القنابل المتنكرة.. سلاح الاحتلال لقتل أطفال غزة بعد الحرب
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
في إحدى الصباحات التالية لوقف إطلاق النار، أيقظت نهى علوان طفليها التوأمين يحيى ونبيلة على وعد بحياة عادية طال انتظارها. كانت الأسرة قد عادت لتوّها من رحلة نزوح طويلة أكلت من صبرهم ما يكفي لأعوام. في بيتهم شبه المدمر وسط مدينة غزة، بدا اليوم واعدًا بشيء من البهجة.
قالت الأم وهي تراقب توأمها (6 سنوات) يتهيآن للخروج: «اذهبا إلى السوق يا حبيبيّ، اشتريا ما تشتهيان من الحلوى».
لعبة قاتلة
لم يمر وقت طويل حتى دوّى انفجار اخترق سكون الحي. هرعت نهى نحو مصدر الصوت، لا تدري ما الذي ينتظرها. بين غبار كثيف وصراخ الجيران، كانت تبحث بعينين مذعورتين عن ظل صغير تعرفه. هناك، في طرف الشارع، وجدت جسد ابنها يحيى مطروحًا أرضًا، فيما كانت نبيلة على مسافة أمتار، «كان اللغم على شكل لعبة»، تقول الأم وهي تضرب صدرها بيدين مرتجفتين، «تفتّت لحمهم أمامي، لم أستوعب إلا أنني أجري حاملة بقاياهم إلى المستشفى».
في غرفة العناية المركزة بمستشفى الشفاء الطبي، جلست نهى أمام سريرين متجاورين. على اليمين يرقد يحيى محاطًا بالضمادات، وعلى اليسار نبيلة الغارقة في صمت أبيض، تحيط بها الأنابيب والأجهزة. حملت الأم فستان ابنتها معها، وتهمس وهي تبكي: «قلت لها احتفظي به لعُرس ابنة عمك.. وها أنا أحضره لألبسه لها في المستشفى». نبيلة ما زالت غائبة عن الوعي منذ أسبوع، ويحيى خرج اليوم من العناية المركزة، لكنه لم يدرك بعد حجم خسارته.
تقول الأم بصوت يختنق بالعجز خلال حديثها لـ«عُمان»: «قال لي يا ماما خرّجي أصابعي، لا أشعر بيدي. لم يعلم أن يده بُترت»، تقول الأم.
لم يعد في البيت ما يذكّر بالحياة إلا صوت الأم وهي تناجي طفليها. «أطالب العالم أن ينقذ أطفال غزة. ابني وبنتي بحاجة لعلاج خارج البلد»، تضيف وهي ترفع رأسها نحو السماء. في عينيها حزن يشبه الركام الذي يحاصر المدينة. لم تزل تؤمن أن العالم، ولو متأخرًا، قد يسمعها.
معلبات متفجرة
بعد أيام قليلة من مأساة التوأمين، كانت عائلة حماد في خان يونس تعيش القصة ذاتها على نحو آخر. عاد أفراد العائلة إلى منزلهم المدمر في حي الأمل، يبحثون في الركام عن بقايا أغطية وملابس شتوية قبل أن يغمر البرد أيديهم العارية. وبينما كان العم يحاول رفع قطعة من الركام، لمح علبة معدنية صغيرة تشبه معلبات الطعام. لم يدرِ أحد أن ما ظنّوه طعامًا كان قنبلة مموهة بانتظارهم.
دوّى الانفجار في المكان، وانبعثت سحابة من الغبار والرماد. سقط خمسة من أفراد الأسرة على الأرض، بينهم ثلاثة أطفال أصيبوا بجروح بليغة. نُقلوا إلى مجمع ناصر الطبي، بينما بقي الركام ساكنًا يخفي خلفه مزيدًا من الألغام. يقول الطفل محمد حماد (تسع سنوات): «ما أذكره أن انفجارًا قويًا حدث بعد أن تعثر أخي بعلبة طعام، ثم وجدت نفسي في المستشفى». أما والده أحمد، فيروي أن ابنه الأصغر لامس إحدى العلب دون أن يعرف ماهيتها، فاشتعل الموت في لحظة.
زار مراسل «عُمان» في غزة موقع الحادث، فوجد أن الركام يعج بعشرات العلب المعدنية الصغيرة المتناثرة فوق الأرض، بعضها لم يُفتح وبعضها اندثر مع الانفجار.
يؤكد سكان الحي أن جيش الاحتلال الإسرائيلي تمركز في المنطقة لأربعة أشهر متواصلة، وخلّف وراءه معلبات وأجسامًا مفخخة تركها عمدًا لإيقاع الأذى بالمدنيين العائدين إلى بيوتهم. يقول بلال حماد، أحد المصابين لـ«عُمان»: «شاهدت علبة تشبه الطعام، التقطها عمي، وفجأة انفجرت بين أيدينا».
بحسب ما جمعته «عُمان» من شهادات متقاطعة ومصادر في الشرطة الفلسطينية، فإن جيش الاحتلال استخدم أنواعًا من المتفجرات المتنكرة، بعضها على شكل ألعاب أطفال أو معلبات طعام أو حتى هياكل هواتف نقالة. الأخطر من ذلك أن الاحتلال، خلال سنتي الحرب، اغتال معظم أفراد وحدة الهندسة والفرق الفنية المتخصصة بتفكيك القنابل، ما جعل قطاع غزة مكشوفًا أمام هذا النوع من القتل المؤجل.
موت متربص
تؤكد التحقيقات الميدانية أن ما خلّفته الحرب لا يقل فتكًا عن الحرب نفسها. فالمتفجرات التي لم تنفجر بعد أصبحت فخاخًا مزروعة في كل زاوية من القطاع. يقول محمد المغير، مسؤول الإمدادات في الدفاع المدني: «نحن نتحدث عن 71 ألف طن تقريبًا من مخلفات الحرب موجودة في المباني وتحت الطرقات وعلى الأسطح، من أصل 200 ألف طن من المتفجرات سقطت على غزة». هذه الأرقام المهولة تُظهر أن القطاع يعيش فوق حقل من الموت، لا يعلم أحد متى ينفجر.
يضيف المغير لـ«عُمان»: «90% من المختصين في الشرطة ووحدة الهندسة قُتلوا في الحرب، والمعدات التي كانت بحوزتهم دُمرت تمامًا. لم يعد ممكنًا التعامل مع هذه المخلفات إلا بفرق دولية مختصة».
ويؤكد أن كل عملية بحث عن جثمان أو رفع ركام قد تتحول إلى كارثة إذا اصطدمت الأدوات بقذيفة مدفونة في باطن الأرض. لذلك، يطالب بأن يُسمح بإدخال وحدات هندسية دولية إلى غزة، وأن يزوّد الاحتلال الجهات الفلسطينية بخارطة القنابل التي لم تنفجر بعد، «لأن لديه المعلومات والقدرة على تحديد مواقعها».
دوامة الخطر
الموت في غزة لم يعد يأتي من السماء وحدها، بل يخرج من بين الركام، من المعلبات التي تلمع كطعنة خادعة، ومن ألعاب ملونة تسلب الأطفال أرواحهم. ومع غياب الإمكانات والمعدات، تصبح كل محاولة لإنقاذ أو تنظيف مخاطرة مكلفة جديدة.
يؤكد المغير: «خلال عامي الحرب، ألقت إسرائيل على قطاع غزة أكثر من 160 ألف طن من المتفجرات، من بينها ما لم ينفجر حتى الآن، وهو ما يشكل خطرًا كبيرًا على المدنيين».
ويحذر المصدر من أن هذه المخلفات قد تبقى نشطة لعشر سنوات قادمة إذا لم يبدأ العمل الدولي في تفكيكها فورًا. يقول المصدر بلهجة يائسة تشبه صدى الانفجار: «هذا يحتاج إلى تدخل عاجل من المؤسسات الأممية المعنية، وإلا ستبقى دوامة الموت مستمرة في غزة لسنوات طويلة».
تشير التقديرات الأممية إلى أن معالجة هذا الكم من المتفجرات تحتاج إلى جهود تمتد لعقد كامل من الزمن، مع فرق متخصصة ومعدات متطورة وخطط دقيقة. لكن الواقع السياسي المعقد وإغلاق المعابر يجعل إدخال هذه الفرق شبه مستحيل. وبينما يعلو النقاش في المحافل الدولية، تبقى العائلات الغزية وحيدة في مواجهة موت مؤجل يتخفّى في كل شيء: في الحجارة، في العلب المعدنية، وفي الألعاب.
«إذا لم تبدأ الجهود الآن، فكل يوم سيمر سيحمل معه ضحايا جدد»، يقول المصدر، في إشارة إلى أن بقاء هذا الوضع يعني أن الأطفال الذين نجوا من القصف لن ينجوا من ما بعده.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من المتفجرات
إقرأ أيضاً:
الشرع يقول إن احتلال إسرائيل قد يصل ميونخ إذا واصلت فرض شروطها بسوريا
دمشق - قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن إسرائيل احتلت مرتفعات الجولان بحجة "حماية" نفسها، ولو استمرت في فرض شروطها فربما يتوسع احتلالها ليصل إلى مدينة ميونخ الألمانية.
جاء ذلك في مقابلة للشرع مع صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية في ختام زيارته إلى الولايات المتحدة، التي وصلها الأحد وغادرها الثلاثاء، عقب لقائه نظيره الأمريكي دونالد ترامب.
وسئل الشرع بشأن ما إذا كانت سوريا ستوافق على نزع سلاح المنطقة الواقعة جنوب دمشق، بناء على مطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وأجاب بأن "الحديث عن نزع السلاح من منطقة بأكملها سيكون صعبا".
وعزا ذلك إلى أنه "إذا ساد أي نوع من الفوضى، فمن سيتولى حماية المنطقة؟".
وتابع: "وإذا استُخدمت هذه المنطقة المنزوعة السلاح من قبل بعض الأطراف كمنصة لضرب إسرائيل، فمَن سيتحمل المسؤولية عن ذلك؟".
و"في نهاية المطاف، هذه أراضٍ سورية، وينبغي أن تتمتع سوريا بحرية التصرف في أراضيها"، كما أكد الشرع.
ومضى قائلا: "لقد احتلت إسرائيل الجولان لحماية إسرائيل (كما تزعم)، والآن تفرض شروطا في جنوب سوريا لحماية الجولان".
واستطرد: "لذا، بعد بضع سنوات، ربما ستحتل (إسرائيل) وسط سوريا لحماية جنوبها. سيصلون (الإسرائيليون) إلى ميونيخ عبر هذا الطريق"، على حد تعبيره.
وبعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد أواخر 2024، تصاعدت الانتهاكات الإسرائيلية لسوريا، رغم تأكيد دمشق التزامها باتفاقية فصل القوات لعام 1974، والتي أعلنت تل أبيب انهيارها.
ورغم أن الحكومة السورية لم تشكل أي تهديد لتل أبيب، شن الجيش الإسرائيلي مئات الغارات الجوية منذ الإطاحة ببشار الأسد، فقتل قتل مدنيين ودمر مواقع وآليات عسكرية وأسلحة وذخائر تابعة للجيش السوري.
وتحتل إسرائيل هضبة الجولان السورية منذ حرب 5 يونيو/ حزيران 1967، وتجري دمشق وتل أبيب بوساطة أمريكية مفاوضات للتوصل إلى اتفاق امني.
** المفاوضات مع إسرائيل
وكشف الشرع، في المقابلة، عن قطع "شوط جيد" في المفاوضات مع إسرائيل.
وقال: "نحن منخرطون في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وقطعنا شوطا جيدا نحو التوصل إلى اتفاق".
وأضاف أن "الولايات المتحدة معنا في هذه المفاوضات، والعديد من الأطراف الدولية تدعم وجهة نظرنا في هذا الصدد".
و"السيد ترامب يدعم وجهة نظرنا أيضا، وسيدفع بأسرع ما يمكن للتوصل إلى حل لهذه المسألة"، بحسب الشرع.
ووضع الشرع شرطا نهائيا لإبرام الاتفاق، وهو أن "تنسحب إسرائيل إلى حدود ما قبل 8 ديسمبر" 2024.
وعقب الإطاحة ببشار الأسد، وسعت إسرائيل رقعة احتلالها في جنوبي سوريا، واحتلت المنطقة السورية العازلة.
** "داعش" و"قسد"
في سياق آخر، شدد الشرع على أن مهمة حماية الأراضي السورية من تنظيم "داعش" الإرهابي هي "مسؤولية الدولة".
ومساء الثلاثاء، أعلنت السفارة الأمريكية بدمشق، عبر منصة شركة "إكس" الأمريكية، انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد "داعش"، الذي تشكل بقيادة الولايات المتحدة عام 2014.
وقال الشرع: "كنا في حرب مع ("داعش") لمدة عشر سنوات، وفعلنا ذلك دون تنسيق مع قوة غربية أو أي دولة أخرى".
وتابع: "سوريا اليوم قادرة على تحمّل هذه المسؤولية".
وحذر من "إبقاء سوريا مقسمة، أو وجود أي قوة عسكرية خارج سيطرة الحكومة، يُمثّل البيئة الأمثل لازدهار داعش".
وأعرب عن اعتقاده بأن "الحل الأمثل هو أن تشرف القوات الأمريكية الموجودة في سوريا على دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في قوات الأمن التابعة للحكومة المركزية".
ومضى قائلا: "وستكون مهمة حماية الأراضي السورية من مسؤولية الدولة".
وفي 10 مارس/ آذار الماضي، وقّع الشرع اتفاقا مع فرهاد عبدي شاهين قائد "قسد" (الذي يشكّل عناصر "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي عموده الفقري).
وينص الاتفاق على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية شمال شرقي البلاد ضمن إدارة الدولة، غير أن شاهين يماطل في تنفيذ الاتفاق.
وشدد الشرع على أن سوريا هي مَن "طردت الميليشيات الإيرانية وحزب الله من سوريا".
وبشأن مصير بشار الأسد، قال إن قضيته "مزعجة لروسيا" (التي منحته "لجوءا إنسانيا").
لكنه شدد على أن سوريا "ستحافظ على حقوقها في المطالبة بتقديم الأسد للعدالة".
وفي 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أجرى الشرع أول زيارة إلى روسيا منذ توليه منصبه في يناير/ كانون الثاني الماضي، في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد (2000-2024).