015، بهدف ضمان عدم إدخال أسلحة أو مواد عسكرية إلى اليمن تحت غطاء الشحن التجاري. غير أن هذه الآلية، التي تعتمد إلى حد كبير على فحص الوثائق المرسلة من الشركات المشغلة والموانئ المصدّرة، تفتقر إلى القدرة الميدانية على تفتيش كل شحنة بشكل فعلي أو التحقق المادي من محتويات الحاويات.

في حالة السفينة "JI ZHE 2"، تم تقديم أوراق شحن مطابقة تمامًا للمواصفات التجارية القانونية، مما سمح لها بالحصول على تصريح دخول دون اعتراض. مصادر بحرية تشير إلى أن الحوثيين، بدعم من شبكات تهريب إقليمية، طوروا أسلوبًا متقنًا للتحايل على هذه الآلية عبر إخفاء المواد العسكرية داخل شحنات مدنية أو تقسيم المعدات الحربية إلى أجزاء ومكونات يصعب التعرف عليها عند الفحص المكتبي للوثائق.

الأكثر خطورة أن آلية UNVIM تعتمد بدرجة كبيرة على التصاريح والتقارير الذاتية المقدمة من السفن والشركات، دون إلزام دائم بإجراء عمليات مسح ميداني أو تصوير بالأشعة السينية (X-ray) للحاويات، وهو ما يتيح مجالًا واسعًا للتلاعب. وبحسب خبراء أمنيين، فإن ضعف هذه الرقابة جعل من الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون، وفي مقدمتها ميناء الحديدة، منصات مفتوحة لاستقبال معدات عسكرية متطورة يتم تهريبها بغطاء تجاري، في خرق صريح للقرارات الأممية.

شبكة تهريب بحرية مكررة

تكشف البيانات الملاحية وتتبع حركة السفن أن الناقلة "JI ZHE 2" لم تكن حادثة منفردة، بل جزءًا من نمط تهريب متكرر ومنهجي. فمنذ أواخر ديسمبر 2024، سجلت السفينة زيارات متعددة إلى موانئ عدن والحديدة، ما يشير إلى مسارات بحرية شبه ثابتة تستخدمها شبكات تهريب مرتبطة بالحوثيين. هذه المسارات تدار تحت غطاء شركات استيراد وتصدير تعمل بواجهات قانونية، بينما تثير تحركاتها ومجال عملها الكثير من الشكوك، خاصة مع افتقارها للنشاط التجاري المعلن أو السمعة المعروفة في الأسواق الإقليمية.

>> طارق صالح يكشف تفاصيل المخطط الإيراني لنشر الإرهاب عبر السواحل اليمنية من المهرة إلى حجة

والمثير للانتباه أن هذه الشبكة لا تعتمد على سفينة واحدة، إذ تستعد السفينة الشقيقة "JI ZHE 6"، التي ترفع علم بنما وتحمل الرقم الدولي IMO: 1080265، لدخول ميناء عدن في منتصف مساء الجمعة. ووفق خبراء الشحن البحري، فإن تكرار المسارات والآليات التشغيلية بين السفينتين يكشف عن أسلوب تهريب منظم، يقوم على تبادل الأدوار بين السفن لتجنب لفت الانتباه، مع استخدام نفس الموانئ ونفس الوسطاء التجاريين.

وتؤكد مصادر مطلعة أن هذا النمط المكرر يتيح للميليشيات الحوثية إنشاء خط إمداد بحري مستمر، يسمح بتدفق الشحنات العسكرية بشكل دوري دون إثارة شبهات فورية، خصوصًا في ظل ضعف إجراءات الرقابة والتفتيش الفعلي في الموانئ التي تقع تحت سيطرتها أو التي تتعامل معها عبر وسطاء محليين ودوليين. هذا الأمر يعزز المخاوف من أن موانئ البحر الأحمر، وفي مقدمتها ميناء الحديدة، قد تحولت إلى ممرات آمنة لعمليات التهريب البحري التي تموّل وتغذي القدرات العسكرية للحوثيين.

ضعف آلية التفتيش الدولية

على الرغم من أن آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM)، تستند إلى تفويض القرار الأممي 2216، إلا أن ما تكشفه الوقائع الميدانية والمعلومات المسرّبة يفضح ثغرات خطيرة في قدرتها على مواجهة أساليب التهريب الحديثة التي يعتمدها الحوثيون وحلفاؤهم. فالتقارير تشير إلى أن الآلية اكتفت بالتعامل مع الوثائق المرسلة إليها من الشركات الناقلة، والتي غالبًا ما يتم إعدادها بمهارة لتبدو قانونية، دون أن تقوم بعمليات تحقق ميداني أو فحص فيزيائي شامل للشحنات، وهو ما يترك الباب مفتوحًا أمام تمرير مواد محظورة تحت مسميات مدنية.

المعلومات التي نشرها الناشط مجاهد الحقب تضيف بعدًا أكثر خطورة، إذ تُظهر أن الموانئ الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، وعلى رأسها ميناء الحديدة، تحولت عمليًا إلى مراكز عبور لوجستية لشحنات عسكرية، بينما تتعامل معها الرقابة الدولية وكأنها موانئ مدنية اعتيادية. هذا الواقع يسمح بمرور شحنات مموّهة — كقطع غيار سيارات أو محركات زراعية — وهي في الحقيقة تحتوي على أنظمة تسليح متطورة، بما في ذلك معدات الطائرات المسيّرة، ومنظومات الاتصالات العسكرية، وقطع غيار الصواريخ.

ويشير تقرير منتدى الخليج الدولي الأخير إلى أن استمرار هذه الثغرات، بالتزامن مع التصعيد الحوثي في البحر الأحمر وخليج عدن، لا يشكل تهديدًا على الأمن اليمني فقط، بل يضرب مباشرة سلامة الملاحة الدولية، ويعطي طهران قناة إمداد ثابتة لتعزيز قدرات الحوثيين، مع ما لذلك من تبعات على أمن الطاقة والتجارة العالمية.

وفي ظل هذا المشهد، فإن إبقاء ميناء الحديدة خارج نطاق رقابة بحرية مشددة وموسّعة الصلاحيات يعني عمليًا استمرار تدفق السلاح وتفاقم النزاع، ما يقوض أي جهود سياسية أو تفاوضية نحو السلام. ولذا، فإن إعادة هيكلة آلية التفتيش الأممية، وتزويدها بإمكانيات تقنية وبشرية متقدمة، ومنحها سلطة الإشراف المباشر على عمليات التفريغ والنقل، باتت ضرورة أمنية ملحّة لا تحتمل التأجيل، إذا ما أراد المجتمع الدولي وقف تدفق الأسلحة ومنع انزلاق المنطقة نحو مزيد من عدم الاستقرار.

>> إيران شكّلت خلايا تهريب اخترقت دولاً شقيقة وصديقة

المصدر: نيوزيمن

كلمات دلالية: میناء الحدیدة البحر الأحمر إلى أن

إقرأ أيضاً:

رحلة إسرائيل من السفينة إلى الهاوية

صور المجاعة من غزة أحرجت العالم الغربي، وهزت سائر العالم. كان لا بد أن يذهب ويتكوف، بنفسه، إلى غزة ليقول من هناك "لا توجد مجاعة". لا معنى لما قاله ويتكوف سوى تبذير رصيد بلاده الأخلاقي، وهو رصيد تصعب رؤيته بالعين المجردة.

سبق لمادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية القوية، أن قالت في أواخر تسعينيات القرن الماضي؛ إن العالم لا يمكنه الاستغناء عن أميركا، فهي حامية النظام العالمي التعددي القائم على القواعد. وحتى تلك اللحظة كانت أميركا قد خاضت حوالي 400 حرب خارج حدودها، وترعى "النظام العالمي القائم على القواعد" من خلال 800 قاعدة عسكرية منتشرة على ظهر الكوكب.

الدولة التي لا غنى للعالم عنها ليست عضوا في محكمة العدل الدولية، لا تعترف بخصوصية المحكمة الجنائية الدولية، ولا تأبه لأي "جسم دولي" ذي طبيعة قانونية. وهي الآن تنفذ، مع إسرائيل، أسوأ مذبحة عرفتها البشرية، وتطارد القضاة الدوليين الذين تجرؤوا على النظر في أوراق المذبحة.

حتى الآن لا توجد صورة جوية للجريمة في غزة، ولا تزال الصحافة الأوروبية تسرد أرقام الضحايا مذيلة بجملة مهنية تقول "وفقا للسلطات الطبية التابعة لحماس".

يتعلق الأمر بالمقاربات البيروقراطية لما يجري، لذا بدت صور الجوع أكثر إثارة من صور الدمار. فالبيروقراطية الأخلاقية تعطي الجوع وزنا قانونيا أكثر مما تعطيه للحرب.

في اليومين الماضيين نشرت صحيفة taz الألمانية- وهي صحيفة يسارية التوجه- تقريرا مطولا أشركت فيه مجموعة من الباحثين حول ما إذا كان ما يجري في غزة إبادة بشرية "Genocide" أم تصفية عرقية "Ethnic cleansing".

أخذ النقاش طابعا بيروقراطيا صرفا، وهناك إحالة مستمرة إلى ما جرى في هيروشيما وناغازاكي. فمن وجهة نظر بيروقراطية لا يمكن وصف ما جرى في المدينتين بالإبادة الجماعية، رغم فناء كل السكان.

إعلان

تفتقر الجريمة النووية إلى وثيقة تؤكد وجود نية واضحة لقتل اليابانيين بوصفهم إثنية أو قومية بعينها. فقد كانت أهداف الرئيس الأميركي ترومان- وهذا ما ردده البروفيسور ميرسهايمر في لقائه مع تاكر كارلسون مؤخرا- أن ينهي الحرب السيئة. أي أنه أباد مدينتين لأسباب نبيلة.

البيروقراطية، أي أوراق الموظفين، هي من يحدد الطبيعة النبيلة أو الشريرة للفعل. هذا ما حاول ويتكوف عمله حين ذهب إلى غزة كشاهد عيان، وهناك قال إنه رأى البضائع والأدوية في طريقها إلى غزة. لا نية للتجويع، ثمة مشاكل بيروقراطية وأمنية وحسب.

في العام 1944 قام المحامي اليهودي- البولندي رافئيل ليمْكِن بنحت مصطلح الإبادة البشرية من كلمتين يونانيتين: Genos، وتعني النوع، وCide وتعني القتل. عمل على تطوير فكرته في كتابه الشهير: "حكم المحور في أوروبا المحتلة". نجحت جهوده الفكرية في اعتماد الأمم المتحدة اتفاقية الإبادة البشرية منذ العام 1948. وضع ليمْكِن عقدة في تعريف الإبادة البشرية، وهي "النية". أي أن يجري تدمير الجماعة البشرية، كليا أو جزئيا، على أساس إثني أو قومي أو ديني.

لم تدن المحكمة الجنائية الدولية، ولا أي محكمة أخرى، أي دولة بجريمة الإبادة البشرية حتى الآن. وفيما يخص ألمانيا النازية فقد اعتبرت وثيقة "الحل النهائي للمسألة اليهودية" التي تعود إلى اجتماع للقيادة النازية في العام 1942، دليلا على وجود نية لتدمير الجماعة اليهودية على أساس ديني- إثني، ولكن ألمانيا كدولة لم تدَن.

اتفاقية الإبادة البشرية التي وضعت في العام 1948 لا تعمل بأثر رجعي. عوضا عن ذلك أدين أفراد من داخل النظام النازي.

المذبحتان اللتان وقعتا في رواندا 1994، وفي البوسنة والهرسك 1995، صنفتا من قبل محكمة العدل الدولية بوصفهما إبادة بشرية، ولكنّ أيا من الدولتين لم تدانا كفاعل.

حدثت إبادة بشرية في البلدين، وأدين أفراد وجهات تحت- دولتية. ما من دولة أدينت حتى الآن بجريمة إبادة بشرية منذ العام 1948. هذا الأمر يجعل من ربط إسرائيل بفكرة الإبادة البشرية مسألة غاية في الحساسية للعالم الغربي برمته. فمن غير المحتمل أن تكون الدولة التي نشأت بفعل الإبادة البشرية، هي أول دولة في التاريخ تدان بارتكاب الفعل نفسه.

يبدو الأمر وكأنه "كابوس من كوكب آخر" كما تقول يولي نوفاك رئيسة منظمة بتسيلم الإسرائيلية المعروفة. في تقييمها لما يجري في غزة توصلت بتسيلم إلى استنتاج يضع مذبحة غزة في خانة الإبادة البشرية.

في تقديمها للتقرير رددت نوفاك عبارات حزينة على شاكلة: "لم يكن ليخطر على بالنا أننا سنكتب في يوم من الأيام ما كتبناه هنا"، أي الاعتراف بأن بلادها ضالعة في جريمة الإبادة.

يضغط الإسرائيليون على حلفائهم، بل يبتزونهم بماضيهم. اعترف بايدن، بعد زيارته إسرائيل في الأيام الأولى للحرب، بأنه خاطب نتنياهو بالقول: "ليس بمقدورك تدمير هذه المجتمعات الحضرية"، فرد عليه الأخير بتذكيره بما فعلته أميركا في اليابان، وألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.

إفشاء بايدن مضمون الحديث الذي دار بينهما يشير إلى وجود نية إسرائيلية مبكرة لتحويل غزة إلى أرض غير صالحة للعيش، أي تقويض الجماعة البشرية في غزة بلا تمييز، ولكونها تمثل قومية بعينها. هنا يتقاطع تعريف الإبادة مع تعريف التطهير العرقي، ويبدو القصد الجنائي متوفرا.

إعلان

يجادل الإسرائيليون في النقاشات المفتوحة بالإحالة إلى السجل التدميري للمجتمعات الأوروبية في مناطق واسعة من العالم، في سياقات تاريخية عديدة. نادرا ما اعترفت دولة أوروبية بماضيها في الإبادة، إذا ما تجاهلنا الادعاءات الأخلاقية لما بعد الكولونيالية.

بالعودة إلى التاريخ الألماني الحديث، فقد نفذت ألمانيا بين 1904-1908 إبادة بشرية بحق قبائل الهيريرو في ناميبيا، التي كانت تسمى "جنوب غرب أفريقيا الألمانية".

ردا على تمرد سكان البلاد على الظلم والاستغلال أمر القائد الألماني لوثار فون تروتا جنوده بإبادة عرق الهيريرو بوصفه عرقا "يجب طرد كل هيريرو من البلاد، سواء أكانوا مسلحين أم لا، معهم ماشيتهم أو بدونها، سيتم إطلاق النار عليهم".

يشابه ما قاله فون تروتا قصة النبي يوشع في سفر يشوع، إذ أمر بفناء أريحا، البشر والشجر والحيوان. في الأيام الماضية قال أكثر من ثلثي الإسرائيليين، بحسب دراسة لجامعة بنسلفانيا، إنهم لا يمانعون من أن تنال غزة مصير أريحا.

تأخرت ألمانيا أكثر من قرن من الزمان قبل أن تعترف، على نحو بالغ الالتواء، بأن ما جرى في ناميبيا يمثل إبادة بشرية. رغم اعترافها بأن "قواتها"- وليس النظام الحاكم- ارتكبت إبادة بشرية فإنها رفضت تحمل أي مسؤولية قانونية. كما لم تدَن بالجريمة على أي منصة قانونية، فلا تعمل وثيقة الإبادة الجماعية بشكل رجعي.

اعتراف ألمانيا المنقوص والمتأخر بالإبادة البشرية في ناميبيا مسّ فكرة "تفرد الهولوكوست"، وربما أهانها. كان خطأ تاريخيا في تقدير عدد كبير من المثقفين والباحثين اليهود في إسرائيل وخارجها.

فالهولوكوست "حدث يتجاوز التاريخ، بل يتحدى الفهم" كما يقول الكاتب الإسرائيلي إيلي فيزل، الحاصل على جائزة نوبل في السلام 1986.

المؤرخة اليهودية ديبوره ليبشتادت ترفض، مثل مؤرخين يهود كثر، الحديث عن إبادة بشرية في ناميبيا أو رواندا؛ لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى "تمييع خصوصية الهولوكوست". التشويش على الهولوكوست من خلال توزيع الإدانات يمنة ويسرة سيهدد فرادة الهولوكوست، وبالتالي الإرث اليهودي الأكثر أهمية.

غير أن التاريخ أخذ إسرائيل ذاتها إلى خانة الإدانة، وباتت هي من يشوش على نفسها، ويحرق كل موروثها.

اشتغلت الأكاديميا الغربية، كما السياسة والآداب، في سبيل جعل الهولوكوست نواة الحضارة الليبرالية المعاصرة، والمعيار الأخلاقي المركزي. حُظر، بالقانون، أي نشاط أكاديمي أو علمي يقترب من مسألة الهولوكوست، وطُورد باحثون، بل وُضعوا في السجون، لأنهم تجرؤوا على مساءلة رواية الهولوكوست، كما حدث مع غيرمار رودولف في تسعينيات القرن الماضي.

كان رودولف قد أجرى أبحاثا كيميائية على بقايا "غرف الغاز" في معسكر أوشفيتز، وادعى أن ما وجده لا يدعم بشكل مطلق وجود غرف للقتل بالغاز. أدى نشره للبحث إلى مطاردة استمرت بضعة أعوام انتهت بأن عثرت عليه السلطات الأميركية مختبئا في ضاحية من ضواحي شيكاغو فأعادته إلى ألمانيا، وهناك وضع في السجن في العام 2007.

مبكرا، في 1949، أطلق الناقد الألماني- اليهودي ثيودور أدورنو في مقالة بعنوان "الثقافة والنقد" جملته الشهيرة: أن تكتب شعرا بعد الهولوكوست هو عمل بربري. أحيطت الهولوكوست بسياج منيع، إلى أن أسقطته إسرائيل بنفسها.

غزة ورطة إسرائيلية التهمت قرنا كاملا من البروباغندا، وزعزعت مركز الحضارة الغربية. قبل أن تأخذ الهولوكوست صورتها النهائية، بوصفها مركزا للأخلاق وحدثا فوق التاريخ، كانت رواية "إيكسيدوس"، لليون يوريس التي نشرت في 1958، قد شقت الطريق إلى الوعي الغربي ومهدت الأجواء.

في الرواية يهاجر الناجون من الهولوكوست على ظهر سفينة الإيكسيدوس، يتيهون في المتوسط، يصطدمون بالقوات البريطانية والعرب، ثم ينتصرون في آخر الأمر.

إعلان

التعويض الأخلاقي، التاريخي، الذي حصل عليه المجتمع اليهودي في تلك الأرض هو الإنصاف الذي تأخر لألفي عام. ما كان له أن يحدث لو لم تكن الجماعة اليهودية قد حافظت على فرادتها الأخلاقية والدينية على مر التاريخ، وقاومت رياح الأمم والتاريخ بشجاعة قل لها نظير. من تلك الفرادة الأخلاقية، من الفداء والنصر، خرج الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، جيش الدفاع الإسرائيلي.

الورطة الإسرائيلية في غزة مركبة. اختار عدد كبير من الصحف الغربية في الأيام الماضية كلمة "Pariah" أو "المنبوذ" في الإشارة إلى إسرائيل. والنبذ هنا ليس سياسيا وحسب، بل أخلاقيا وتاريخيا. أي أن تعزل إسرائيل حتى عن إرثها التاريخي. تقوم إسرائيل على ادعاء أخلاقي في المقام الأول، ثم تبني عليه ادعاء سياسيا.

راكمت في العقود الماضية مصادر قوة عديدة، في مقدمتها الدعم المطلق من الليبرالية الغربية من جهة، ومن الإنجيلية الأميركية من جهة أخرى. ولكنها، وهي تبلغ أعالي مجدها، سقطت في إغراء القوة المطلقة، وباتت ضحية لاعتقادها أن بمقدورها أن تفعل ما تشاء.

هكذا رآها الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان في لقائه الأحدث مع صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية. قادتها القوة إلى البطش، وأخذها البطش إلى الإبادة الجماعية. ومع سقوطها في قبضة اليمين المتطرف، الجهادية التوراتية، بات واضحا أنها انزلقت إلى ورطة وجودية ليس من اليسير الخروج منها. وبحسب شلومو بن عامي فإن إسرائيل لم تشهد انهيارا لمكانها بين الأمم كما حدث الآن.

انهارت تلك المكانة ليس في الجنوب العالمي وحسب، بل في العالم، في لحظة قوة مطلقة. لم تكتفِ إسرائيل بالذهاب إلى أقصى اليمين، حيث الجهادية التوراتية العمياء، بل ألقت بنفسها في حضن الرئيس ترامب. لتبدو وكأنها مشروع أخلاقي لرجل لا يعرف أحد نواياه.

كل الإشارات تقول إن إسرائيل غرقت داخل نفسها، ولم يعد بمقدورها الفكاك. فقد توصلت دراسة أنجزتها الباحثة الإسرائيلية د. نوا لافي، 2016، إلى أن "الشباب الإسرائيلي" هو الأكثر تطرفا مقارنة بدول أوروبا الغربية.

وهو ما سيؤكده معهد إسرائيل للديمقراطية، 2018، في استطلاع مدوٍّ قالت نتائجه إن 64% من الشباب الإسرائيلي بين 18-34 عاما يصنفون أنفسهم "يمينا"، بينما قال 47% فقط من الأكبر سنا إنهم يمينيون.

وهو مشهد معكوس وغير مشهود في أي بلد آخر. إذ عادة ما تكون اختيارات الأجيال الأحدث سنا أكثر انفتاحا وأقل راديكالية.

تقودنا كل البيانات إلى نتيجة واحدة، وهي أن إسرائيل اليوم ليست هي تلك الدولة السحرية التي جسدتها رواية الإيكسيدوس، الرواية التي تفوقت مبيعاتها في أميركا على رواية "ذهب مع الريح"، وحلت ثانيا بعد الإنجيل.

حيال هذا التعقيد تجد الليبرالية الغربية نفسها مأزومة وفي ورطة. فهي تقاتل اليمين الشعبوي في بلدانها وتدعمه بكل السبل في إسرائيل. على أن النسخة الإسرائيلية من اليمين تبز كل صور الفاشية التي عرفتها أوروبا في تاريخها.

في العامين الماضيين انفجرت حرب ثقافية في العالم الغربي في ضوء ما يجري في غزة، ولا تزال تلك الحرب في بداياتها. ولأن إسرائيل ماضية في حلمها التوراتي فإن الخيارات الغربية الليبرالية ستبدو حاسمة: إما أن تدعم نظاما دوليا قائما على القواعد، أو أن تغير القواعد والقوانين نزولا عند رغبة الحلم التوراتي. وفي الحالين تتعمق أزمة إسرائيل، وتجر معها حلفاءها إلى ورطتها الوجودية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • أمن لحج يحبط تهريب معدات سرية للحوثيين ويكشف شبكة تمتد من سوريا إلى الحديدة
  • اعترافات طاقم سفينة "الشروا" تكشف شبكة تهريب إيرانية عابرة للقارات لتسليح مليشيا الحوثي
  • ‏‎ناجية إيزيدية تفضح أبو عائشة: الكوابيس تطاردني
  • الحزام الأمني بلحج يحبط تحركا للحوثيين كان يهدف إلى أعادة الحياة إلى ميناء الحديدة ويضبط معدات هامة تستعمل في الموانئ كانت في طريقها إلى صنعاء
  • حضرموت.. إحباط عملية تهريب كميات من المواد المخدرة
  • رحلة إسرائيل من السفينة إلى الهاوية
  • موانئ دبي العالمية توسّع طاقتها الاستيعابية للمركبات في ميناء جبل علي
  • المعلمون في مواجهة الإقصاء القاتل الحوثيون ينهبون رواتب عشرات الالاف من معلمي اليمن لست سنوات ويمارسون أكبر عملية إحلال وظيفي وفق معايير طائفية وسلالية
  • تفاصيل شحنة طائرات مسيرة وأجهزة على متن سفينة غيرت طريقها من ميناء الحديدة إلى ميناء عدن لتقع بيد جهاز مكافحة الإرهاب قبل وصولها إلى الحوثيين (صور)