الأسبوع:
2025-10-28@13:31:35 GMT

صديق «المؤمنين» يخدعهم!

تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT

صديق «المؤمنين» يخدعهم!

في السابع والعشرين من أكتوبر الجاري، خرج وزير الخارجية الأمريكي «ماركو روبيو» ليقدّم، كمن سبقوه في المنصب ذاته، تعهّدًا جديدًا باسم الولايات المتحدة «الدفاع القوي عن الحق غير القابل للتصرّف في الحرية الدينية».. تشعرك الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنها «أعظم صديق» للمؤمنين حول العالم.. خطابها المعلن يدّعي أنها المنقذ، يتحدث عن مئات الملايين من البشر الذين يواجهون العنف، السجن، والقتل لأنهم يمارسون معتقداتهم.

. تبدو الرسالة إنسانية في ظاهرها «حماية الأرواح وعقائدها دون شروط أو تمييز»، لكن التجارب الدولية علّمتنا أن بياناتهم الدبلوماسية، غالبًا، تخفي حسابات متعددة الأوجه والتداعيات.

بيان «روبيو» وهو يتحدّث عن «حقيقة أساسية تحكم الرؤية الأمريكية: الدين ضرورة لازدهار المجتمعات»، يجعلك تكاد تذرف الدموع أمام هذا الافتراض شديد المثالية.. لكن من يدرك الأبعاد يعرف أن ما يُقال يصبح أداة سياسية تستعملها واشنطن لإعادة تشكيل واقع الدول المستهدفة.. جرّبنا تغذيتهم (ووكلاءهم) للفتن الطائفية والعرقية في الشرق الأوسط.. ينخرطون في هذا النشاط قبل صدور تقريرهم السنوي (وبعده).. الحرية الدينية، وفق فلسفتهم النفعية، ليست ملكًا لمن يعيشونها، بل منحة خارجية تتوافق مع التوجّهات والمصالح الأمريكية.

حين تقول واشنطن إن سياستها الخارجية «تروّج بلا تردّد للحرية الدينية»، فإنها تُعلن، وفق تصوّري، أن تدخّلاتها حول العالم «ليست موضوعًا للنقاش الأخلاقي»، بل امتدادًا لواجب «منحته لها السماء».. هذا المزج بين العقيدة القيمية والتدخّل الجيوسياسي يجعل أي معارضة يتمّ تصويرها كرفض للحق الإلهي نفسه.. من يقرأ ويسمع ويشاهد ما يُقال قد يتخيّل أن الولايات المتحدة تختار دائمًا الطريق النزيه.. لكن الذاكرة القريبة للعالم تضع علامات استفهام ضخمة حول ممارساتهم.. اسألوا من يواجهون القصف أو الحصار أو الفوضى التي تصاحب التدخّلات الأمريكية: هل تشعرون بأن حرياتكم الروحية تحظى بأي حماية تُذكر؟!

تاريخ الولايات المتحدة من الشرق الأوسط إلى أفريقيا وآسيا والبلقان، وعلى أطرافه، يعيد تذكيرنا بأن الدين لم يكن يومًا خطًا أحمر في السياسة الأمريكية.. كثيرًا ما تحوّل إلى أداة تعبئة، أو مبرّر للعداء، أو وسيلة لتقسيم المجتمعات.. المفارقة أنهم يرفعون راية حماية الإيمان، بينما يعيدون تعريف الإيمان كوسيلة ضغط.. البيانات الأمريكية الرسمية (سواء الصادرة عن وزارة الخارجية، أو البيت الأبيض، وغيرهما) لا تجيب عن السؤال الأهم: لماذا يتضاعف التوتر الديني في الدول التي تدخّلت فيها الولايات المتحدة بحجّة حماية الحريات؟ كيف تُرفع شعارات الحرية خارج حدودها، ويُمارس التضييق الداخلي على مجتمعات مسلمة وعرقية ترى نفسها مستهدفة لا محمية؟

تبدأ قصة «الحرية الدينية» في الوعي الأمريكي مع الآباء المؤسسين الذين رأوا في الإيمان ضمانًا للاستقلال الفردي أمام سلطة الدولة.. الدين كان بالنسبة لهم درعًا في مواجهة الاستبداد الأوروبي.. قناعتي أن ذلك التأسيس «المثالي» لم يكن بريئًا في المراحل اللاحقة.. حين خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية قوّة عالمية، اكتشفت أن الحرية الدينية يمكن أن تتحوّل إلى أداة نفوذ. المواجهة العسكرية مع الاتحاد السوفيتي أضيفت لها محاور ثقافية وعقائدية.. وضعوا ما وصفوه بـ«الإلحاد» في مربع الأعداء.. وسقطت منطقتنا ضمن هذه المعادلة.. صار الدفاع عن الإيمان جزءًا من ترويج «النموذج الأمريكي» ضد خصم أيديولوجي!

تحوّلت الحرية الدينية من حماية داخلية للمؤمنين إلى ذريعة للتدخّل الخارجي، حتى تأكيد «حق الشعوب في العبادة» تجاوز خصوصياتها عبر فرض تصوّر واحد لمعنى الإيمان.. البسطاء اعتقدوا أن الإدارات الأمريكية تساعدهم، فإذا بهم يبتلعون حيلة «الحرية المتفوّقة».. بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي، احتاجت أمريكا إلى رسالة أخلاقية جديدة تبرّر استمرار تدخلّها في العالم.. كانت العولمة في حاجة إلى غطاء قيمي.. عندها عاد الحديث بقوّة عن القيم الروحية.. كأن واشنطن تقول: لسنا قادة الاقتصاد والسلاح فحسب، بل حماة أرواح الناس وضمائرهم.

جرت في بحر الحياة مياه كثيرة حتى وصلنا إلى عام 1998.. أُقرّ الأمريكيون قانون «الحرية الدينية الدولية».. على الورق يبدو حقوقيًا، لكنه في الواقع منح الإدارة الأمريكية أداة رسمية لتقييم الدول الأخرى وفرض عقوبات عليها.. صار تصنيف الحكومات يُبنى على معايير تحددها واشنطن وحدها.. والحريات التي لا تُشبه النموذج الأمريكي تُعد ناقصة أو مشوّهة.. قانون لا ينفصل مطلقًا عن السياسة والمصالح.. الدول الحليفة، حتى لو كان سجلّها حالك السواد على الصعيد الديني، لا تتعرّض للمساءلة (أو الابتزاز)، أمّا الخصوم فإن ثغرة بسيطة تكفي لإطلاق حملات تشويه وضغوط، وإدراجها على القوائم السوداء.

قاعدتهم المثيرة للجدل «الحرية تُستخدم ضد من يعترض النفوذ الأمريكي».. القانون تجاهل جذور الاضطهاد الديني الحقيقي حين كانت الولايات المتحدة شريكًا في خلقه.. تدخّلات عسكرية أفرزت انهيارات اجتماعية كارثية، وأشعلت نزاعات عقائدية لم تكن موجودة من قبل.. لم تُراجع نفسها يومًا، ولم تُصحّح ممارساتها.. لم تتوقّف التقارير الأمريكية عن إلقاء اللوم على الغير، كأنها مراقب محايد لا قوة فاعلة فيما يحدث.. ربّما لأنه استقرّ في وعي صُنّاع القرار الأمريكيين أن الحرية الدينية ليست حقًا متساويًا بين الأمم.. معيار لاصطفاف سياسي.. إذا كنت ضمن المؤسسة العالمية بقيادة واشنطن، فإيمان شعبك محترم، وإذا خالفتها في السيادة والاختيارات يتحوّل إيمانك ذاته إلى مشكلة تحتاج علاجًا أمريكيًا فوريًا.

هكذا وُلد التناقض الكبير.. مبدأ عظيم تحوّل إلى أداة للهيمنة.. «الحرية الدينية» داخل الولايات المتحدة تبدو من ثوابت الخطاب الرسمي، لكنها في التجربة اليومية لا تعرف العدالة.. المسلم، والملوّن، والآتي من بلد بعيد، يجد طريق الإيمان محفوفًا بعراقيل غير مرئية (مراقبة سياسية، أحكام مسبقة، وحقوق تُنتزع حتى قبل الحصول عليها).. المساجد تواجه أحيانًا عراقيل بيروقراطية عند البناء، مدارس إسلامية تُوصم بالشكوك، يواجه المصلّون تفتيشًا مُهينًا في المطارات.. منظومة تضع فئات كاملة في خانة الظن، ومن ثم يُمارس الإيمان تحت سقف الشك لا سقف الطمأنينة.

في أماكن العمل والدراسة، تستمرّ أشكال التمييز.. فئات عدّة تُسأل عمّا تعتنقه وليس عمّا تُنجزه.. تتحوّل حرية العبادة من حقّ شخصي إلى امتحان سياسي.. يُجبر البعض على الحدّ من مظهره الديني كي لا يصير هدفًا للتحيّز.. خطاب الكراهية شهد صعودًا لافتًا، ليس فقط في فترات الأزمات، بل مع توسّع تيارات يمينية تربط الهجرة والخطر الأمني بالإسلام والعرق.. جماعات مسلّحة ترى في وجود المختلف تهديدًا لامتيازاتها: أعمال عنف، وتهديد لدور العبادة ومن يرتادونها (رجالًا ونساءً).

تتلاحم هذه التوجّهات مع سياسات حزبية محافظة، فيتحوّل الخوف إلى تشريع بدعوى حماية «القيم الدينية».. في الحقيقة يعيدون تشكيل الإيمان كهوية قسرية.. في بلد المفارقات، تصدر الدعوة إلى التسامح ممّن يعلنون أن حرية الضمير فوق القانون، ثم يسعون لفرض معتقداتهم الخاصة على الآخرين.. يحوّلون الدين إلى أداة تُحدّد من يستحق حقوقه، ومن يمكن التضحية به.. التمييز الديني داخل المجتمع الأمريكي لا ينفصل عن تاريخ طويل من الاضطهاد المنظّم ضدّ الملوّنين والسكان الأصليين.. نعم، حدث تغيّر، لكنه في اللهجة فقط.. لم يعد الإقصاء صريحًا، بل يُستخدم خطاب محايد في الظاهر، خلفه تستمرّ السياسات نفسها: حدود اجتماعية غير معلنة تقسّم الناس وفق أديانهم وأصولهم العِرقية.

في الولايات المتحدة، دعوات حماية المعابد اليهودية والكنائس الإنجيلية تُستقبل بتعاطف واسع، بينما الاعتداء على المساجد لا يثير الاهتمام ذاته.. هذا التفاوت يكشف الترتيب الهرمي الخفي للديانات في العقل الأمريكي: معتقدات مركزية يُنظر إليها كجزء من الذات الوطنية، وأخرى وافدة تحتاج مراقبة ولو أعلنت ولاءها.. وسط هذا التناقض يقف المواطن العادي بلا منصّة إعلام أو شبكة نفوذ.. يمارس طقوسه في صمت، يكبت قلقه من النظرات التي تلاحقه، ويحاول حماية أسرته من مضايقات تشتدّ كلما تغيّر المزاج السياسي.. الإيمان هنا يتحوّل إلى عبء حراسة يومية لا إلى مساحة أمان.

في الولايات المتحدة والعالم، جاء 11 سبتمبر 2001 ليغيّر كل شيء.. لم تعد واشنطن تتحدّث عن الحرية باعتبارها حقًا طبيعيًا، بل جعلتها مشروطة بضرورات الأمن.. خرج جورج بوش الابن متحدثًا عن «الحرب الصليبية»، كأن العالم دخل معركة توراتية جديدة، لا مواجهة محدودة مع تنظيم مسلّح، شاركت بلاده في توظيفه لسنوات في جبال بعيدة لخدمة أهدافها.. التوصيف لم يكن زلّة لسان من الرئيس الأسبق، بل إعلانًا عن إطار ذهني يرى المواجهة مع «آخر» ديني لا مع خصم سياسي.. تحوّل الصراع إلى فصل جديد من تاريخ طويل من الخوف من الإسلام، كأن عقيدة أكثر من مليار وثمانمائة مليون شخص يمكن اختزالها في فكرة العداء الأبدي للغرب.

أجهزة الأمن الأمريكية (أكثر من 17 كيانًا متنوعًا) تضخّمت، وابتلعت القيم التي تدّعي حمايتها.. جرى توجيه الجمهور الأمريكي لإعادة النظر في جيرانه وزملائه من المسلمين.. الإعلام ضَخّ رسائل خفية تزيل الثقة وتغذي فكرة أن الإسلام لا يتعايش مع الآخر.. لم يلتفتوا إلى أن الأغلبية الساحقة من المسلمين كانت ضحية الإرهاب.. بعد 11 سبتمبر 2001 صار المسلم في الولايات المتحدة يعيش تناقضًا مرًا: الدولة التي تعلن عالميًا حماية المعتقد، تعامل معتقده ذاته كقنبلة قابلة للانفجار.. العقيدة الأمنية الأمريكية صادرت خطاب الحرية من جذوره، وتركت خلفها خوفًا لا يتراجع بسهولة.

صاغت الولايات المتحدة الأزمة باعتبارها مواجهة بين «حضارتين» لا مجرد مواجهة مع إرهاب وظيفي صنعته أو تواطأت معه أجهزتها.. تعبير «الحرب الصليبية» على لسان بوش لم يكن وصفًا لعملية عسكرية فحسب، بل إعادة إحياء لإطار تاريخي يحمل ميراثًا من العداء ويزرع الانقسام بين المجتمعات.. لغة الإدارة في إقناع المواطن الأمريكي لم تُقدّم خطرًا سياسيًا فحسب بل خطرًا عقائديًا: لم يعد الإرهاب فعلًا يرتكبه مجموعات، بل أصبح نتيجة طبيعية لثقافة دينية يُتعامل معها كسبب أساسي. هذا التفسير المطاطي كان متعمّدًا ليُعفيها من مراجعة سياساتها، ويلقي المسئولية كاملة على العقيدة ومن يدين بها.

ربط الإرهاب بالإسلام ترسّخ في وعي الجمهور الأمريكي.. الإعلام والسياسة عملا كـ«يد واحدة» لإنتاج صورة جديدة: «الجماعة الإرهابية ليست الأخطر، بل المسلمون أنفسهم».. حملات العلاقات العامة الرسمية حوّلت كل ممارسة دينية إلى إشارة تهديد.. أشعلت الإدارات الأمريكية خطابًا يجعل الخوف مبرّرًا دائمًا، حتى إن لم يرتكب المسلم جرمًا، فمجرد الانتماء كافٍ ليضعه تحت مجهر التتبّع على الهويّة.. جرى تحويل الاختلاف العقائدي إلى احتمال عدواني.. لم يعد المسلم مواطنًا، بل «هدفًا محتملًا» حتى يثبت العكس، وهو عكس لا يُثبت بسهولة في الداخل الأمريكي.

اندفع الإعلام، بدعمٍ من السلطات، لإنتاج رواية تصوّر المسلمين شخصيات مشبوهة.. التغطيات ركّزت على الرموز الدينية أكثر من الفاعلين الحقيقيين، فتشكّل وعي جماعي يساوي بين الصلاة والمتفجرات، بين المساجد ومعسكرات الإرهاب.. تحول المسلمون إلى موضوع دائم للمراقبة، وأصبح الأمن يسبق أي حق آخر.. المواطن المسلم يخضع لتفتيش مضاعف وفحص نوايا، يكفي أن يكون اسمه مختلفًا ليُعامل كملف مفتوح.. تغلّب الشك على المساواة التي يفترض أن يحفظها الدستور، فصار لبّ الحريات مهددًا.

كثرت القوانين والتعليمات.. كلها تراقب حياة المسلمين اليومية.. تدقيق في المطارات، تفتيش مُهين، واستجوابات بلا أسباب ولا شفافية.. كثيرون جرى توقيفهم شهورًا وسنوات من دون محاكمة، فقط لأن أجهزة الأمن قرّرت أن الخطر لا يحتاج دليلًا بل «شبهة».. تفاقمت دعاوى «تمويل الإرهاب»، رغم أن مظلة الأنشطة الخدمية كانت تفيد الفقراء داخل الولايات المتحدة نفسها.. الإغلاق لم يهتمّ بإيجاد بدائل أو حتى تعويض المتضرّرين.. تحوّل التضامن الديني بين المسلمين من فعل خير إلى اشتباه سياسي.. وظلّت تحالفات جماعاتٍ معيّنة (الإخوان) خارج نطاق المساءلة.. مفارقة تكشف أن الاستهداف ليس منطقيًا بل انتقائيًا.

أُنشئت منظومات تتبّع إلكترونية تستهدف حياة المسلمين الرقمية، والرسائل الخاصة، فتسرّب الخوف إلى تفاصيل الحياة اليومية.. المسلم يفكّر مرّتين قبل إعلان هويته، يختار الصمت في نقاشات عامة، ويعيد تشكيل مظهره ليبدو «مطمئنًا» للآخرين.. لم تكن التطورات حرية إيمان، بل مفاوضات مستمرة مع سوء الظن.. الخطاب الرسمي الأمريكي يكرّر احترامه للمعتقد، لكن كل خطوة على الأرض كانت تؤكّد تتبّعه للمعتقد.. المسلم أصبح مطالبًا بأن يثبت البراءة طوال حياته.. تفاقمت الأزمة، وتمادت المؤسسات في «الشيطنة».. مراكز انخرطت في الجهد نفسه، شاركت في الاستهداف، وفي التمهيد لتبرير السياسات، تقاريرها المصاغة بعناية تعرف كيف تصل إلى صنّاع القرار والإعلام على السواء.

دورة التحريض الكبيرة جعلت من رواية واحدة (مشبوهة) ما يشبه الحقيقة الموضوعية دينيًا وثقافيًا.. السينما والدراما لعبتا دورًا محوريًا في تثبيت صور نمطية، تُغذّي المخاوف عبر مونتاج مشحون وموسيقى تحريضية، مشاهد تربط العبادة بعنف محتمل.. الصحافة التجارية سهّلت التعميم الجماعي.. تغطيات تكرّر الرموز لخلق رابط سريع في الذاكرة (صورة، لقب، وصف قصير).. التكرار يصنع استجابة عاطفية تفوق الفهم الموضوعي، ويضع جماعات بأكملها في مرمى الاشتباه.

تبدّت الازدواجية بقوة خلال الرسائل الإعلامية.. عندما يكون الفاعل من خلفية ثقافية أو عرقية إسلامية تصفه العناوين بـ«اعتداء» أو «مجزرة»، بينما لو جاء من خلفية أخرى تُستخدم عبارات تُحيّد الدافع أو تُحيله إلى «اضطراب نفسي».. السياسات الرسمية تلتقط الروايات وتحوّلها إلى إجراءات عملية (مراقبة مواطنين، قيود على منح تأشيرات، وتمويل مبادرات مثيرة للشكوك داخل المجتمعات المستهدفة).. غالبًا ما يُختار شركاء بعينهم على أساس ولاء سياسي لا على أساس نفع المجتمع.. المنح تذهب لمن يقدّم صيغة مقبولة للجهات المموّلة، فتُهمَّش أصوات محلية قد تكون أكثر قدرة على بناء تماسك داخلي.. النتيجة: شرخ اجتماعي يتّسع، وينتج شبكات استغلال تهدّد الاستقرار وتشجّع عوامل التطرّف بدل احتوائها.

هل تعي الإدارات الأمريكية أنّ كلما زاد الترويج لصورة «الخطر الدائم»، وكلما ازداد الانعزال الاجتماعي وتمددت الشكوك؟.. أم تتعمّد صناعة البيئة الملائمة للاستقطاب الحاد، وإضعاف قدرة المجتمعات على إدارة خلافاتها سلمياً؟.. أتذكّر، ونحن نكتب ونحذّر قبل الغزو الأمريكي للعراق 2003، أنّ الاحتلال لن يكتفِ بتغيير نظام حكم.. سيفرض هندسة سياسية تبنّى هويات طائفية كآلية لإدارة المشهد.. تأكَّدت المحاذير لاحقًا.. الدستور الذي كتبه الغزاة كوّن إطارًا مؤسَّسًا للتنافس على السلطة والموارد، حوّل اختلاف الانتماء إلى هاوية للصراع المؤسسي بدلاً من أن يكون عنصر غنى اجتماعي قابلًا للاحتواء السلمي.

الهيكلة الجديدة للدولة العراقية أحدثت سوقًا للقوى المسلحة والمحسوبية.. الأحزاب التي استندت إلى المرجعيّات العرقية صارت تلعب دورًا في توزيع الثروة والسلطة.. عندما تتداخَل الولاءات المذهبية مع منطق المكاسب، يتحوّل التنافس إلى صراع وجود، وتُصبح الشراكات (قصيرة النظر) مدخلاً للتوتر الأمني والاجتماعي طويل الأجل.. في فلسطين، ليبيا، واليمن، السودان، والأخطر، سوريا (التي هيمنت على حكمها الميليشيات بعد 8 ديسمبر 2024) اختارت قوى دولية تمويل وتدريب جماعات محلية باعتباره تكتيكًا فعّالاً لمواجهة خصوم إقليميين.. «الشركاء الميدانيّون» الذين ارتضَوا ولاءً وقتيًّا مقابل سلاح وغطاء سياسي، كانوا أدوات تفتيت الجغرافيا السياسية وخلق مرتع لمنافذ متطرفة تنمو في فراغ سلطة مدنية قوية.

التمييز بين فصيل وآخر لم يُجرَ وفق مشروع ديمقراطي، بل وفق تقييمات أمنية لحاجة الخارج.. أحيانًا تُفضِّل واشنطن فصيلًا على آخر لأن الأول أكثر قابلية للانصياع أو لأن سياسته تتوافق مع أهداف مؤقتة.. توظيف «الحريات الدينية» سياسيًا وميدانيًا كان واضحًا في الهيمنة على الموارد والمقدّرات.. إنتاج العنف يستنزف الشعوب ويُجهض مشاريع التعافي.. الاستثمار في علاقات طائفية خلق شبكات مصالح داخلية تربط بين قادة محليّين وفاعلين خارجيّين. هذه الشبكات صارت مقاومة لأي مشروع إصلاحي حقيقي، لأنّها تستفيد من انقسام الموارد وتنافس على الامتيازات.

تتعدّد النتائج الكارثية للعنف.. تشوّه النسق الاجتماعي يتضح بقوة (مدارس تتغيّر تركيبتها، أسواق تفقد توازنها، وعلاقات جيرة تنهار).. الانقسام يُجهض بناء مساحات مشتركة للعيش المشترك، وتزداد هشاشة المجتمعات المستهدفة بعدما تحكمها الجماعات وفق ولاءات مذهبية على جثة المواطنة الشاملة.. كل هذا لأنّ الولايات المتحدة قررت التعامل مع ملف الحرية الدينية بمقاييس مصالحها.. في منطقتنا، تربط واشنطن دعمها بالولاء وليس بتحسين المناخ الديني.. الحرية وفق هذا التوجّه ليست هدفًا في حد ذاتها، بل ورقة تُستخدم عندما تحتاج الولايات المتحدة رسائل ضغط سريعة.

حين يتّسع الفارق بين الوعود والممارسات، يفقد الخطاب الأمريكي الصدى المؤثر.. تصبح بيانات احترام حرية الدين تذكيرًا مؤلمًا بأن القيم المرفوعة لفظية فقط، وانتقائية في التطبيق.. الحسابات التجارية والجيوسياسية تسبق أي تضامن حقوقي.. تجاهل الانتهاكات يصبح ثمنًا مقبولًا لاستمرار التجارة أو موازنة النفوذ، حتى وإن تفاقمت الانتهاكات.. المؤمنون بعقائدهم مجرّد أوراق تفاوضية تُستخدم موسميًا حسب المصالح.. تُستثمر سياسيًا لاستهداف النسيج الوطني.. يروّجون لإزاحة أنظمة حكم باعتبارها ضرورة أمنية، لكنّهم يزرعون خوفًا جماعيًّا، ويفتحون الأبواب على مصاريعها لنزاعات دينية تتوارثها الأجيال.

الحروب التي تشهدها مجتمعات ذات تنوّع ديني تصبح مسرحًا لتجريب هذه السياسات.. يوزعون عليها السلاح، والاستشارات، والدعم اللوجستي الشامل.. الهدف تدمير القدرة على العيش المشترك.. المسجد والكنيسة يفقدان وظيفتهما الروحية ويتحولان إلى رموز صراع لا نهاية له، كما حدث في الجوار خلال الـ50 عامًا الماضية.. التدخل الخارجي يصنع فراغًا في الشرعية يملؤه المتطرفون بسهولة.. مع كل دورة عنف، يعود المتدخّلون لتبرير أفعالهم بدعوى مواجهة التطرف الديني (!!!).. يصبح علاج المشكلة امتدادًا لها، وتتواصل عمليات استنزاف الشعوب في نزاعات لم تخترها.

الغريب أن الولايات المتحدة (لو أرادت) تملك القدرة على فرض شروط تتعلّق بالحريات ضمن اتفاقاتها، لكنها لا تفعل ذلك إلا في زاوية مصالحها.. يجعلون من الحرية ضحية.. تتكرّر المأساة سنويًا.. يصدرون تقارير الحريات الدينية.. يحتارون من يُدرَج على «القائمة السوداء» ومن يُمنح «ترحيبًا خاصًا».. تتحوّل التقارير، إجمالًا، إلى مؤشّر تموضع سياسي، كون الهدف لا علاقة له بالتصنيفات الموضوعية بل بخصوصية العلاقة من عدمها.. يستخدمون الدعم المعلن لجماعات دينية (الإخوان، وكل الأدوات الوظيفية المماثلة) باعتباره دليلًا على تمكين الإيمان، لكنه غالبًا بوابة للتغلغل السياسي.. هذه الجماعات تؤدّي دورًا في مشروع أكبر.. فلسفة الأمريكان: نمنح الحرية لمن يرسّخ نفوذنا!

ربط هذه الأدوات المحلية (في الشرق الأوسط، أفريقيا، أمريكا اللاتينية، وآسيا) بشبكة المصالح الأمريكية يتبدّى فيما تحت يديها من قدرات مالية ولوجستية.. وجودها جزء من هندسة النفوذ لا من بناء الاستقلال الديني.. تشارك في ترويج مضامين تقارير الحريات الدينية الموجّهة.. التقارير السنوية (التحذيرية أو العقابية) ضد بلد ما جزء من الضغوط الدبلوماسية والتجارية (الخ).. مجرّد غطاء لغايات استراتيجية، رغم أن الحديث عن حرية الإيمان لا يحتاج وسيطًا عسكريًا ولا قوة عظمى لتحديد من يستحقه.. الحرية المشروطة بولاء سياسي تفقد الحق طبيعته، فيصبح تصريحًا تُصدره قوة مهيمنة.

الفرق بين الحق الإنساني والوعد بنظام عالمي واضح.. الأول يولد من كرامة الإنسان، والثاني يُوزّع وفق حسابات النفوذ.. يحوّلون الإيمان إلى فئة قابلة للشراء، تضع مستقبل المجتمعات تحت رحمة ميزان مصالح لا يضع الإنسان في مقدّمة أولوياته من الأساس.. الحرية الدينية التي تُمنح عبر الضغط السياسي (وفق تقييمي للتصور الأمريكي) لا تعيد التوازن داخل المجتمعات، بل تخلق طبقة محظيّة.. المجتمعات التي تُصنّف حسب قربها أو بعدها من القوة الدولية تكون أكثر عرضة للتطرف.. يصبح الدين أداة صراع بين قوى تتنافس على الموارد، لا قيمة تُرشد العيش المشترك.. التناقض الذي تبنيه واشنطن بين خطاب عالمي وتطبيق انتقائي يساهم في عدم الاستقرار الذي تزعم محاربته.

المفارقات لا تتوقف.. أكبرها أن الإدارات الأمريكية لا تتصرّف كوسيط أخلاقي، بل كـ«محتكر لتعريف الحق».. تقول للعالم: نحن نحدد من يحتاج الحماية ومن يستحق العقاب.. فهل هذا يصنع ثقة أم يرسّخ شعورًا عالميًا بأن الدين أصبح جزءًا من صراعات المصالح (الخفية والمعلنة) ولا علاقة له بما يمكن وصفه بـ«الأمن الروحي»؟ واشنطن تطلب من البشرية القبول بأن الولايات المتحدة القائد الطبيعي لهذه القيم.. تتناسى سجل التدخلات المفعم بخطوط الدم والحروب الطائفية الطويلة؟ منذ متى كانت المزاعم تمنح القيادة؟ أليست القيادة تتعزّز بالقدرة على تجنيب الآخرين الصدمات؟

حماية المعتقد لا تحتاج شرطيًا روحيًا على المستوى الدولي.. تحتاج تمكينًا للمجتمعات كي تُصلح علاقاتها الداخلية وتبني آليات مصالحة تُعطي كل جماعة شعورًا بأنها ليست موضوعًا لمقايضات خارجية.. تحتاج نظامًا يقرّب بين الأديان والمعتقدات في الحماية.. تكون حرية العبادة نابعة من المواطنين، وليست مفضّلة بقرار جيوسياسي.. تجربة مصر منذ 2014 ملهمة.. التغيير الحقيقي يبدأ حين يُفهم الدين كحق لا يمكن تسييله دبلوماسيًا. دعم المؤسسات التي تعزّز الوحدة الوطنية، وتعزّز العيش المشترك.. هذه أدوات تحصين تفضح أدوات الاختراق.

إذا أرادت الولايات المتحدة (وأي قوة أخرى) أن تبقى شريكًا في مشروع إنساني للحرية، فعليها أولًا أن تتوقف عن توظيفها في مصالح ضيقة.. يجب أن تبدأ بمساءلة نفسها عمّا اقترفته في السابق.. المساءلة ليست عداءً لأمريكا، بل تقييم لجدوى سياسات تنتج أزمات دينية.. الحقيقة البسيطة أن الحريات لا تحيا بالهيمنة، لكنها تزدهر إذا لم ترتبط بثمن سياسي.. العصر الحالي يفرض اختبارًا صريحًا: إمّا أن تصير الحريات حقوقًا عالمية تنبع من المجتمعات وتُصان بوصفها إرثًا إنسانيًا مشتركًا، وإمّا أن تبقى أداة تتلاعب بها القوى الكبرى وفق خريطة مصالحها. وكلما تأخر الخيار الأول، تضاعفت الأثمان الكارثية التي تدفعها الشعوب.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: مقالات الشرق الأوسط الولايات المتحدة الفتن الطائفية القوى الكبرى ماركو روبيو الحريات الدينية الإدارات الأمریکیة الولایات المتحدة الحریة الدینیة حریة الدین تحو ل إلى إلى أداة ت ستخدم لم یکن التی ت خطاب ا

إقرأ أيضاً:

البرازيل: حل نهائي للأزمة التجارية مع الولايات المتحدة خلال أيام

توقع الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، أن يتم إبرام اتفاق تجاري بين البرازيل والولايات المتحدة في غضون أيام يخفف من الرسوم الجمركية العقابية، التي فرضتها واشنطن في أعقاب توتر العلاقات بين البلدين، ، وفقا لقناة القاهرة الإخبارية .

وقال "لولا"، على هامش قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" في كوالالمبور: "على ثقة من أنه في غضون أيام قليلة سنتوصل إلى حل نهائي بين الولايات المتحدة والبرازيل، حتى تستمر الحياة بخير وسعادة".

والتقى لولا دا سيلفا، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كوالالمبور، أمس، بعد أن ناشده هذا الشهر إلغاء الرسوم الجمركية العقابية البالغة 50% على الواردات البرازيلية.

وتابع: "اللقاء الذي عقدته مع الرئيس ترامب كان جيدًا"، مضيفًا أن ترامب أكد له إمكانية التوصل إلى اتفاق.

تأتي تصريحات الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بشأن قرب التوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة في سياق توترات تجارية بين البلدين. 

في يوليو 2025، فرضت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رسومًا جمركية بنسبة 50% على الواردات البرازيلية، احتجاجًا على ما وصفه بـ"الاضطهاد السياسي" للرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، حليف ترامب، الذي يواجه محاكمة في بلاده. 

هذا التصعيد أثار قلقًا في الأوساط الاقتصادية البرازيلية، خاصة أن الولايات المتحدة تُعد شريكًا تجاريًا رئيسيًا للبرازيل، في محاولة لاحتواء الأزمة، أجرى لولا دا سيلفا مكالمة هاتفية مع ترامب، أكتوبر 2025، أعرب خلالها عن رغبته في تعزيز العلاقات التجارية واقترح عقد لقاء شخصي خلال قمة رابطة دول جنوب شرقي آسيا "آسيان" في كوالالمبور.

 

ترامب يؤكد مجددًا رغبته في لقاء كيم جونغ أون

أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليوم الإثنين أنه "يود كثيرا" لقاء الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون أثناء جولته الآسيوية.

ولم يستبعد الرئيس الأمريكي في تصريحات أدلى بها للصحفيين على متن طائرته تمديد الجولة التي تشمل اليابان الإثنين والثلاثاء وكوريا الجنوبية الأربعاء والخميس، بعدما زار ماليزيا الأحد.

 

ترامب: مستعدون لإرسال قوات لدعم الاستقرار فى قطاع غزة

قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة فتح الطريق أمام سلام قوى ودائم فى الشرق الأوسط، مؤكدًا استعداد واشنطن لإرسال قوات لدعم استقرار القطاع.

وأضاف فى كلمته بافتتاح قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان» فى كوالالمبور، أن العمل جار لاختيار قادة لقوة متعددة الجنسيات لتثبيت الاستقرار فى غزة، وأن الولايات المتحدة قد تدعو إلى قرار أممي أو اتفاقية دولية تمنح هذا التفويض.

وشدد ترامب على ضغوطه على حركة حماس لتسريع عملية إعادة جثث المحتجزين، مهددا فى منشور على منصة تروث سوشال باتخاذ إجراءات إذا لم تعِد الحركة الجثث خلال يومين، لافتا إلى أن بعض الرفات يمكن إعادتها الآن بينما يصعب الوصول إلى البعض الآخر.

من جهته، قال وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو، إن عدة دول أبدت اهتماما بالمشاركة فى قوة استقرار دولية، لكن مشاركتها مرهونة بتفويض قانونى دولى «قرار أممى أو اتفاقية.

من جهته، قال وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو، إن عدة دول أبدت اهتماما بالمشاركة فى قوة استقرار دولية، لكن مشاركتها مرهونة بتفويض قانونى دولى «قرار أممى أو اتفاقية.

أضاف أن الولايات المتحدة وتبادل المعلومات مع إسرائيل والوسطاء ساهم فى إحباط تهديد وشيك خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضى.

الجدير بالذكر، أنه فى الوقت الذى تتواصل فيه الاتصالات والوساطات الإقليمية والدولية لتسريع استرجاع الجثث وفتح حل سياسى أوسع، فى وقت تتجه الأنظار إلى الساعات المقبلة التى حددها الرئيس الأمريكى كفاصل لمسار التهدئة والمرحلة التالية من خطة إعادة الإعمار.

مقالات مشابهة

  • بايدن: الولايات المتحدة تعيش أياما مظلمة في عهد ترامب
  • الولايات المتحدة واليابان تبرمان اتفاقية المعادن النادرة
  • ترامب: الولايات المتحدة تحظى اليوم باحترام كبير من دول العالم
  • ترامب: الولايات المتحدة حليفة لليابان على أعلى مستوى
  • بوتين يلغي رسميا اتفاقا مع الولايات المتحدة للتخلص من البلوتونيوم
  • البرازيل: حل نهائي للأزمة التجارية مع الولايات المتحدة خلال أيام
  • روسيا: هناك محاولات هائلة لتقويض أي حوار مع الولايات المتحدة
  • الاحتلال قلق من فرض الولايات المتحدة لتواجد لتركي وقطري في غزة
  • مليشيا كولومبية تهدد بقتال الولايات المتحدة