توقيف ضابط سوري متهم بارتكاب انتهاكات في سجن صيدنايا في عهد الأسد
تاريخ النشر: 23rd, October 2025 GMT
دمشق- أعلنت وزارة الداخلية السورية الأربعاء 22 اكتوبر 2025، توقيف اللواء أكرم سلوم العبد الله المتهم بارتكاب "انتهاكات جسيمة" في سجن صيدنايا في عهد الرئيس السابق بشار الأسد، منها على وجه الخصوص "غرف الملح" حيث كانت توضع جثث المعتقلين.
وجاء في بيان للوزارة "نفّذ فرع مكافحة الإرهاب في محافظة دمشق عملية محكمة.
وأضافت أنه بحكم منصبه هذا، كان ضالعا "في ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المعتقلين في سجن صيدنايا"، مشيرة الى أن التحقيقات الأولية أظهرت أنه "كان مسؤولاً مباشراً عن تنفيذ عمليات تصفية المعتقلين داخل سجن صيدنايا... خلال الفترة التي تولى فيها قيادة الشرطة العسكرية".
ويشكّل السجن الواقع شمال دمشق وصمة في تاريخ عائلة الأسد التي حكمت سوريا لزهاء نصف قرن، وقد وصفته منظمة العفو الدولية بأنه "مسلخ بشري" نظرا لحجم الانتهاكات التي شهدتها أقبيته.
وشهدت قاعات السجن، وهو من الأكبر في سوريا وكان مخصصا أساسا لإيواء السجناء السياسيين، عمليات تعذيب وإعدامات خارج نطاق القانون وإخفاء قسري، وفق شهادات منظمات حقوقية ومعتقلين سابقين وأفراد عائلاتهم.
وتقدّر رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن 30 ألف شخص دخلوه منذ اندلاع النزاع في العام 2011، وأفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصا أنه نادرا ما يُبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.
وقال مؤسس الرابطة دياب سرية لوكالة فرانس برس إن العبد الله "هو من أهم الشخصيات التي لها علاقة بسجن صيدنايا" التي يتم توقيفها منذ إطاحة الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وأشار الى أنه كان يتولى قيادة الشرطة العسكرية "في ذروة الإعدامات، في ذروة عمليات التعذيب" التي وقعت في السجن، مضيفا "مسؤولية هذه الجرائم تقع على عاتقه هو".
وفي منشور على فيسبوك، قال سرية إنه تمّ خلال عهد اللواء الموقوف "ابتكار +غرف الملح+ التي كانت عبارة عن مستودعات لحفظ الجثث لحين نقلها إلى المقابر الجماعية".
وأظهر تحقيق لفرانس برس نشر في العام 2022 بناء على مقابلات مع معتقلين سابقين وتقرير للرابطة وجود "غرفتي ملح" على الأقل في سجن صيدنايا، تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها. ولجأت إدارة السجن على ما يبدو إلى الملح الذي يؤخر عملية التحلل، كون السجن يخلو من برادات لحفظ جثث معتقلين يسقطون بشكل شبه يومي فيه جراء التعذيب أو ظروف الاعتقال.
ولقي أكثر من 200 ألف شخص حتفهم في السجون السورية، بما في ذلك إعداما أو تحت التعذيب، بحسب المرصد السوري لحقوق الانسان.
المصدر: شبكة الأمة برس
كلمات دلالية: فی سجن صیدنایا
إقرأ أيضاً:
شهادتي على لقاء الأسد ومشهد العار في جامع المسلمين
ما رأيته في سوريا يشبه مشاهد من أفلام ديستوبية. في هذا الفيلم الذي تغلب عليه ألوان التربة الصفراء، كانت مشاهد السلام والحرب الأهلية والثورة أشبه بعمل سريالي لكاتب ومخرج لا يمكن التنبؤ بهما.
المشاهد كانت مليئة بما لا يصدق: مرعبة، مفاجئة، حزينة. لكنها كانت أيضا، على نحو يتماشى مع قدر هذه الجغرافيا، مليئة بالمفاجآت. في هذه الأرض، يمكن أن يتغير كل شيء في أي لحظة، ويمكن أن يتحول السيناريو المتوقع إلى قصة أخرى تماما.
اللقاء الأول مع الأسدعندما رأيت بشار الأسد أول مرة، لفت انتباهي طوله، وعيناه الملونتان، وجمود وقفته، وبرودة روحه. رأيته حينها خلال الفعاليات الرسمية، عندما كانت العلاقات التركية-السورية في أوجها، وكنت وقتها المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء أردوغان. التقينا بين عامي 2008 و2010، مرة في أنقرة، وأخرى في دمشق، وأحيانا في حلب.
وبينما كنت أراقبه عن بعد، كانت تدور في ذهني الحكايات التي سمعتها عن سنوات حكم والده حافظ الأسد، تلك السنوات الباردة تحت وطأة الدكتاتورية. كان ابن بطل مجازر حماة وحمص يقف على بعد أمتار مني، يرتدي بذلة أنيقة، وكأنه يحاول أن يثبت بأنه مختلف.
لا تزال إحدى اللحظات عالقة في ذهني: أثناء جلوس بشار الأسد إلى مائدة الطعام مع أردوغان، فجأة وجه انتباهه نحو امرأة عند مدخل الغرفة، وكأنه أراد أن يفسح لها مكانا. أثار هذا فضول الموجودين عن هويتها.
كانت تلك المرأة بثينة شعبان، مستشارة إعلامية من عهد حافظ الأسد. فُسح لها مكان إلى جوار أردوغان. لا أعرف لماذا، لكن هذه اللحظة لم تغادر ذاكرتي. لاحقا، وخلال الحرب الأهلية، كنت أسمع اسمها كثيرا بوصفها من رموز السياسات القمعية المتطرفة، ومن أبرز شخصيات الطائفة النصيرية.
خلال جميع اللقاءات الرسمية، لم يصدر عن بشار الأسد ما يذكر بأيام والده القاسية. كان يقدم نفسه بملامح رجل دولة حضاري، درس في أوروبا، ويعيش مع زوجته حياة غربية هادئة.
إعلانلقد أخفى الوحش داخله بدهاء شديد، ولم يدرك أحد أنه قاتل بدم بارد. بعد اندلاع الثورة، قال أردوغان بعد أن رأى المجازر: "كانوا يصفون والده بالظالم، لكن هذا فاقه ظلما".
وسط مشاهد الحربعدت إلى سوريا في عام 2013، بعد اندلاع الثورة. ومنذ لحظة عبوري من تركيا، شعرت أنني دخلت إلى عالم آخر. اللون الأصفر الترابي كان يطغى على كل شيء في مخيلتي.
كنت ذاهبا إلى حلب، على بعد 40 كيلومترا، لكن الطريق استغرق ساعات طويلة. أُوقفنا في كل بضعة كيلومترات عند حواجز تابعة للفصائل المعارضة. كل مجموعة نصبت حاجزا ورفعت بوابة حديدية أو خشبية، وبدأت توقف الناس، تسألهم، تسمح لبعضهم بالعبور، وتمنع البعض، وتطلب المال من آخرين.
كان الحراس على الحواجز غالبا من الشباب الذين لم يبلغوا العشرين. لا يعرفون بالضبط من يسيطرون عليه، ولا لماذا يقفون هناك. حين يومئ لهم قائدهم، يرفعون الحاجز دون تردد، ثم يعودون إلى التحديق في الفراغ بأعين نصف نائمة.
في إحدى النقاط، خيم التوتر. رأيت رجالا ملثمين يرتدون السواد ويحملون أسلحة مختلفة. لم يتحدث مرافقونا معهم، بل غيروا الطريق على الفور. وعندما سألت من هؤلاء، قالوا: "هؤلاء يسمون أنفسهم دولة، ويقاتلون الجميع، لا يتحدثون مع أحد، وخطرهم كبير".
لم أكن أعلم وقتها أنني رأيت تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) لأول مرة وآخر مرة. وكنا نحن أول من نقل خبره في وسائل الإعلام.
حينها فهمت أن الفصائل المعارضة منقسمة، وأن كل واحدة تسيطر على منطقة وتديرها كما لو كانت دويلة مستقلة. لكن ما هو أسوأ حدث عندما اقتربنا من حلب، ورأينا الفصائل المعارضة تشتبك فيما بينها أمام أعيننا.
رأينا مقاتلا مضرجا بالدماء يمر أمامنا وهو يصرخ، والمواجهة مستمرة. كانت قافلتنا مكونة من عدة سيارات، وكان في مقدمتها حراس من إحدى الجماعات. وبينما كانوا يمرون من حاجز، وجه شاب هناك بندقيته نحوهم بحماس. نحن في السيارة الخلفية بدأنا بالصراخ لتحذيره، فقد كان على وشك إطلاق النار دون أن يدرك أن هؤلاء حلفاؤه. ولحسن الحظ، لم يطلق النار. عندها أدركت أن ما يقال عن اقتتال الفصائل لم يكن شائعة.
في هذه الأرض، يمكن أن يتغير كل شيء في أي لحظة، ويمكن أن يتحول السيناريو المتوقع إلى قصة أخرى تماما
معركة البقالفي ريف حلب، وعلى مقربة من مواقع جيش النظام، رأيت مشهدا يصعب تصديقه. عند دخولنا أحد المنازل التي سنبيت فيها، قيل لنا: "يجب أن نعبر الشارع بسرعة، فالجيش يتمركز في بدايته".
بينما كنا نمر بسرعة، انطلقت رشقات رصاص كثيفة. لم تصبنا، لكنها كانت قريبة. نزلت من السيارة لأتفقد الوضع. احتميت بجدار، ونظرت إلى الطريق، فرأيت دكاكين متقابلة؛ أحدها بقالة، والآخر- ربما- محل خياطة أو كشك.
الرصاص كان يخترق الشارع، يثير الغبار، ولكن في الدكاكين، كان الناس يواصلون أعمالهم ويبتسمون لي! رددت على الابتسامة بابتسامة، رغم أن الرصاص كان يمر أمامنا.
ثم، فجأة، وضع صاحب البقالة ما بيده، أمسك بكلاشنيكوف من جانب الدكان، جهزه وأطلق النار من باب الدكان نحو مواقع الجيش، دون أن يغادر مكانه، ودون أن تمحى الابتسامة عن وجهه. بعد أن فرغ من الطلقات، قال شيئا لجيرانه، وضحك الجميع.
الحرب، والرصاص، والموت، صارت هنا جزءا من الحياة.
"احذر، قناص!"خلال حرب البوسنة، كانت كل الطرق المؤدية إلى الجبال في سراييفو المحاصرة تحمل لافتة كتب عليها: "Pazite Snajper!" (احذر، قناص!). فقد كان القناصة الصرب المتمركزون في أعالي الجبال يقتلون المدنيين في شوارع سراييفو. لاحقا، عرفنا أن بعض السياح الأوروبيين، خاصة من إيطاليا، كانوا يجلبون إلى هناك لقتل البوسنيين مقابل المال، كأنها "سياحة الصيد البشري".
إعلانرأيت النسخة العربية من هذه اللافتة في شوارع حلب الخاضعة لسيطرة المعارضة. كان الناس يقتلون هناك أيضا برصاص لا يعرف مصدره. رفعت تلك اللافتات لتحذير الناس، لكن يبدو أن لا أحد كان يأبه. ففي ثقافة هذه الجغرافيا، يبدو أن الموت جزء من الحياة، لا مفاجأة فيها ولا هلع.
الشوارع التي دمرتها البراميل المتفجرة بدت أكثر قسوة من مشاهد فيلم "إنقاذ الجندي رايان". كانت ضواحي حلب أسوأ حالا من المدن الفرنسية التي دمرتها الطائرات الألمانية في الحرب العالمية الثانية. هناك، اللون الأصفر الترابي تحول إلى رمادي باهت، وقد اختفت جميع ألوان الحياة.
وجوه الناس الذين ما زالوا يعيشون بين ركام البيوت والمحال كانت مغطاة باللون الرمادي، تماما مثل ثيابهم. رأيت قربا حسيا من الدمار، وفهمت تماما كيف تبدو كارثة الحرب الأهلية عن قرب.
مشهد العار في جامع المسلمينفي زيارتي لحلب عام 2009، قبيل الحرب، دخلت سوقها الشهير، ووجدته شديد الشبه بأسواق غازي عنتاب التركية، إذ لا يفصل بين المدينتين سوى خمسين كيلومترا، وكلا السوقين من إرث الدولة العثمانية.
لكن حين عدت عام 2013، دخلت نفس السوق المهجور، لأجد جدرانه مثقوبة بآلاف الطلقات والقذائف. كانت الشمس تتسلل من ثقوب الحديد والخشب في الأسقف، وتضرب الأرض كخيوط ضوء رفيعة. المحال مغلقة، وتملؤها آثار الرصاص. بعض الشوارع مهدمة تماما بفعل البراميل المتفجرة، والأنقاض مكدسة في الطرقات.
على مقربة من السوق، كان الجامع الأموي العريق، وهو من زمن بني أمية. وهناك، ربما رأيت المشهد الأكثر خزيا في التاريخ الإسلامي الحديث.
ضربت قبة المسجد بقذيفة مدفع ضخمة، فانهارت وخلفت فجوة هائلة. المئذنة تهدمت وسقطت على شكلها المستطيل في ساحة المسجد. آثار الرصاص والقصف كانت في كل زاوية، والمشي وسط الركام كان صعبا.
دخلت المسجد من فجوة كبيرة في جدار القِبلة، فوجدت مشهدا صادما: كان هناك مقاتل من المعارضة قد حول الركام والسجاد وبعض المصاحف إلى متراس. من خلال فتحة صغيرة، وجه بندقيته الطويلة نحو الجانب الآخر من المسجد. على الجهة الأخرى، كان هناك جندي من قوات الأسد في متراس مماثل.
كنت أمشي منحنيا، أحاول فهم ما أراه، والشمس تتسلل من فتحة القبة، مسلطة الضوء على أكثر مشهد مأساوي رأيته: مسلمين يشتبكان داخل مسجد، يفصل بينهما 15 أو 20 مترا فقط، ويختبئ كل منهما خلف سواتر من المصاحف، والسجاد، والركام.
عندما كانت تطلق رصاصة، كان صداها يتردد بين جدران المسجد، ويعلو بين كلمتي "الله" و"محمد" المكتوبتين على الجدران. شعرت بأنني أمام أكثر المشاهد الديستوبية التي يمكن أن تصور.
تجسدت أمامي مأساة الصراع الطائفي بين السنة والشيعة داخل مسجد، فكان هذا أكثر ما رأيته خزيا في تاريخ المسلمين.
صور من فيلم رعبظننت أن ما رأيته في رمضان في حلب يكفي لفهم أهوال الحرب السورية. في الليلة الأخيرة، صلينا التراويح في مسجد ريفي، ثم انطلقنا في رحلة العودة إلى تركيا. وعند الصباح، علمنا أن المسجد قد ضرب ببرميل متفجر، وسقط فيه عدد من القتلى. تأثرت بشدة، لكن ما أثر فيّ أكثر، كان ينتظرني لاحقا.
فور عودتي إلى تركيا، تلقيت اتصالا من رئاسة الوزراء. سألوني إن كنت مستعدا للسفر فورا إلى الدوحة في قطر، لأمر عاجل وسري يتعلق بخبر بالغ الخطورة. وافقت فورا.
التقيت في فندق هناك مجموعة من الأشخاص، بينهم محامون بريطانيون، وخبراء طب شرعي أميركيون، وآخرون مجهولو الصفة. كان بينهم شخص سوري يعرف بالاسم الحركي "قيصر"، وهو مصور سابق في الشرطة العسكرية السورية. كانت مهمته تصوير جثث المعتقلين الذين ماتوا تحت التعذيب.
وقد تمكن من تهريب أكثر من 50 ألف صورة إلى خارج سوريا. جزء من تلك الصور سينشر في "سي إن إن"، و"الغارديان"، ووكالة الأناضول التي كنت مديرها، وهيئة الإذاعة والتلفزيون التركية.
إعلانوقبل أن نرى الصور، شرح لنا طبيب شرعي أميركي التأثيرات النفسية الخطيرة المحتملة لمشاهدتها. قال إنه نفسه أصيب بالاكتئاب أثناء فحصها.
بعد التوقيع على اتفاق يمنعنا من النشر قبل الموعد، عرضوا علينا على شاشة الحاسوب الآلاف من الصور. رأيت معتقلين جائعين حتى الموت، وقد تحولوا إلى هياكل عظمية، مرصوصين في فناء السجن. على جباههم وصدورهم أرقام. كانت هذه إشارات تنفيذ أوامر الإعدام، ولعلها كانت ترفع في تقارير إلى بشار الأسد شخصيا.
رأيت ضحايا خنقوا بأسلاك تشبه أسلاك البناء، وآخرين بخيوط تشبه "سير" محرك السيارة. رأيت عيونا مفقوءة، وأجسادا مبتورة الأطراف، ملفوفة بأكياس بلاستيكية. كانت الجثث مكدسة بالعشرات في ساحات السجون.
كان أحد السجون التي التقطت فيها هذه الصور هو سجن صيدنايا، وقد زرته لاحقا.
شاهدت الصور ببرود، وطرحت بعض الأسئلة. لاحقا فهمت أن هذا الهدوء لم يكن إلا نوعا من الصدمة.
أخذت نسخة من الصور على "فلاش ميموري"، وعدت إلى تركيا. عملنا ليل نهار على كتابة النصوص وترجمة الشروح. ونشرنا الصور بالتزامن مع وسائل الإعلام الأخرى.
أحدث النشر صدمة عالمية، وسرعان ما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على نظام الأسد، عرفت باسم "عقوبات قيصر".
دخلنا جميعا في اكتئاب حاد. لم نستطع الأكل ولا النوم لأيام. خجلنا من إنسانيتنا. كيف يمكن لإنسان أن يعذب إنسانا آخر بهذه الوحشية؟ ظللت أتساءل كيف كان بشار الأسد، ذلك الرجل ذو البذلة الأنيقة، ينظر إلى هذه الصور؟ وقد رد لاحقا بأنها "مزيفة".
كانت تلك الصور هي المشهد الأكثر رعبا في ذاكرتي عن سوريا. ولم أشفَ منها لسنوات. وعندما زرت السجن لاحقا، عادت إليّ أعراض الاكتئاب.
رأيت مشهدا مأساويا: مسلمين يشتبكان داخل مسجد، يفصل بينهما السجاد والمصاحف والركام، وصدى الرصاص يتردد بين كلمتي الله ومحمد
في الأيام التي قيل فيها إن سقوط الأسد مستحيلما عايشته في الحرب الأهلية السورية كان من أكثر الأحداث التي هزتني في مسيرتي المهنية. كانت هناك مشاهد لا تصدق، ومجازر، وتعذيب، وتهجير، وشهادة على تحطم بلد بأكمله. كان الأسد قد استعاد السيطرة على كامل مدينة حلب، وشرد مئات الآلاف من سكانها.
كنت أقف على تل في إدلب، ألتقط صورا للاجئين الذين يفرون حفاة، بملابسهم الممزقة، عبر طرق موحلة، باتجاه الحدود التركية، هربا من الموت.
بعد سقوط حلب، ساد اعتقاد راسخ بأن سقوط الأسد لم يعد ممكنا، خاصة مع دعمه المطلق من روسيا وإيران. لذلك، سعت جهات عديدة للبحث عن "حل وسط". بل إن هناك من بدأ يعمل على المصالحة بين أردوغان والأسد، وكان أردوغان قد أبدى استعدادا مبدئيا لذلك.
لكن الأسد، وقد بلغ ذروة ثقته بنفسه، لم يتفوه بأي كلمة تشير إلى السلام. أما بثينة شعبان، تلك التي رأيتها في بدايات الثورة، فكانت تتحدث بتحدٍ، معلنة أن "الجيش سيدخل إلى كل مكان".
تجمد المشهد. فصائل المعارضة غرقت في شعور بالهزيمة، وأدار العالم نظره عن سوريا. غير أن الهجوم الإسرائيلي على غزة غير المشهد، كما غير المنطقة بأسرها، وحرك المياه الراكدة.
لم يصدق أحد أن دمشق ستسقطكنا جميعا نتابع مجازر غزة. وفجأة، بدأت الأخبار تتوالى عن تحرك في الداخل السوري، مركزه إدلب. لم يعره كثيرون اهتماما، ظنا أنه مجرد اضطراب موضعي. ثم اتضح أن الهجوم يتوسع، ويتجه من إدلب نحو حلب.
بدأت التحليلات تتحدث عن إمكانية استعادة الريف الحلبي، لا المدينة ذاتها.
لكنّ ثمة أياما تأتي لتقلب كل شيء. هكذا بدأت لحظة الثورة الجديدة، التي صدمت الجميع.
كانت تركيا تقدم دعما محدودا للفصائل، وكنت أتابع المستجدات من مصادري. لم نكن حتى نطرح احتمال "سقوط دمشق"، لكنني كنت أسأل مرارا: "هل تسقط حلب؟". وكان الجواب دائما: "هذا صعب جدا". لكن التطورات على الأرض أذهلت حتى المسؤولين في أنقرة.
وعندما سقطت حلب، عاد الأمل بسقوط دمشق. ومع ذلك، ظل كثير من المحللين في الإعلام يرددون أن إسقاط الأسد مستحيل، في ظل دعم روسيا، وإيران، و"حزب الله"، ونفور النظام من أي سلام.
لكن، كما أثبتت هذه الجغرافيا مرارا، فإن كل شيء فيها قابل للتبدل في لحظة. الحكايات تتغير فجأة، والمفاجآت جزء من قدر هذه الأرض.
سقوط حلب كان سريعا وصادما. فسأل كثير من الثوار: "لماذا لا تسقط دمشق أيضا؟".
بدأ الجميع يتحدث عن شخصية اسمها "الجولاني"، قائد من إدلب. لم أكن سمعت باسمه من قبل. ثم عرفت لاحقا أنه "أحمد الشرع"، وأنه بات على صلة وثيقة بتركيا.
وبعد يومين من إعطائه أوامر بالتقدم نحو حماة وحمص، أصدر أمرا جديدا: "اتركوا كل شيء، وتوجهوا إلى دمشق".
إعلانفي ذلك الوقت، كان الأسد يبدو في أقوى حالاته، لكن الواقع أنه كان ينهار من الداخل. سارت الثورة بسرعة مذهلة، حتى إن الناس لم يصدقوا ما حدث. وهذا يشبه تماما مشاهد الأفلام الديستوبية: تتبدل المشاهد بسرعة، وتتقلب العقول معها.
حين رأينا جنود الجولاني في شوارع دمشق، رفض عقلنا تصديق الأمر. لكن حين تأكدنا أن الأسد فر بطائرة روسية إلى موسكو، أدركنا أن المشهد أصبح واقعا.
كان المشهد الدامي في غزة قد أثقل أرواحنا، لكن سقوط الطاغية بشار أعاد شيئا من الرجاء.
ما رأيته في طرقات الثورةكان الأمر أشبه بالحلم، لكن دمشق أصبحت في يد المعارضة.
قررت الانطلاق فورا. كما فعلت عام 2013، ركبت برا من تركيا إلى حلب، ثم إلى دمشق. عند اجتيازي الحدود، لاحظت أن جميع الحواجز التي كانت تنصب من قِبل الفصائل اختفت. كثير من المناطق باتت تحت سيطرة تركيا.
وصلت إلى إدلب، الخاضعة لسيطرة "أحمد الشرع" (الجولاني باسمه الحركي). كانت المدينة هادئة، والناس يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، فقد كانت إدلب آمنة منذ ست سنوات، تحت سيطرته الكاملة. ومن هناك، كانت الثورة قد تبلورت.
تابعت طريقي نحو حلب. استخدمت كل وسيلة نقل وجدتها: دراجة نارية، حافلة صغيرة، سيارة أجرة. عندما دخلت حلب، تلك المدينة التي أسرتني منذ الزيارة الأولى، وجدت أجواء حذرة متفائلة.
بعد سقوط المدينة، أُعطيت ضمانات لكل الطوائف والأعراق والملل بعدم المساس بها. وقد وثق الناس بتلك الضمانات، فلم يغادروا مدينتهم.
مع فرار قوات الأسد والمليشيات الموالية لإيران، استعيد النظام في المدينة، وبدأت الاحتفالات في الشوارع. وكان لهذا الدور الكبير في تسهيل سقوط دمشق.
زرت سوق حلب من جديد. بدأت أعمال ترميم جزئية، لكن آثار الحرب لم تمحَ بعد. أما الجامع الأموي، الذي شهد اشتباكات في داخله، فقد أدرجته اليونسكو ضمن قائمة الحماية، وبدأت أعمال الترميم، لكنه كان مغلقا، ولم يسمح لي بالدخول.
غادرت حلب برفقة مجموعة من السوريين الذين كانوا لاجئين في تركيا، وعادوا فور نجاح الثورة. على الطريق نحو دمشق، رأيت آثار المواجهات لا تزال واضحة: سيارات محترقة، دبابات مدمرة، مبانيَ منهارة، متاريس، وحواجز.
في حماة وحمص، كان الدمار أوسع. فقد كان النظام يحاول الدفاع عن دمشق عبر هذه المدن، لكن قواته لم تصمد أكثر من يومين، ثم انسحبت.
الأيام الأولى في دمشقدخلت دمشق، وقد سقطت دون أن تتعرض لدمار كبير أو معارك عنيفة. وما سهل سقوطها أن "الجولاني" (الاسم الحركي لأحمد الشرع) دخل المسجد الأموي وأعلن أمام الناس ضمان حماية أرواحهم وممتلكاتهم، فهدأ الجميع، وفتحوا صدورهم للواقع الجديد.
كنت قد زرت قصر الأسد سابقا، بدعوة منه، وها أنا أعود إليه، لكن هذه المرة وجدت حراسه من الثوار، بملابسهم الرثة، يقفون على بابه ويمنعون الدخول. وحين عرفوا أنني من تركيا، طلبوا التقاط الصور معي.
غادرت القصر، وتوجهت نحو سجن صيدنايا، ذلك السجن الذي رافقتني صوره لسنوات، وأغرقتني في دوامة من الاكتئاب.
عند وصولي، رأيت مشهدا مروعا. فقد داهمه الناس فور سقوط النظام، لإطلاق سراح من تبقى من المعتقلين، فظهرت مشاهد لا تخطر على بال: أشخاص لم يروا ضوء الشمس منذ أربعين عاما، من يعتقد أن حافظ الأسد ما زال حيا، من فقدوا عقولهم من شدة التعذيب، ومعاقون لا يستطيعون المشي.
صور الناس هذه المشاهد، ووزعوها على وسائل الإعلام في أنحاء العالم. كانت روائح الجثث المحترقة تنتشر في المكان.
عندها فقط فهمنا أن آلة التعذيب في عهد الأسد كانت أكثر وحشية مما كنا نظن.
طلبت الخروج من المكان فورا، إذ شعرت بأن الاكتئاب الذي عانيته سابقا بدأ يعود إليّ من جديد.
وعلى بعد مسافة قصيرة من السجن، رأيت أشخاصا يحفرون في أرض خالية بطريقة غريبة. عندما اقتربت، تبين أن الأرض كانت مقبرة جماعية. كانت جثث المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب تلف في أكياس، وتكتب أرقام على جباههم وصدورهم، ثم تدفن هناك سرا.
هؤلاء هم أصحاب الصور التي رأيتها في قطر.
ومع سقوط النظام، بدأت تكتشف مقابر جماعية في أماكن متعددة من البلاد. لكن أكثرها رعبا كان سجن صيدنايا. فقد استمرت فيه الإعدامات حتى بعد اندلاع الثورة، وكل ذلك بأوامر من السفاح بشار الأسد.
اللقاء الأول مع أحمد الشرعكانت الاحتفالات تعم كل أرجاء دمشق، وأكبرها جرت في الجامع الأموي. ذهبت إلى أول صلاة جمعة هناك، فوجدت نفسي بين آلاف من الناس، يهتفون، ويتعانقون، ويطلقون الزغاريد.
رجال "أحمد الشرع" كانوا يتولون تأمين المكان، والناس يلتقطون الصور معهم باستمرار. وكان بين المدنيين الكثير ممن يحملون أسلحة كلاشنيكوف، ولم يتركوا سلاحهم بعد، بحكم العادة.
كان هناك من يوزع الحلوى والتمر، وباعة جائلون ينتشرون في الساحات، والجو العام يشبه المهرجانات. أكثر ما كان يباع: أعلام سوريا القديمة، ذات النجوم الثلاثة. كبار السن والشباب يرفعونها بفرح.
كنت أشهد لحظة نادرة: فرحة شعب في أول أيام ثورته المنتصرة.
بعد ساعات، انتشر خبر مذهل: رئيس الاستخبارات التركية (MIT) إبراهيم قالن وصل إلى دمشق! في البداية لم نصدق، ثم تأكدنا من صحته.
نشرت صورة لإبراهيم قالن إلى جانب أحمد الشرع أمام الجامع الأموي، وانتشرت كالنار في الهشيم، وأحدثت صدمة في العالم.
حينها فقط، فهم الجميع من يقف خلف هذه الثورة.
وبطريقة تتناسب تماما مع سيناريو فيلم ديستوبي، تواصلت معي مصادر خاصة، وأخبرتني بمكان سيزورانه. ذهبت إلى هناك، وانتظرت ثلاث ساعات. قيل لي إنهما لن يأتيا، فقررت المغادرة. وفي اللحظة التي هممت فيها بالمغادرة، رأيت الحرس يتحركون بسرعة.
انتظرت ساعة أخرى، ثم ظهر موكب كبير. وفي السيارة السوداء، رأيت رجلا ذا لحية سوداء، يقود، وإلى جانبه كان إبراهيم قالن بنفسه. لم أصدق عيني، لكن في هذا الفيلم السوري المجنون، لم يعد هناك ما يدهش.
أوقف الموكب، ونزل إبراهيم قالن، وعرفني على أحمد الشرع، زعيم الثورة. عانقني وقال: "مرحبا بك". سمحوا لي بطرح بعض الأسئلة، والتقاط صورتين. وبهذا، أصبحت ثاني صحفي في العالم يجري مقابلة مع زعيم الثورة بعد CNN، والأول في تركيا.
كان أحمد الشرع شابا هادئا، بملامح رزينة، لا توحي بالغرور أو العجرفة. لم تظهر عليه صدمة كونه أصبح حاكما للعاصمة السورية. وخلال الحديث، فهمت أنه هو الآخر لم يكن يتوقع أن تسقط دمشق بهذه السرعة.
وبعد أربعة أيام فقط من سقوط دمشق، التقطت صورتي مع أحمد الشرع وإبراهيم قالن، وعدت إلى تركيا. لكن هذه القصة العجيبة، التي بدت وكأنها مشهد من خيال، لم تنتهِ بعد… فالثورة لا تزال مستمرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline