في مؤشر خطير على تدهور استقلال القضاء اليمني وتحويله إلى ذراع طائفي بيد الميليشيات الحوثية، كشفت تقارير حقوقية وإعلامية متطابقة عن تحركات حوثية مكثفة لإعادة هيكلة السلطة القضائية في مناطق سيطرتها، تمهيدًا لتنفيذ محاكمات صورية لعشرات من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المحتجزين في صنعاء منذ أشهر، بتهم "التجسس لصالح إسرائيل".

ووفقاً لمصادر حقوقية وقضائية في صنعاء، تعمل الجماعة على استكمال إحكام قبضتها على مفاصل القضاء عبر سلسلة من التعيينات الطائفية التي تستهدف إحلال موالين للجماعة مكان القضاة المهنيين، ضمن خطة أوسع تعرف بـ"حوثنة القضاء"، وذلك لضمان تمرير أحكام سياسية تخدم أجندتها وتضفي غطاءً قانونيًا زائفًا على انتهاكاتها.

وكانت هيئة التفتيش القضائي التابعة لمجلس القضاء الأعلى في صنعاء قد أصدرت قرارًا بتوزيع خريجي دورات طائفية تحت مسمى "دورات علماء الشريعة" وعددهم 83 شخص على عدد من المحاكم تمهيدًا لتعيينهم في السلك القضائي، في خطوة وصفها المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) بأنها "إعادة هندسة ممنهجة للبنية القضائية تهدف إلى تسييس العدالة وتحويلها إلى أداة أيديولوجية تخدم مشروع الجماعة".

تطييف القضاء

وقال وكيل وزارة العدل اليمنية، فيصل المجيدي، إن القضاء في مناطق سيطرة ميليشيا الحوثي لم يعد مؤسسة قانونية مستقلة، بل أصبح منظومة دينية طائفية يديرها “علماء” لا يعرفون القانون إلا بالاسم، ولا العدالة إلا بما يخدم مصالح الجماعة وسلالتها.

وأوضح المجيدي أن الحوثيين قاموا بإطاحة القضاة الحقيقيين، خريجي المعهد العالي للقضاء، واستبدالهم بأكثر من 83 عنصرًا موالياً للجماعة تم توزيعهم على مختلف المحاكم، بعد أن تلقوا تدريبات في ما يسمى بـ"الدورات الثقافية" و"مراكز الولاية"، دون أي مؤهلات قانونية أو خبرة قضائية، ويقتصر تأهيلهم على الولاء الأعمى لزعيم الجماعة.

وأشار المجيدي إلى أن هذه الخطوة تأتي ضمن سلسلة تغييرات هيكلية شطرية في الجهاز القضائي، تضمنت استبدال أعضاء مجلس القضاء الأعلى بعناصر موالية لسلالة الحوثي، وكذا إطاحة قضاة المحكمة العليا وهيئة التفتيش القضائي والنيابة العامة، واستقدام عناصر مؤدلجة، إضافة إلى إنشاء ما سماها الجماعة "المنظومة القضائية" بقيادة محمد علي الحوثي، الذي لا يمتلك أي مؤهلات قانونية، لتكون مظلة طائفية مطيعة بعيدًا عن مبدأ الفصل بين السلطات.

وأكد وكيل وزارة العدل أن هذا التغيير أدى إلى تحويل القضاء الوطني إلى أداة مذهبية، حيث أصبح القاضي في صنعاء رجل عقيدة لا رجل قانون، ويصدر الحكم باسم “السيد” وليس باسم الشعب، وأضحى ميزان العدالة يعتمد على الولاء للجماعة وسلالتها، لا على الحقائق القانونية.

وأضاف المجيدي: "كل مظلوم في مناطق الحوثي سيُدان مسبقًا إذا لم يكن من ‘أهل البيت’ أو خادمًا للجماعة، وكل فاسد من السلالة سيُبرأ مهما بلغت جريمته. هذه ليست إصلاحات، بل جريمة منظمة بحق الدولة والعدالة. القضاء في صنعاء لم يعد سلطة مستقلة، بل فرعًا من الحوزة الحوثية، وكل حكم يصدر عنه منعدم قانونًا وشرعًا وأخلاقًا."

وأكد أن ما تقوم به الجماعة ليس مجرد تغييرات مؤسسية، بل محاولة لتطويع القانون باسم الدين، وتحويل المحاكم إلى أداة لتبرير القتل والخطف والتعذيب باسم “الحق الإلهي”، محذرًا من انهيار كامل لثقة المواطنين في مؤسسات العدالة في مناطق الحوثيين.

خفايا التعينات الحوثية

ويرى حقوقيون أن هذه الخطوة ليست معزولة، بل تأتي في إطار تهيئة الأرضية القضائية لإصدار أحكام معدّة سلفًا بحق العشرات من موظفي المنظمات الأممية والدولية الذين اختطفتهم الميليشيا خلال الأشهر الماضية، ووجهت إليهم تهمًا ملفقة تتعلق بالتجسس لصالح دول أجنبية.

وقالت مصادر حقوقية في صنعاء إن تصريحات عبدالواحد أبو راس، القائم بأعمال وزير الخارجية في حكومة الحوثيين غير المعترف بها دوليًا، والتي أعلن فيها إحالة ملفات الموظفين الأمميين والدوليين إلى القضاء، تعكس نية الجماعة استخدام القضاء كوسيلة ابتزاز وضغط سياسي على المجتمع الدولي للحصول على مكاسب تفاوضية واعتراف سياسي بسلطاتها الانقلابية.

ويؤكد حقوقيون أن "ما يجري ليس محاكمة بالمعنى القانوني، بل عملية احتجاز تعسفية مغطاة قضائيًا"، إذ إن القضاء في مناطق سيطرة الحوثيين فاقد للشرعية الدستورية وتُدار مؤسساته بتوجيهات سياسية وأمنية من قيادة الجماعة، الأمر الذي يجعل أي حكم يصدر عنها باطلاً قانونيًا ولا يُعتد به دوليًا.

ويحذر المركز الأمريكي للعدالة من أن هذه الممارسات تمثل أخطر مراحل تسييس القضاء في اليمن، مشيرًا إلى أن إدخال عناصر عقائدية إلى المنظومة العدلية يهدف إلى شرعنة القمع والانتقام السياسي تحت لافتة "أحكام قضائية".

ويضيف المركز أن التوسع في التعيينات الطائفية واستغلال القضاء في تصفية الحسابات السياسية يقوض ما تبقى من الثقة بالمؤسسات العدلية، ويمهّد لموجة جديدة من الانتهاكات الجسيمة ضد المتقاضين وضحايا الاختطاف، خصوصًا في ظل غياب أي رقابة أو استقلال قضائي فعلي.

تعاطي باهت

وكان مجلس القضاء الأعلى في الحكومة الشرعية قد أصدر قرارًا سابقًا بإلغاء المحكمة الجزائية المتخصصة في صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، مؤكدًا أن كل ما يصدر عنها باطل قانونيًا وعديم الأثر. إلا أن الجماعة واصلت استخدام هذه المحكمة كواجهة قضائية لتصفية خصومها وتنفيذ أحكام إعدام بحق معارضين وصحفيين ومدنيين دون أي ضمانات قانونية.

في المقابل، يواجه المجتمع الدولي والأمم المتحدة انتقادات متصاعدة بسبب ما وُصف بـ"التعاطي الباهت" مع قضية موظفيها المحتجزين، إذ تجاوز عددهم 60 موظفًا، في ظل غياب أي تحرك حازم لضمان سلامتهم أو الإفراج عنهم.

وتدل هذه التطورات على أن جماعة الحوثي لا تتعامل مع القضاء كمؤسسة للعدالة، بل كـ أداة هيمنة سياسية ودينية تُستخدم لترهيب الخصوم وإسكات الأصوات المستقلة. فـ"حوثنة القضاء" ليست مجرد سياسة توظيف أو تأهيل إداري، بل إعادة صياغة لبنية العدالة اليمنية بما يخدم المشروع الطائفي الإيراني في المنطقة.

ويحذر خبراء من أن هذا النهج، إذا استمر، سيؤدي إلى تفريغ القضاء اليمني من مضمونه الوطني والمهني، ويحول المحاكم إلى ساحات للتصفية الفكرية والسياسية، ما يهدد بانهيار شامل لمنظومة العدالة، ويجعل من العدالة نفسها ضحية جديدة في حرب السيطرة والهوية.

المصدر: نيوزيمن

كلمات دلالية: القضاء فی فی صنعاء فی مناطق

إقرأ أيضاً:

مركز دراسات: الحوثيون يواجهون تحديات متزايدة تهدد استمراريهم

قال مركز دراسات يمني إن جماعة الحوثيين في البلاد تواجه تحديات متزايدة قد تهدد استمراريتها.

 

وذكر مركز المخا للدراسات الاستراتيجية في تقرير حديث أن الحوثيين يواجهون أزمات داخلية وخارجية تعيق قدرتهم على اتخاذ قرارات حاسمة في الفترة المقبلة.

 

وأوضح التقرير أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين تشهد تدهوراً كبيراً، ما أدى إلى تزايد السخط الشعبي.

 

وتفاقمت الأزمات نتيجة لتراجع الخدمات الأساسية، حيث يعاني السكان من نقص حاد في الغذاء والكهرباء والمياه، فضلاً عن التضييق الاقتصادي الذي أثر على حياتهم اليومية. كما أشار التقرير إلى أن الحوثيين لم يتمكنوا من تحسين مستوى هذه الخدمات، بل على العكس، ازدادت الأوضاع سوءاً، مما أدى إلى تذمر المواطنين ضد الجماعة.

 

وأشار التقرير إلى أن الحوثيين يواجهون أيضاً أزمة سياسية حادة داخل صفوفهم، خاصة بعد الخلافات المتزايدة مع حزب المؤتمر الشعبي العام، وتدهور العلاقة بينهما عقب مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح على يد الحوثيين. وتسبب هذا التوتر في انقسامات داخلية جديدة، حيث بدأ الحوثيون في إبعاد أعضاء المؤتمر من المناصب القيادية، ما زاد من تفاقم الأزمة السياسية داخل الجماعة.

 

وأضاف التقرير أن خسائر الحوثيين في صفوف قادتها العسكريين، نتيجة للغارات الجوية المستمرة، قد أسفرت عن حدوث فراغات قيادية كبيرة، مما أدى إلى ارتباك داخل صفوفهم وصعوبة في التنسيق بين الجبهات العسكرية.

 

على المستوى الإقليمي والدولي، تزايدت الضغوط على الحوثيين، خاصة مع تراجع الدعم الإيراني لهم. وكانت إيران تقدم الدعم العسكري والمالي للحوثيين، لكن التراجع في النفوذ الإيراني في المنطقة أدى إلى نقص الموارد المالية والعسكرية للجماعة. كما فرض المجتمع الدولي المزيد من العقوبات على الحوثيين، حيث صنفت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الجماعة كمنظمة إرهابية، ما زاد من عزلتها الدولية.

 

وفي ظل هذه الأزمات، طرح التقرير ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الحوثيين: الأول هو التصعيد العسكري، حيث قد تستمر الجماعة في تصعيد الهجمات ضد السعودية والمصالح الغربية، بهدف تحسين موقفها في المفاوضات السياسية المستقبلية. فيما السيناريو الثاني يتضمن التهدئة والمصالحة الوطنية، حيث قد تضطر الجماعة للتوصل إلى اتفاق مع الحكومة الشرعية في إطار عملية سياسية شاملة.

 

أما السيناريو الثالث حسب التقرير فيتمثل في تبني الحوثيين استراتيجية مرنة تجمع بين التصعيد المحدود والتهدئة السياسية، مما يسمح لهم بالحفاظ على تأثيرهم في المعادلة السياسية اليمنية.

 

وختم مركز المخا للدراسات تقريره بالقول إن جماعة الحوثي تواجه تحديات كبيرة قد تضعها أمام خيارات صعبة بين التصعيد العسكري أو التفاوض على تسوية سياسية قد تتطلب منها تقديم تنازلات. وعلى ضوء الأزمات الداخلية والدعم الإقليمي المتراجع، فإن قدرة الحوثيين على الاستمرار في القتال تبقى محل شك، إلا أن استمرار تشرذم المواقف داخل الحكومة الشرعية قد يتيح لهم بعض الفرص في المرحلة المقبلة.

 


مقالات مشابهة

  • صنعاء.. مكتب حقوق الإنسان يدين مساعي الحوثيين تعيين عناصر غير مؤهلة في القضاء
  • مركز دراسات: الحوثيون يواجهون تحديات متزايدة تهدد استمراريهم
  • وفاة القاضية الأزرقي في صنعاء عقب إقصائها وتهميشها من الحوثي
  • الحوثيون يوسّعون نفوذهم تحت الأرض .. حروب الأنفاق تشتعل في اليمن
  • الحوثيون يستبدلون القانون بالولاء.. المركز الأمريكي للعدالة: مليشيا الحوثي تمهد لتعيينات طائفية داخل المحاكم
  • اعتبره مؤشر خطير.. مركز حقوقي: الحوثيون يمهدون لتعيينات طائفية في السلك القضائي
  • المعلمون يبيعون غرف نومهم للبقاء أحياء.. والأرامل يبعن خزائن ذكرياتهن لإنقاذ أطفالهن.. الجوع يطارد اليمنيين في مناطق الحوثي
  • أكاديمي يمني يتهم منظمة أوكسفام بدعم الحوثيين وتسريب بيانات سرية للميليشيا ورفضها تصنيفهم إرهابيين
  • ابتزاز إنساني بنكهة سياسية.. الحوثيون يلوّحون بمعاناة اليمنيين بعد تجميد الدعم