الجزيرة:
2025-11-02@22:21:23 GMT

سلطنة الفاشر.. رمزية لا تموت في الوجدان السوداني

تاريخ النشر: 2nd, November 2025 GMT

سلطنة الفاشر.. رمزية لا تموت في الوجدان السوداني

دارفور- في وجدان السودانيين، ليست الفاشر عاصمة شمال دارفور غربي السودان مجرد مدينة، بل تختزل رمزية تاريخية وثقافية متجذرة في عمق الهوية الوطنية.

وبين سقوطها الأول عام 1916 على يد القوات البريطانية، وسقوطها الثاني يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بيد قوات الدعم السريع، تبرز الفاشر بوصفها مركزا روحيا وسياسيا واجتماعيا لا يمكن تجاوزه، ويمس وجدان السودانيين بعمق.

فمنذ عهد السلطان علي دينار (1898ـ1916) كانت الفاشر مركزا للعلم والتعليم الديني ووجهة لكسوة الكعبة المشرفة، وحافظت المدينة على إرثها الروحي عبر الخلاوي والزوايا الصوفية، وظلت منارة دينية في غربي السودان.

ولم يتوقف هذا البعد الروحي بزوال السلطنة، بل استمر في تشكيل وجدان سكان دارفور، بحسب باحثين في التراث السوداني.

وعندما احتلت القوات البريطانية الفاشر في نوفمبر/تشرين الثاني 1916 ضمن إستراتيجية استعمارية لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة، تحوّلت مقاومة السلطان علي دينار إلى رمز للصمود الوطني.

لكن سقوط المدينة أنهى حكم سلطنة دارفور المستقلة، ومهّد لمرحلة الإدماج القسري ضمن الدولة السودانية الحديثة التي تشكلت وفقا لمصالح القوى الاستعمارية.

وقبل أيام فقط من هذه الذكرى سقطت الفاشر مجددا، ولكن هذه المرة في قبضة قوات سودانية، أشارت تقارير محلية وأخرى صادرة عن الأمم المتحدة إلى تدخلات أجنبية من أجل دعمها، مما أثار جدلا واسعا بشأن استقلالية القرار السوداني، خاصة مع ورود معلومات عن وجود عناصر من دول مجاورة ضمن صفوف قوات الدعم السريع.

ورغم كل ما مرت به الفاشر، فإنها بقيت حاضرة بشكل عميق في الأغاني الشعبية والأمثال السودانية كـ"فاشر السلطان أبو زكريا" و"قلب دارفور النابض"، الأمر الذي صعّب على الوجدان السوداني تقبل سقوط المدينة عسكريا.

صورة لأحد ميادين مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور عام 2016 (الفرنسية)نسيج مهدد

تميّزت الفاشر بتنوعها القبلي والثقافي، وشكّلت نموذجا للتعايش بين مكونات دارفور منذ عقود، ولكن الحرب الأخيرة أدت إلى تصدعات عميقة في هذا النسيج، وسط تحذيرات من تحول ديمغرافي قسري يهدد التوازن الاجتماعي التاريخي للمدينة.

إعلان

يقول الباحث في علم الاجتماع وطالب الدكتوراه بجامعة بورصة في تركيا حسين آدم للجزيرة نت إن "الانتماءات القبلية أصبحت تُستخدم كأوراق في الصراع، مما أدى إلى تفكك جزئي للعلاقات التقليدية التي كانت تشكل أساسا للتعايش في الفاشر".

ويضيف "التحولات السكانية الناتجة عن النزوح والتهجير القسري بدأت تُحدث خللا في التركيبة الاجتماعية، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل هوية المدينة بشكل لا يمكن التنبؤ بعواقبه"، معتبرا أن "تجاهل البعد الاجتماعي في أي تسوية سياسية قد يُفضي إلى صراعات مستقبلية أكثر تعقيدا".

وتشير تقديرات المنظمة الدولية للهجرة إلى أن نحو 33 ألف شخص فرّوا من مدينة الفاشر إلى البلدات المجاورة خلال الأيام الماضية، حيث يواجه الوافدون الجدد أوضاعا إنسانية بالغة الصعوبة، إذ يفتقر معظمهم إلى المأوى المناسب أو المساعدات الغذائية، ويعتمدون على جهود المتطوعين المحليين للحصول على الحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية.

سقوط بعد حصار

وفي سياق متصل، أفادت شبكة أطباء السودان بمقتل ما لا يقل عن 1500 شخص خلال 48 ساعة فقط من سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، مشيرة إلى أن معظم الضحايا من المدنيين، بينهم نساء وأطفال.

وتقول سلافة آدم، وهي نازحة وصلت إلى مدينة "طويلة"، للجزيرة نت إن "الحرب تركتنا بلا شيء، نحن نعيش على المساعدات التي بالكاد تصل إلينا، لا نعرف إلى أين نذهب، ولا كيف نحمي أطفالنا من الجوع والمرض".

وقبل استيلاء قوات الدعم السريع على الفاشر، فرضت حصارا خانقا على المدينة لأكثر من 18 شهرا، أجبر خلاله مئات الآلاف من السكان على الفرار، في حين نجا من تبقى منهم بتناول علف الماشية المعروف محليا باسم "الأمباز".

وتشير مصادر محلية مطلعة للجزيرة نت إلى أن المدنيين الذين حاولوا مغادرة المدينة خلال الحصار واجهوا خطر الموت على يد قوات الدعم السريع المنتشرة على الطرق المؤدية إلى مناطق النزوح، حيث سُجلت حالات إطلاق نار واستهداف مباشر للنازحين، وفقا لشهادات ناجين.

وفي حديثه للجزيرة نت من منطقة طويلة غربي الفاشر، قال الشيخ عبد الرحيم آدم، إمام أحد المساجد التاريخية، "بعد هذا السقوط، قد يتوقف القصف موقتا لكن الجروح باقية"، وأضاف "رغم المعاناة، تظل ذاكرتنا حية بمساجدنا وخلاوينا، وسنعود لحماية تراثنا".

من جهتها، قالت فاطمة عبد الكريم، وهي معلمة نزحت إلى منطقة كورما غربي الفاشر، للجزيرة نت "ستتحرر الفاشر قريبا من قبضة الدعم السريع، وسنواصل تعليم أطفالنا. هذه المدينة ليست مجرد مبان، بل هي هوية وكرامة، لقد رأيت مدارسنا تتحول إلى ثكنات عسكرية، لكننا سنعيد بناءها قريبا".

مئات الآلاف من سكان الفاشر أجبروا على الفرار خلال أشهر الحصار المفروض على المدينة (رويترز)حاجة للتعافي

تسببت الحرب في شلل اقتصادي كامل بالفاشر، وتحولت الأسواق النابضة بالحياة إلى أماكن شبه مهجورة، كما توقف التجار عن القدوم من مختلف أنحاء السودان، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وندرة السلع الأساسية.

ويرى الباحث في التاريخ السوداني الدكتور إبراهيم سعيد أبكر أن تعافي الدولة السودانية مرهون باستعادة الذاكرة الجمعية والاعتراف بالأدوار التاريخية للعواصم مثل الفاشر.

إعلان

ويضيف أن تجربة السلطان علي دينار تمثل نموذجا للصمود الحضاري، يمكن أن يلهم جهود إعادة البناء إذا تحقق السلام في المنطقة.

ويطالب مراقبون محليون بوقف القتال، وبدء حوار مجتمعي يسبق أي تسوية سياسية، مؤكدين أن إصلاح النسيج الاجتماعي لا يقل أهمية عن إعادة البناء المادي أو الحلول السياسية، ويشددون على أن التعافي يتطلب معالجة الجراح النفسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب.

وبين سقوطين يفصل بينهما أكثر من قرن، تثبت الفاشر أنها مدينة لا تُقاس بأسوارها العسكرية، بل بقدرتها على البقاء في الذاكرة الجمعية، ورغم المحن، فإن الفاشر تظل رمزا حيا للصمود.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: شفافية غوث حريات دراسات قوات الدعم السریع للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

وزيرة سودانية: "الدعم السريع" قتلت 300 امرأة واغتصبت 25 بالفاشر

قالت وزيرة الدولة للرعاية الاجتماعية السودانية سليمى إسحاق إن "قوات الدعم السريع" قتلت نحو 300 امرأة واغتصبت 25 في مدينة الفاشر جنوب غربي البلاد، ضمن "تطهير عرقي ممنهج".

 

وفي 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، استولت هذه القوات على الفاشر، مركز ولاية شمال دارفور، وارتكبت مجازر بحق مدنيين وفقا لمنظمات محلية ودولية، وسط تحذيرات من تكريس تقسيم جغرافي للبلاد.

 

وقالت إسحاق، في مقابلة مع الأناضول، إن "ما حدث في الفاشر أشبه بأحداث (مدينة) الجنينة (مركز ولاية جنوب دارفور) في 2023".

 

وفي يناير/ كانون الثاني 2024، أفاد تقرير للأمم المتحدة بمقتل ما بين 10 آلاف و 15 ألف شخص بالجنينة، بينهم حاكم الولاية؛ جراء أعمال عنف عرقية نفّذتها "قوات الدعم السريع" وميليشيات متحالفة معها.

 

وأضافت إسحاق: "وطبعا (ما حدث) في الجنينة (من جرائم) لم يتم توثيقه بكثافة كما حصل في الفاشر.. التصوير من قبل "الدعم السريع" نفسه ما كان بكمية كبيرة في الفاشر".

 

وتابعت: "التصوير من قبل "الدعم السريع" أصبح جزءا وسلاحا لهزيمة الآخر، متمثلا في توثيق الجرائم بشكل مباشر والاستمتاع بها. متعة القتل نفسها فيها لذة الانتصار".

 

"يعني المسألة نفسيا بالنسبة لهم تعد لذة انتصار، وهي درجة مرضية، ولكنها فكرة الإخضاع، والإخضاع كان سلاحا أساسيا للدعم السريع"، كما أردفت.

 

واستطردت: "عناصر الدعم السريع الآن تمرسوا أكثر في مسألة توثيق الجرائم، هم يوثقون منذ كانوا في الخرطوم وولاية الجزيرة وسنار وحدثت مثل هذه الجرائم".

 

وزادت: "الآن هم بقوا أكثر توثيقا لمسألة الإخضاع، بالنسبة لهم تدل على الانتصار، وخاصة أن الفاشر لها رمزيتها التي تجعلهم يوثقون بشكل كبير".

 

وباحتلال الفاشر باتت "الدعم السريع" تسيطر على كل مراكز ولايات دارفور الخمس غربا من أصل 18 ولاية بعموم البلاد، بينما يسيطر الجيش على أغلب مناطق الولايات الـ13 المتبقية بالجنوب والشمال والشرق والوسط، بما فيها العاصمة الخرطوم.

 

ويشكل إقليم دارفور نحو خمس مساحة السودان، غير أن غالبية السودانيين البالغ عددهم 50 مليونا يسكنون في مناطق سيطرة الجيش.

 

** تعذيب واغتصاب وقتل

 

إسحاق شددت على أن "الإخضاع هو منهج الدعم السريع وسلاحهم، وهم يستخدمون العنف الجنسي والتعذيب والقتل، وهذا ما استخدموه ضد النساء في الفاشر".

 

وقالت إن "كل النساء في الفاشر معرضات للعنف الجنسي والقتل. لا توجد امرأة عندها مناعة ولا حصانة حتى ولو طفلة. هم الآن يستخدمون التعذيب والقتل والعنف الجنسي ضد النساء في الفاشر".

 

وتابعت: "الأعداد المعروفة التي تعرضت للاغتصاب 25 (...) هناك حديث عن صحفيات تم اغتصابهن وتم نشرها (هذه الجرائم)".

 

و"300 امرأة تم قتلهن في اليومين الأوليين لدخول "الدعم السريع" (الفاشر)، وفيهن مَن تعرضن للعنف الجنسي قبل القتل ومَن تعرضن لتعذيب قبل القتل"، كما استطردت إسحاق.

 

وتابعت: "صور جثث مُثّل بها، ما يعني أنهن تعرضن لتعذيب. بعض السيدات القتلى من أسر واحدة، وهناك أخوات.

 

** "طريق الموت"

 

وعن محاولات المدنيين النجاة بأنفسهم من الفاشر، قالت إسحاق إن "أي أحد يخرج في "طريق الموت"، وهو الطريق بين الفاشر و(بلدة) طويلة (شمال دارفور)، يتعرض لما يتعرض له، الناجون من الموت قلائل".

 

وتابعت: "البقية التي لم تنجُ تم قتلهم وذبحهم، وهناك أسر لا تزال موجودة في الفاشر لم يكن لدى كل الناس القدرة على التحرك".

 

والسبت، قال مكتب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) بالسودان إن آلاف العائلات تفر من العنف في الفاشر وتصل إلى بلدة "طويلة" منهكة وجائعة، إذ يقطعون 60 كيلو مترا مشيا على الأقدام من دون طعام أو ماء.

 

وشددت إسحاق على أن "هؤلاء الأشخاص كلهم (الفارون من الفاشر) معرضون لكل أنواع السحل والتعذيب والتنكيل والإذلال، بما فيها العنف الجنسي".

 

واستطردت: "والعنف الجنسي تمت ممارسته حتى على أطفال أمام أمهاتهم وتم قتلهم بعد ذلك، وهذه مشاهد كل الناس رأتها في الفيديوهات".

 

وأردفت: "في طريق الفاشر- طويلة تعرضت النساء إلى الإهانة واللمس في أماكن حساسة (من أجسادهن)، كل هذا يتم مع ترديد عبارات عنصرية".

 

وزادت بأن "عناصر "الدعم السريع" يرددون عبارات عنصرية وكأن ذلك يمنحهم شرعية لما يفعلون، هم يستخدمون أساليب الإهانة على هذه الطريق، فيغتصون النساء الخارجات من الفاشر".

 

** تطهير عرقي

 

إسحاق قالت إنه "إذا استمر "الدعم السريع" في الفاشر فسيقضي على كل إنسان في دارفور، هذا تطهير عرقي ممنهج وجريمة كبيرة يتواطؤ فيها الجميع بالسكوت".

 

وشددت على أن "الدعم السريع ليست من التنظيمات أو الأجسام التي يمكن التعامل معها بالمناشدة أو الدبلوماسية الناعمة ولا بالحوار، هم لا يفهمون هذه اللغة".

 

وحذرت من أن "الدعم السريع سيستمر في جرائمه إذا استمر العالم في التواطؤ".

 

ولوقف هذه الجرائم "لا نناشد الحكومات، بل نناشد أصحاب الضمائر الحية، وحين نتكلم عن المجتمع الدولي قد لا نتحدث عن حكومات، لكن عن شعوب لا ترضى الظلم"، كما تابعت إسحاق.

 

وجددت تحذيرها من أن "هذا القتل سيستمر (في الفاشر)، وسيستمر في كل السودان".

 

وأردفت: "يوجد خذلان للسودان وهو يجابه الدعم السريع وميليشياته".

 

** مساعدات إنسانية

 

وبشأن الدعم الإنساني للمتضررين، قالت إسحاق: "هناك منظمات إنسانية وصلت (بلدة) طويلة، لتقديم المساعدات، والحكومة ليست لديها القدرة حاليا للتحرك إلى هذه المناطق".

 

واستدركت: "لكننا على اتصال بكل العاملين في الجهات، ونحاول أن نساعد في إيصال الأموال بدون الإعلان (عن ذلك)، لأنه يعرض الآخرين (العاملون في المجال الإنساني) للمشاكل والقتل".

 

"وجودنا بشكل مباشر كحكومة يعرض الآخرين للقتل، وقد رأينا كيف تم قتل (5 من) متطوعي الهلال الأحمر في (مدينة) بارا (بولاية شمال كردفان/ جنوب)"، كما ختمت الوزيرة السودانية.

 

والأربعاء الماضي، أقر قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) بحدوث ما سماها "تجاوزات" من قواته في الفاشر، مدعيا تشكيل لجان تحقيق.

 

وأدانت دول ومنظمات إقليمية ودولية عديدة جرائم "قوات الدعم السريع" في الفاشر، مع دعوات إلى هدنة تمهد لعملية سياسة تنهي الحرب بين الجيش و"قوات الدعم السريع".

 

وفي أبريل/ نيسان 2023 اندلعت هذه الحرب جراء خلاف بشأن المرحلة الانتقالية، ما تسبب بمجاعة ضمن إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية بالعالم، ومقتل عشرات الآلاف ونزوح نحو 13 مليون شخص.


مقالات مشابهة

  • قوات الدعم السريع تواصل احتجاز آلاف السودانيين في الفاشر
  • وزيرة سودانية: "الدعم السريع" قتلت 300 امرأة واغتصبت 25 بالفاشر
  • اتهامات لـ”الدعم السريع” بقتل 300 امرأة في الفاشر خلال 48 ساعة
  • بيان أمريكي بشأن فظائع ارتكبتها قوات الدعم السريع في مدينة الفاشر
  • قوات الدعم السريع تعتقل جزار القرن.. من هو أبو لولو؟
  • ظروف صعبة لنازحي الفاشر والدعم السريع تخطط للانسحاب من المدينة
  • الجيش السوداني يُسقط مُسيّرات تابعة للدعم السريع
  • آلاف السودانيين في دائرة الخطر بعد سقوط الفاشر بيد قوات الدعم السريع
  • أم سودانية من قلب مجزرة الفاشر تروي قصة مدينة تبتلع أبناءها