د. أمل منصور تكتب: هل نحن نحب من يُشبهنا أم من يُكملنا ؟
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
قد نلتقي بمن يشبهنا فنشعر كأننا ننظر إلى مرآة مريحة، ونتنفس أخيرًا في مساحة يفهمنا فيها أحد دون شرحٍ طويل. وقد نلتقي بمن يختلف عنا فنشعر بأننا نحيا من جديد، كأننا أمام لونٍ جديد للحياة لم نكن نعرفه. وبين الراحة التي يمنحها التشابه، والإثارة التي يوقظها الاختلاف، تتأرجح قلوبنا في رحلة الحب باحثةً عن إجابة لا تنتهي: هل نحبّ من يُشبهنا أم من يُكملنا؟
من يُشبهنا يمنحنا الأمان، ويعيد إلينا صدى أفكارنا في صوته، فيبدو كأننا وجدنا ذواتنا فيه.
لكن حبّ التشابه، على جماله ودفئه، قد يُصبح مع الوقت دائرة مغلقة لا نرى خارجها. فحين يتطابق كل شيء، يغيب التحدي الذي يدفعنا للنمو، وتغيب المفاجأة التي تُبقي الشغف حيًّا. كثير من العلاقات المستقرة ظاهريًا تفقد بريقها لأنها لم تعد تعرف جديدًا يُضاف إلى أيامها. الحبّ الذي يقوم على التشابه وحده قد يتحول إلى راحة زائدة تقتل الدهشة، وإلى تكرار يجعل كل يوم يشبه الذي قبله.
أما المختلف… فهو الوجه الآخر للحبّ، الوجه الذي لا يمنحك الراحة لكنه يشعل فيك الحياة. ننجذب إلى المختلف لأن في داخله ما نفتقده في أنفسنا، كأننا نحاول أن نُكمل بناقته نقصنا الداخلي. العقلاني يفتن بالعفوية، والخجول ينجذب إلى الجريء، والمتحفظ ينبهر بمن يقول ما لا يجرؤ هو على قوله. الاختلاف في الحبّ يوقظ الحواس، ويجعل العلاقة تجربة تُغنينا وتكسر رتابة العادة. لكنه، في الوقت ذاته، قد يتحول إلى ساحة اختبار صعبة. فالمسافة بين الإعجاب بالاختلاف والتصادم معه قصيرة جدًا.
كثير من قصص الحب تبدأ بالانبهار وتنتهي بالتعب، لأن ما كان سحرًا في البداية أصبح سببًا في الجدل لاحقًا. فالعقلاني الذي أحبّ تلقائية شريكته قد يراها بعد حين اندفاعًا، والعفوي الذي أحبّ اتزان الطرف الآخر قد يراه لاحقًا برودًا. وهكذا، يتحول ما جذبنا يومًا إلى ما يرهقنا لاحقًا، إذا لم نتعلم كيف نتعايش مع اختلافه دون أن نحاول تغييره.
في الحقيقة، الحبّ الناضج لا يقوم على أحدهما فقط. لا على التشابه وحده ولا على الاختلاف وحده، بل على التوازن بين الاثنين. فالتشابه يمنح العلاقة جذورها، والاختلاف يمنحها أجنحتها. نحن بحاجة إلى من يشاركنا القيم ذاتها والرؤية العامة للحياة، كي يكون أساس العلاقة ثابتًا، لكننا بحاجة أيضًا إلى من يختلف عنا قليلًا ليُعيد إشعال المعنى ويذكّرنا بأننا ما زلنا نتعلّم.
العلاقات التي تنجح ليست تلك التي يتطابق فيها الطرفان كصورتين متكررتين، ولا تلك التي تتنافر حتى الإرهاق، بل تلك التي يتقابل فيها الشبه والاختلاف في نقطة توازن دقيقة. في الحب الناضج، لا نحاول أن نصهر الآخر في قالبنا، ولا نذوب نحن فيه، بل نتجاور كما تتجاور الألوان في لوحة واحدة: لكل لون وجوده وخصوصيته، ومع ذلك لا تكتمل اللوحة إلا بهما معًا.
كثير من الناس يظنون أنهم يبحثون عن "نصفهم الآخر"، بينما هم في الحقيقة يبحثون عن "نسختهم المريحة". لكن الحب ليس نسخة، بل لقاء بين اثنين يملكان الجرأة على أن يتقبلا اختلافاتهما بصدق. فأن تحبّ من يُكملك لا يعني أن تبحث عمّن يُكمل نقصك، بل من يُلهمك لتصبح نسخة أوسع من نفسك. ومن يُشبهك لا يعني أن تكتفي بمرآةٍ تراك كما أنت، بل بشريكٍ يُعيد تعريفك بطريقة أكثر نضجًا ووعيًا.
الحبّ الحقيقي، في جوهره، هو رحلة تطور، لا مساحة راحة فقط. من يُشبهك يذكّرك بمن أنت، ومن يُكملك يُذكّرك بما يمكنك أن تكونه. والاثنان معًا ضروريان لتظل العلاقة متوازنة بين الاطمئنان والنمو، بين السكينة والحيوية.
إننا لا نحب من يشبهنا تمامًا، لأننا سنملّ صدى أصواتنا. ولا نحب من يختلف عنّا تمامًا، لأننا سنفقد القدرة على التواصل. نحن نحبّ من يلتقي اختلافه بتشابهنا في نقطة وسط، حيث نجد الراحة دون أن نفقد الشغف، ونجد التحدي دون أن نخسر الأمان.
نحن لا نحب من يشبهنا تمامًا، ولا من يختلف عنا تمامًا، بل من يجعل اختلافه يشبهنا بطريقة ما.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الشغف الدهشة من یختلف عن تلک التی نحب من ی ا تمام ا
إقرأ أيضاً:
د. آية الهنداوي تكتب: الشباب العربي والحرب المفقودة.. الصحة النفسية على صفيح ساخن
وسط الدمار والفوضى التي تتركها الحروب والتهجير القسري يعيش الشباب العربي واقعًا مريرًا يتجاوز الخسائر المادية ليصل إلى أعماق النفس. لم تعد الحرب مجرد صواريخ وألغام، بل أصبحت حربًا على العقل والروح حيث تتضاعف الضغوط النفسية والتوترات اليومية ويتعرض الشباب لموجات من القلق والإكتئاب والصدمات النفسية التي تؤثر على قدرتهم على التعلم والعمل وحتى بناء علاقات إجتماعية صحية.
التقارير الدولية تؤكد أن نسب اضطرابات الصحة النفسية بين الشباب في مناطق النزاع تفوق بكثير المتوسط العالمي مما يجعلهم فئة شديدة الهشاشة أمام أي أزمة جديدة. ومع ذلك، فإن الحديث عن الصحة النفسية في المجتمعات العربية غالبًا ما يظل مغيبًا أو مهملًا، بينما تتحول صرخات الشباب إلى أصوات مكتومة خلف الجدران المهدمة والمدن المشردة.
المبادرات المحلية والشبابية تعد بصيص أمل في هذا الظلام النفسي. برامج الدعم النفسي، المراكز المجتمعية، والمبادرات التعليمية التفاعلية تقدم للشباب فرصة لإستعادة بعض توازنهم النفسي وإعادة بناء مهاراتهم الإجتماعية والمهنية. لكن هذه الجهود رغم أهميتها تحتاج إلى دعم مؤسساتي وسياسات واضحة من الدول لتعزيز فعالية العمل النفسي والإجتماعي.
إن تجاهل هذا البعد النفسي للشباب لا يضر الفرد فقط، بل يشكل تهديدًا مستقبليًا للمجتمع بأسره. شباب اليوم هم القوة التي ستقود إعادة البناء غدًا، فإذا تركناهم غارقين في صراعاتهم الداخلية دون دعم فإن آثار الحرب لن تنتهي بتوقف القتال، بل ستستمر أجيالًا في صورة مشاكل إجتماعية وصحية ونفسية معقدة.
الأمر يحتاج إلى وعي جماعي، وإدراك أن إعادة الإستقرار للشباب لا تبدأ بالسياسة وحدها، بل بالاستماع لهم ومعالجة صدماتهم وتمكينهم من المشاركة الفعالة في بناء مستقبل منطقتهم.
فالسلام الحقيقي يبدأ من العقل والقلب قبل أن يبدأ من أي إتفاق سياسي والشباب هم حجر الزاوية في هذا البناء.
الحرب لا تهدم فقط المباني، بل تهدم الأحلام والهوية. وكثير من الشباب يشعرون بفقدان السيطرة على مستقبلهم ويعيشون في حالة مستمرة من الإحباط واليأس مما يدفع بعضهم إلى الإنغماس في سلوكيات محفوفة بالمخاطر أو الإنسحاب التام من المجتمع ليصبحوا ضحايا صراعات لم يختاروها ويواجهون فقدان البوصلة الأخلاقية والإجتماعية.
في هذا الواقع تلعب الأسرة والمجتمع المحلي دورًا أساسيًا كخط الدفاع الأول ضد الصدمات النفسية حيث يساهم الدعم الأسري المتماسك، وبرامج التوجيه المجتمعي والمجموعات الشبابية التفاعلية في إعادة بناء الثقة بالنفس وتخفيف آثار الصدمات، لكن في مناطق النزاع حيث تتفكك البنية الإجتماعية ويبقى الشباب غالبًا دون حماية أو إرشاد مما يضاعف الحاجة لتدخلات عاجلة ومستدامة. ورغم كل التحديات يظهر الشباب العربي قدرة ملحوظة على الإبتكار والتكيف من خلال مشاريع صغيرة لإعادة الإعمار ومنصات تعليمية رقمية ومبادرات نفسية مجتمعية تثبت أن الإستثمار في الشباب ليس رفاهية، بل ضرورة لبناء مجتمعات قادرة على التعافي والمقاومة وتحويل هذه المبادرات إلى برامج مؤسسية يمكن أن يكون الفارق بين مجتمع محطم وآخر قادر على الصمود. ولا يمكن أن تتحقق أي إصلاحات حقيقية دون تدخل الدولة بجدية ووضع سياسات واضحة لدعم الصحة النفسية للشباب في مناطق النزاع من خلال توفير الموارد وتدريب المختصين ووضع برامج استباقية، فالمستقبل لن يُبنى إلا إذا أصبح الشباب محور أي إستراتيجية للتنمية والسلام.
وأضيف من خلال هذا السياق ، أنه لابد من التعاطف التام مع أجيال الحروب، فالشباب الذين نشأوا في مناطق النزاع لم يعرفوا طفولة طبيعية أو استقرارًا نفسيًا وإجتماعيًا.
فهم بحاجة إلى فهم عميق لدواخلهم والتقدير لمعاناتهم اليومية، وليس مجرد تقديم حلول سطحية. التعاطف الحقيقي يعني توفير الدعم النفسي والفرص التعليمية والمساحات الآمنة للتعبير عن الصدمات والمخاوف ليتمكنوا من استعادة شعورهم بالكرامة والأمل وبناء مستقبلهم الشخصي والإجتماعي بعيدًا عن دائرة الخوف واليأس.
فالشباب العربي هم المستقبل وصوتهم وصمودهم يمثلان الأمل الحقيقي في عالم ملأته الحروب والفوضى. ولا يمكن إعادة بناء المجتمعات أو كسر دائرة العنف دون الإستثمار الفعلي في قدراتهم النفسية والإجتماعية والتعليمية. ومسؤوليتنا الجماعية أن نمنحهم الدعم و الإستماع والفرص ليصبحوا قادة التغيير فكل جيل يتجاوز آلام الحروب هو خطوة نحو السلام والإستقرار والتنمية وكل لحظة اهتمام بهم اليوم تزرع أسسًا لمجتمع أكثر قوة
وتماسكًا غدًا.
مدرس بكلية الآداب ـ جامعة المنصورة.