بينما نحن على أعتاب نظام عالمي جديد، رأينا أن نغوص في بحر النظام العالمي الذي أسست الحرب العالمية الثانية.

كانت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) واحدة من أكثر الصراعات دموية في التاريخ البشري، حيث أسفرت عن مقتل ما بين 70 إلى 85 مليون شخص، غالبيتهم من المدنيين. شكّلت هذه الحرب تحولا جذريا في هيكل النظام الدولي والعلاقات بين الدول، فلم تكن الحرب مجرد فصل دموي في التاريخ، بل كانت نقطة تحول أساسية أدت إلى ولادة نظام دولي جديد يقوم على مفاهيم ومؤسسات ما تزال تُشكل عالمنا المعاصر حتى اليوم.



خلّفت الحرب العالمية الثانية وراءها دمارا هائلا لم يسبق له مثيل، حيث دمرت البنى التحتية للعديد من الدول الأوروبية والآسيوية، وأحدثت تغييرات ديموغرافية وسياسية عميقة. قُتل أكثر من 25 مليون عسكري وأكثر من 45 مليون مدني، وكانت الخسائر البشرية والمادية غير مسبوقة في التاريخ.

هذا الدمار الشامل هو الذي هيّأ الظروف لولادة نظام دولي جديد، فالدول المنتصرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، أدركت أن النظام القائم قبل الحرب كان يعاني من عيوب هيكلية أدت إلى اندلاع اثنتين من أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية خلال ثلاثة عقود فقط. وقد دفع هذا الإدراك إلى السعي لبناء هيكل دولي أكثر استقرارا وقدرة على منع الصراعات.

كان فشل عصبة الأمم في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية دليلا على ضرورة إنشاء منظمة دولية أكثر فاعلية. تأسست عصبة الأمم عام 1920 بعد الحرب العالمية الأولى بهدف الحفاظ على السلام العالمي، لكنها عانت من عيوب هيكلية عدة منها عدم انضمام الولايات المتحدة إليها، وعدم تمتعها بآليات فعالة لفرض قراراتها.

عندما أوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء في عام 1945، كانت الدول في حالة خراب، وكان العالم يريد السلام. اجتمع ممثلو 50 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة حول التنظيم الدولي في سان فرانسيسكو من 25 نيسان/ أبريل إلى 26 حزيران/ يونيو 1945، حيث تمت صياغة ميثاق الأمم المتحدة والتوقيع عليه.

تم تصميم الأمم المتحدة لتكون أكثر فاعلية من سابقتها من خلال عدة ميزات رئيسة:

- عالمية العضوية: بعكس العصبة التي لم تضم جميع دول العالم، سعت الأمم المتحدة لتكون شاملة لكل الدول.

- مجلس أمن بصلاحيات أوسع: تم منح مجلس الأمن سلطة فرض عقوبات اقتصادية واتخاذ إجراءات عسكرية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

جسد الميثاق في مادته الأولى أهداف الأمم المتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين، وتعزيز العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون في كافة الميادين.

أما عصبة الأمم فكانت تضم بشكل أساسي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.

بروز نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة ونهاية الهيمنة الأوروبية

قضت الحرب العالمية الثانية على النظام الأوروبي المركزي الذي هيمن على العلاقات الدولية منذ قرون. فقد خرجت القوى الأوروبية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا من الحرب منهكة اقتصاديا وعسكريا، مما أنهى هيمنة أوروبا على النظام الدولي.

برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوتين عظميين جديدتين تمتلكان قدرات اقتصادية وعسكرية متفوقة. وقد أدى هذا التحول إلى قيام نظام قطبية ثنائية هيمن على العلاقات الدولية لحقبة ما بعد الحرب.

كانت الحرب الباردة امتدادا للتحالف المؤقت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية. فبعد القضاء على العدو المشترك (دول المحور)، برزت الخلافات الأيديولوجية والاستراتيجية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، مما أدى إلى تقسيم العالم إلى نطاقات نفوذ منفصلة بين الدول المنتصرة.

قبل الحربين العالميتين، كان مبدأ توازن القوى هو الإطار الذي حكم العلاقات الدولية. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، تم التأسيس لمبدأ الأمن الجماعي من خلال الأمم المتحدة، الذي يقتضي أن أمن الدولة العضو هو جزء لا يتجزأ من أمن بقية الدول الأعضاء.

ساهمت الحرب العالمية الثانية في ترسيخ مفاهيم جديدة في العلاقات الدولية، منها:

- تحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية: حيث أكدت المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على هذا المبدأ، مع استثناءات للدفاع عن النفس (المادة 51) ولإجراءات مجلس الأمن (الفصل السابع).

- حقوق الإنسان: أظهرت الأمم المتحدة اهتماما كبيرا بحقوق الإنسان كأحد أولوياتها السياسية والاجتماعية.

- حق تقرير المصير: عملت الأمم المتحدة على تعزيز حق تقرير المصير للدول.

أدت الحرب العالمية الثانية إلى تسريع نهاية حقبة الاستعمار في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، حيث خرجت القوى الاستعمارية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا منهكة من الحرب، مما أضعف قدرتها على الحفاظ على إمبراطورياتها الاستعمارية.

في الوقت نفسه، ولدت في بعض السكان في المستعمرات توقا متزايدا للاستقلال، وساهمت المفاهيم التي نادت بها القوى المنتصرة مثل حق تقرير المصير في تغذية حركات التحرر الوطني. وهكذا، شهدت الفترة التالية للحرب موجة من حركات الاستقلال في آسيا وأفريقيا، مما أدى إلى تغيير خريطة العالم السياسية وظهور دول جديدة في الساحة الدولية.

أدت الدروس المستفادة من فترة ما بين الحربين إلى إدراك أهمية بناء نظام اقتصادي دولي مستقر، فقد ساهمت الأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن العشرين وسياسات الحمائية في زيادة التوترات الدولية واندلاع الحرب.

لهذا، تم إنشاء مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير) لإدارة النظام الاقتصادي العالمي بعد الحرب، ووضع أسس نظام نقدي دولي أكثر استقرارا. وهكذا، لم تكن إعادة الهيكلة بعد الحرب سياسية فحسب، بل اقتصادية أيضا.

شكلت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول أساسية في تطور النظام الدولي، لقد أنهت هيمنة القوى الأوروبية، وأسست نظاما دوليا جديدا تقوده الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأنشأت مؤسسات دولية جديدة كان أبرزها الأمم المتحدة، وساهمت في تفكيك النظام الاستعماري، ووضعت أسسا جديدة للعلاقات الاقتصادية الدولية.

ومع ذلك، فإن الإرث الذي خلفته الحرب العالمية الثانية لا يزال موضوع تساؤلات وتحديات. فالنظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب شهد تحولات كبيرة بعد نهاية الحرب الباردة، وتواجه الأمم المتحدة تحديات في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين.

يبقى السؤال: هل النظام الذي ولد من رحم الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية لا يزال قادرا على مواجهة التحديات المعاصرة والمستقبلية؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب فهما عميقا للدروس التي قدمتها تلك الفترة المحورية من تاريخ البشرية.

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو إلى حد كبير نتاج تلك الحرب التي انتهت قبل أكثر من سبعة عقود، لكن إرثها لا يزال يُشكل علاقاتنا الدولية وسياستنا العالمية حتى اليوم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الحرب النظام الدولي تحديات تحديات حرب النظام الدولي سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرب العالمیة الثانیة العلاقات الدولیة الأمم المتحدة النظام الدولی بعد الحرب من الدول

إقرأ أيضاً:

الإمارات تؤكد التزامها الراسخ بدعم جهود محكمة العدل الدولية

نيويورك (الاتحاد)

أكدت دولة الإمارات التزامها الراسخ في دعم عمل محكمة العدل الدولية، باعتبارها الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة لتسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدالة والقانون الدولي، انطلاقاً من حرصها على ضمان تطبيق القانون الدولي واحترامه على نطاق واسع من قِبَل الجميع.
 وقالت الإمارات في بيان ألقاه الشيخ محمد بن خليفة آل نهيان، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حول تقرير محكمة العدل الدولية: «إن النشاط المتزايد لمحكمة العدل الدولية، سواءً في القضايا الخلافية أو في الآراء الاستشارية، يعكس ثقة الدُّولِ في قدرة المحكمة على الاضطلاع بولايتها على نحو فعال، كما أن الولاية القضائية للمحكمة، التي لا تزال تحظى بأهمية قصوى، وقد خضعت لها بلادي هذا العام في قضية خلافية، تستوجب التحلي بالمسؤولية عند اللجوء إليها، تجنّباً لإشغال المحكمة بقضايا تفتقر إلى أسس جدّية، فهذه الولاية تُمثّل جوهر الأداء الفعّال للمحكمة بوصفها الجهاز القضائي الرئيسي في منظومة الأمم المتحدة». 
وأضاف البيان: «إن تنوّع القضايا المعروضة على محكمة العدل الدولية واتساع نطاقها الجغرافي يؤكدان الطابع العالمي للمحكمة»، مرحباً بقرار المحكمة رفض الدعوى التي رُفِعت ضد الإمارات في وقت سابق من هذا العام وشطبها من قائمتها العامة لعدم وجود أساس لها.
وفيما يتعلق بوظيفتها الاستشارية، قال البيان: «إن محكمة العدل الدولية قدّمت مجدداً رؤى قيّمة حول قضايا مهمة في القانون الدولي». 
 وفيما يخص رأيها الاستشاري بشأن التزامات الدول فيما يتعلق بتغيّر المناخ، أكد البيان أن آراء المحكمة سوف تسهم في توجيه الدول في جهودها الرامية إلى مواجهة آثار تغيّر المناخ، الذي يشكّل تهديداً وجودياً غير مسبوق للبشرية. 
كما رحب البيان بالرأي الذي أصدرته المحكمة مؤخراً، بشأن التزامات إسرائيل المتصلة بوجود أنشطة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى والدول الثالثة فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث يؤكد الرأي الاستشاري للمحكمة أن عمل الأمم المتحدة وسائر الجهات الإنسانية في غزة أمر لا غنى عنه. 
وتابع: «إن توضيح الالتزامات القانونية الواقعة على إسرائيل باعتبارها السلطة القائمة بالاحتلال، والتي تشمل الالتزام بالموافقة على خطط الإغاثة التي تقدمها الأمم المتحدة وكياناتها، وتيسيرها، والالتزام بضمان تمكين المجتمع الدولي بأسره، بما في ذلك منظمات الإغاثة والدول الثالثة مثل الإمارات من التواجد وتقديم المساعدة للسكان في فلسطين، يأتي في وقت حرج، وسيسهم بلا شك في دعم جهودنا الجماعية لضمان استمرار تدفق المساعدات المنقذة للحياة إلى غزة على نطاق واسع».
وأكد البيان دعم الإمارات القوي للولاية الفريدة التي تضطلع بها محكمة العدل الدولية، وتُقدّر دورها في تعزيز سيادة القانون في العلاقات الدولية، بما يسهم في ترسيخ التعايش السلمي بين الدول، حيث تشكل أحكام المحكمة وآراؤها الاستشارية ركيزة أساسية في تطوير الإطار القانوني الدولي، بالإضافة إلى ذلك، تواصل تفسيراتها الموثوقة للقانون الدولي في المساهمة في توجيه أعمال الدول المستقبلية بما يتوافق مع المبادئ القانونية الراسخة.
كما أكد البيان إيمان الإمارات أن سيادة القانون واحترام ميثاق الأمم المتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين أمران في غاية الأهمية، ومن ثمّ يجب التمسك بهما وتعزيزهما على الدوام.

سيادة القانون
وأضاف: «من الضروري دائماً التذكير بأن دور سيادة القانون محورياً في انتظام عمل النظام الدولي، لا سيما حين يتّسم هذا النظام بتفاوتات عميقة في موازين القوة والنفوذ والفرص، إذ لا يمكن لسيادة القانون أن تحقق وعد السلام المستقر بوصفه بديلاً عن النزاعات المزعزعة للاستقرار، إلا من خلال التطبيق المتسق للأعراف والقيم التي كرّسها ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك المساواة في السيادة، والسلامة الإقليمية، وحظر استخدام القوة».

أخبار ذات صلة إدانة أممية لرفض إسرائيل زيارة «الصليب الأحمر» للأسرى الفلسطينيين الأمم المتحدة: الوضع في السودان «مروِّع»

مقالات مشابهة

  • آبل تستعد لإطلاق iOS 26.1 بخيار جديد لتقليل تأثير الزجاج السائل
  • مدير إدارة المنظمات الدولية بوزارة الخارجية: القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية تسعى إلى مواكبة التحديات والمتغيرات التي يشهدها العالم
  • اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان تنظم ندوة دولية بالقمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية
  • القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية تنعقد في الدوحة 4 نوفمبر الجاري
  • رفع علم قطر والأمم المتحدة في مركز قطر الوطني للمؤتمرات بمناسبة انطلاق القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية
  • العثور على دبابة سوفيتية أسطورية من الحرب العالمية الثانية في جبال القرم
  • الأمم المتحدة في اليمن: من وسيط إلى طرف في المعركة
  • الإمارات تؤكد التزامها الراسخ بدعم جهود محكمة العدل الدولية
  • كيف تعكس الرياضة تأثير الوجبات السريعة على المزاج؟