دواء يجفف مصادر الطاقة التي تغذي الخلايا السرطانية
تاريخ النشر: 8th, September 2025 GMT
اكتشف باحثون دواء جديدا من الممكن أن يصبح سلاحا قويا في مواجهة سرطانات الرأس والرقبة، ويهاجم الدواء الجديد الخلايا السرطانية من الداخل عن طريق إتلاف الميتوكوندريا، وهي مصانع الطاقة في الخلايا.
أجرى الدراسة باحثون من مركز هولينغز للسرطان التابع لجامعة مسيسيبي في ساوث كارولينا بالولايات المتحدة، ونشرت النتائج في مجلة أبحاث السرطان (Cancer Research)، في الأول من سبتمبر/ أيلول الحالي، وكتب عنها موقع يوريك أليرت.
يهدف فريق البحث لكبح نمو الورم في سرطان الخلايا الحرشفية في الرأس والرقبة، وهو سرطان يتطور في الخلايا المبطنة للرأس والرقبة، مثل الأنف والفم والحلق.
ويعتبر هذا النوع الشديد العدوانية من السرطان مقاوما للعلاج، ويشهد عدد كبير من المرضى الذين يتلقون العلاجات المتاحة حاليا عودة السرطان، وحتى عندما تكون هذه العلاجات فعالة يمكن أن يكون لها آثار جانبية حيث تقضي على الخلايا غير السرطانية والسرطانية على حد سواء، وتسبب آثارا جانبية منهكة.
طوّر الباحثون واختبروا مركبا جديدا يسمى إل سي إل 768 (LCL768) وهو شكل مصنّع من السيراميد (جزيء دهني موجود طبيعيا في الخلايا).
تعد السيراميدات مهمة لأداء وظائف الخلايا السليمة، وقد ثبت أنها تحفّز موت الخلايا تحت الضغط، تعاني خلايا العديد من سرطانات الرأس والرقبة من نقص في هذه الدهون المفيدة، مما يعزز النموّ العدواني للأورام.
تعتمد فعالية الدواء على قدرته على زيادة مستويات سيراميد محدّد يسمى "سيراميد سي 18" (C18-ceramide) داخل ميتوكوندريا الخلايا السرطانية.
تجفيف مصادر الطاقة
تبدأ عملية تسمى الالتهام الذاتي (mitophagy) عندما ترتفع مستويات سيراميد سي 18، وتزيل الخلايا فيها الميتوكوندريا التالفة أو غير الضرورية.
يعتمد نمو الخلايا السرطانية بشكل كبير على الميتوكوندريا، وعندما تدمّر، تنفد طاقة الخلايا السرطانية وتموت.
إعلانوقال الدكتور بسيم أوغريتمن، المدير المساعد للعلوم الأساسية في هولينغز الذي قاد الدراسة: "يقطع إل سي إل 768 بشكل أساسي إمداد الخلايا السرطانية بالطاقة، بمجرد اختفاء الميتوكوندريا، لا تستطيع الخلايا النمو أو البقاء على قيد الحياة".
عطّل إل سي إل 768 مسارا أيضيا رئيسيا بالإضافة إلى تحطيمه للميتوكوندريا، وقد فعل ذلك عن طريق حجب الفومارات (fumarate)، وهو جزيء مهم في دورة طاقة الخلية، ومن دون الفومارات يضعف إنتاج الخلايا السرطانية للطاقة، وقد أدى تضافر تراكم سيراميد سي 18 ونضوب الفومارات معا إلى هجوم مزدوج أدى إلى موت الخلايا السرطانية.
وأوضح أوغريتمن: "تكشف نتائجنا عن ضعف أيضي في هذه الخلايا السرطانية، بتحفيز عملية التهام الميتوكوندريا ونضوب الفومارات، أوقف إل سي إل 768 آليات بقاء الخلايا السرطانية على جبهتين، مستهدفا كلا من الميتوكوندريا والاستقلاب".
اختبر الفريق إل سي إل 768 في نماذج فئران مصابة بسرطان الرأس والرقبة وأورام مزروعة في المختبر مصنوعة من أنسجة مرضى حقيقية، وفي كلتا الحالتين أدى الدواء إلى زيادة كبيرة في سيراميد سي 18 في الميتوكوندريا.
وأظهرت الخلايا السرطانية بعد العلاج علامات واضحة على الالتهام الذاتي والانهيار الأيضي، مما أدى إلى تباطؤ نمو الورم. ودعما لهذه النتيجة، عكس تزويد الخلايا بالفومارات التأثيرات المثبطة لـ إل سي إل 768 بشكل شبه كامل، مما أدى إلى نمو الأورام بسرعة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات الخلایا السرطانیة الرأس والرقبة
إقرأ أيضاً:
عن الديكتاتوريات الثورية التي لا تُهزم
يشكّل كتاب "الثورة والديكتاتورية: الأصول العنيفة للاستبداد الدائم" للباحثين ستيفن ليفيتسكي ولوكان واي، إضافة فكرية عميقة إلى فهمنا لأحد أكثر الأسئلة إلحاحا في التاريخ السياسي الحديث: كيف تنشأ الأنظمة الشمولية من رحم الثورات، ولماذا تعيش طويلا بعد أن تهدأ أصوات البنادق؟ الأطروحة التي يقدمها المؤلفان تقلب المفهوم التقليدي للاستقرار رأسا على عقب؛ إذ يريان أن الأنظمة الاستبدادية التي تولد من العنف الثوري لا تضعف به، بل تستمد منه صلابتها ومناعتها. فالثورة التي تُخاض بالدم والنار، كما في الصين وكوبا وإيران والاتحاد السوفييتي، تُنتج دولا قادرة على البقاء ليس رغم العنف، بل بسببه.
يطرح الكتاب مفارقة لافتة: العنف، الذي يُفترض أنه أداة للهدم، يتحول في لحظة الثورة إلى أداة للبناء. فحين تواجه الثورات مقاومة شرسة، داخلية أو خارجية، ينشأ ما يشبه "عقلية الحصار" داخل القيادة الثورية. الخطر الداهم يوحّدها، والدماء التي تُراق تصبح مادة لِحَميّةٍ سياسية جديدة تصهر النخبة في بوتقة واحدة. هكذا يتحول الخوف من الزوال إلى طاقة مركزية للبقاء، ويصبح النظام الثوري أكثر قدرة على التنظيم والسيطرة كلما ازدادت شدة التهديد. العنف هنا ليس فعلا عرضيا أو انفعالا مؤقتا، بل هو جزء من البنية التكوينية للنظام نفسه. إنه اللحظة التي تنصهر فيها السلطة الوليدة، وتُعيد ترتيب علاقتها بالمجتمع وبالعدو معا، فالثورة التي تُخاض حتى النهاية تُنشئ في داخلها ذاكرة جماعية من الخطر والبقاء، تجعلها تفضّل القبضة الحديدية على التسامح، والوحدة القسرية على التعدد.
يرى ليفيتسكي وواي أن ما يسمّيانه "الاستبداد الدائم" يقوم على ثلاثة أعمدة متكاملة: نخبة موحدة، وجهاز قمعي مخلص، ومجتمع منزوع البدائل. فالعنف الثوري يولّد نخبة متجانسة تعرف بعضها عبر التجربة الدموية المشتركة. هذه النخبة ليست مجرد حزب سياسي، بل جماعة مغلقة تُفرز الولاء عبر النار، وتجعل الانقسام الداخلي شبه مستحيل، لأن كل عضو فيها يدرك الثمن الذي دفعه لبنائها. ومن رحم الثورة أيضا تولد الأجهزة الأمنية والعسكرية المشبعة بعقيدة العداء والخوف، فتتحول إلى مؤسسات تحرس النظام لا الدولة (مصر مثالا ما بعد يوليو 1952)، وتستمد شرعيتها من الدفاع عن "المشروع الثوري" ضد أعداء الداخل والخارج. أما المجتمع، فسرعان ما يُعاد تشكيله على صورة الدولة الجديدة: تُلغى الأحزاب، وتُقمع النقابات، وتُخنق المنظمات المستقلة، ويُمحى أي صوت قد يذكّر بزمن ما قبل الثورة. عندها تكتمل الدائرة؛ لا يبقى سوى الدولة والحزب والقائد، ولا يعود التغيير ممكنا إلا عبر العنف ذاته الذي أوجد النظام أول مرة.
ولكي يبرهنا على صلابة هذه البنية، يستعرض المؤلفان تجارب متعددة. فالثورة البلشفية في روسيا لم تكتف بإسقاط القيصر، بل خاضت حربا أهلية دموية جعلت الحزب الشيوعي يتوحّد كليا تحت راية واحدة. العنف هنا لم يكن خطأ تكتيكيا، بل لحظة ولادة الدولة الحديدية التي ستصمد سبعين عاما. وفي الصين، تحوّل العنف الثوري الطويل إلى بنية ذهنية دائمة، فالدولة الشيوعية هناك تعلّمت أن تعتبر أي احتجاج امتدادا للحرب القديمة. لذا حين اندلعت مظاهرات تيان آن مين عام 1989، كان القمع السريع والقاتل نتيجة طبيعية لمنطق البقاء الذي وُلد مع الثورة ذاتها.
في المقابل، فشلت ثورات أخرى لأنها لم تعبر هذا الطور "الدموي المؤسِّس". فالثورات التي سعت إلى التوافق أو التسويات السلمية، مثل بعض تجارب أمريكا اللاتينية أو أفريقيا، لم تُنتج دولا متماسكة بل أنظمة هشة تفككت سريعا أمام الأزمات. يبدو أن غياب الخطر الوجودي منعها من بناء جهاز قمعي قوي أو نخبة موحدة؛ فظلّت كمن يمشي على أرض رخوة.
في مصر، تشكّل نموذج يوليو 1952 كأحد أكثر التجليات وضوحا لفكرة "الديكتاتورية الثورية" التي لا تموت لأنها لا تكفّ عن التمثّل في ذاتها كثورة دائمة. فالعنف المؤسِّس الذي أطاح بالنظام الملكي لم يكن مجرد لحظة قطيعة، بل لحظة ولادة لسلطة جديدة صهرت نفسها في جيشٍ يتقمّص دور المخلّص، ويحرس شرعيته بما يسميه المؤلفان "أسطورة الخطر الوجودي". لم يعد النظام يبرر سلطته باسم الدولة، بل باسم الثورة التي لم تكتمل بعد. وهكذا تحوّل المشروع التحرري إلى آلة انضباطٍ شاملة، استبدلت فكرة الأمة بفكرة الجماعة الوطنية المطيعة، وامتصّت السياسة في جسدٍ واحد يحتكر النطق باسم الشعب. منذ ذلك الحين، لم تخرج مصر من منطق الثورة التي تحرس نفسها من الثورة، فاستمرّت ديكتاتورية يوليو كطيفٍ يتجدّد في كل أزمة، لأنها وُلدت من وهم الخلاص، ولأنها وجدت في هذا الوهم سبب بقائها.
ورغم الجاذبية الفكرية لأطروحة ليفيتسكي وواي، فإنها تطرح سؤالا مقلقا حول الثمن الإنساني للاستقرار. فهل يمكن لنظامٍ أن يُبنى على العنف دون أن يصبح أسيرا له؟ إن الدولة التي تولد من النار، مهما بلغت من القوة، تظل مشدودة إلى ذاكرتها الدموية وإلى خوفها من عودة الفوضى. إن العنف الذي يمنحها المناعة هو ذاته ما يجعلها عاجزة عن التحول، لأن أي انفتاح أو تسامح يبدو لها تهديدا وجوديا. وبهذا المعنى، تبدو الأنظمة الثورية المستقرة كيانات محنطة أكثر منها كائنات حية؛ فهي تصمد، نعم، لكنها لا تتطور. إن ثمن البقاء في مثل هذه الأنظمة هو موت السياسة ذاتها، وتحويل المجتمع إلى صدى باهت لسلطة لا تعرف سوى الخوف والارتياب. وهنا يكمن السؤال الأعمق الذي يتركه الكتاب مفتوحا: أيّهما أخطر على الإنسان- الفوضى التي تلد الحرية، أم الاستقرار الذي يلد القمع؟