أحيانًا تتقاطع الأحداث في ظاهرها دون أن يلتفت أحد إلى الخيط الذي يربطها. لكن في قراءة أعمق، تدرك أن السياسة ليست مجرد قرارات ومفاوضات، بل خطاب رمزي تحمله الجغرافيا والتاريخ معًا. فقمة شرم الشيخ للسلام في غزة، والاتفاق المصري–اليوناني حول دير سانت كاترين، ليسا حدثين منفصلين كما يبدو، بل وجهان لجوهر واحد: مصر وهي تعيد تعريف السلام، لا كسلاح دبلوماسي، بل كهوية حضارية.

لم تكن قمة شرم الشيخ مجرد اجتماعٍ طارئٍ لإدارة أزمة إنسانية، بل فصلًا جديدًا في ملحمة الدور المصري الذي يوازن بين النار والإنسان. فحين اختارت القاهرة أن تكون شرم الشيخ منصةً للحوار، كانت تدرك أن العالم يقف على حافة انفجار إقليمي، وأن الصراع في غزة تجاوز حدود الدم إلى حدود الوعي. جاءت القمة بدعوة مصرية مباشرة جمعت أطرافًا عربية ودولية — الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ودول الجوار، وبعض القوى الكبرى التي آثرت الصمت طويلًا أمام المأساة. لكن القاهرة كسرت هذا الصمت، ودفعت الجميع إلى الاعتراف بأن لا استقرار في المنطقة دون دور مصري واضح ومركزي.

لقد أكدت المخرجات — وقف إطلاق النار الفوري، رفض التهجير القسري، فتح الممرات الإنسانية تحت إشراف دولي، وتثبيت الوساطة المصرية — أن مصر لا تتعامل مع السلام كصفقة، بل كمسؤولية. ولعل أكثر ما ميّز البيان الختامي أنه لم يكن باردًا في لغته، بل حافلًا بنبضٍ إنسانيٍّ واضح: الدفاع عن الحق في الحياة، لا عن المصالح المؤقتة. ولأن السياسة في مفهوم القاهرة ليست رد فعل، بل رؤية ممتدة، فقد طرحت مصر خلال القمة تصورًا متكاملًا لإعادة إعمار غزة، يقوم على شراكة عربية – دولية بإشراف مصري مباشر. وهو طرح يعكس فلسفة جديدة: سلامٌ يُبنى بالحكمة والواقعية، لا بالوعود والشعارات.

وفي اللحظة نفسها تقريبًا، خرج إلى النور الاتفاق المصري–اليوناني بشأن تطوير وإدارة دير سانت كاترين، حدثٌ يبدو ثقافيًا في ظاهره، لكنه في جوهره امتداد لروح السياسة المصرية ذاتها: احترام المقدس، وحماية الذاكرة، وصياغة السلام من داخل الإنسان لا فوقه. فالدير الذي يعود إلى القرن السادس الميلادي، ويُعد من أقدم الأديرة في العالم، تحوّل إلى جسر جديد للتعاون بين القاهرة وأثينا، لترميم منشآته التاريخية وتطوير الخدمات السياحية المحيطة به، مع الحفاظ على قدسيته وطابعه الأثري الفريد. الاتفاق تضمّن إنشاء مركز بحثي مشترك لدراسة المخطوطات القديمة، ومشروعًا رقميًا لتوثيق الأيقونات النادرة، وتوسيع نطاق “طريق التجلي” ليصبح مقصدًا عالميًا للسياحة الدينية والبيئية معًا.

لكن ما هو أعمق من البنود هو الرمز: فمصر ترمم ديرًا في سيناء بنفس الروح التي تُعيد بها إعمار غزة، كأنها تقول للعالم إن السلام لا يُصنع فقط باتفاقات حدود، بل بإحياء الروح التي توحّد الإنسان قبل أن تفرّقه السياسة. هنا، تتجلى فلسفة الدولة المصرية الجديدة: أن تحمي مقدسات كل الأديان لأنها تؤمن أن نور الله واحد، وأن حضارة الإنسان تُبنى على الاعتراف بالآخر، لا على إقصائه.

سيناء ليست مجرد أرض، بل ذاكرة حية تتحرك بين الحرب والسلام. على جبالها ارتفعت راية النصر في أكتوبر، وفي وديانها يسير اليوم طريق التجلي، وفي مدنها تُعقد القمم التي ترسم خرائط المستقبل. من شرم الشيخ التي تستضيف الحوار، إلى سانت كاترين التي تحتضن الصمت المقدس، تمتد خيوط السياسة المصرية بين الواقعية والإيمان، بين العقل والروح، بين الإنسان والوطن. وحين يجلس علماء من مصر واليونان في مكتبة الدير لقراءة مخطوطاتٍ عمرها أكثر من ألف وخمسمائة عام، فإنهم في الحقيقة يعيدون كتابة فصلٍ من الدبلوماسية الروحية التي ميّزت مصر عبر العصور — من كهنة آمون إلى رهبان سانت كاترين، من حِكمة الفراعنة إلى سياسة الدولة الحديثة.

ما بين قاعة قمةٍ تكتب ميثاقًا للسلام، وديرٍ في قلب الجبل يهمس بالتراث، تقول مصر للعالم: لسنا نبحث عن مجدٍ زائل، بل عن معنى خالد. نكتب التاريخ لا بالحبر، بل بالمواقف التي تحفظ كرامة الإنسان وتعيد للوعي العربي توازنه. ولذلك، فإن ما حدث في شرم الشيخ وما وُقّع في سانت كاترين ليسا مشهدين متباعدين، بل فصلًا من سردية واحدة: سردية دولة تعرف أن قوتها ليست فقط في جيوشها، بل في قدرتها على جمع المتناقضات — الأرض والسماء، السياسة والإيمان، الشرق والغرب.

ومن سيناء يبدأ السلام، لا من طاولة مفاوضات ولا من بيان أممي. فكلما اشتعلت النار في أطراف الإقليم، تخرج مصر من صمتها لتذكّر الجميع أن الضوء لا يُستورد، وأن الروح لا تُشترى. من شرم الشيخ إلى دير سانت كاترين، تمتد رحلة دولةٍ تصنع السلام وتحمي الذاكرة، تُعيد للإنسان توازنه، وللتاريخ معناه. ومن أرض الأنبياء والجنود، تقول مصر بهدوء العارفين: لسنا نبحث عن دورٍ في التاريخ، نحن نكتب الوعي.

طباعة شارك الجغرافيا التاريخ قمة شرم الشيخ للسلام غزة قمة شرم الشيخ

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الجغرافيا التاريخ قمة شرم الشيخ للسلام غزة قمة شرم الشيخ قمة شرم الشیخ سانت کاترین التی ت

إقرأ أيضاً:

نجاة مسؤول محلي في ديالى من محاولة اغتيال

نجاة مسؤول محلي في ديالى من محاولة اغتيال

مقالات مشابهة

  • مؤتمر شرم الشيخ وغياب الحقوق الفلسطينية
  • نجاة مسؤول محلي في ديالى من محاولة اغتيال
  • د. منال إمام تكتب: الدبلوماسية المصرية في حرب أكتوبر.. صوت الحكمة وقوة الموقف
  • مصر تصنع السلام العادل وتقود مستقبل المنطقة
  • صُناع السلام.. تخليد اتفاق وقف حرب غزة بجدارية تجمع الرئيس السيسي وترامب بشرم الشيخ
  • في مطبخك العلاج.. توابل تحافظ على شبابك وتحمي قلبك
  • حقوقيون: نجاح قمة شرم الشيخ للسلام ثمرة الجهود المصرية بقيادة الرئيس السيسي
  • وفد أممي يبحث مع قيادتي الاشتراكي ولجنة الاعتصام التحديات التي تواجه المهرة ومسار السلام
  • مصطفى بكري: نجاح مؤتمر شرم الشيخ أعاد لمصر مكانتها التاريخية.. فيديو