لجريدة عمان:
2025-11-13@17:35:00 GMT

الغيبة والنميمة أدوات لهدم المجتمع

تاريخ النشر: 13th, November 2025 GMT

الغيبة والنميمة أدوات لهدم المجتمع

خلقنا الله في هذه الأرض واستخلفنا فيها وجعل هذا الاستخلاف جزءًا من العبادة التي هي الغاية العليا من الخلق، وأمرنا ببناء المجتمعات والسعي الدائم في عملية الإصلاح والتنوير، ولذلك جاءت الشريعة الإسلامية شاملة في ما يخص الأوامر التي أمرنا الله بها من العبادات، وكذلك بينت لنا المعاصي التي تهدم أعمال الإنسان بل بعضها يمتد أثرها على المجتمع وتصبح هذه المعاصي معاول هدم لصروح الفضائل في المجتمعات، ومن بين المعاصي التي تسللت إلى أغلب فئات المجتمع، وأصبحت عادة لا يلتفت إلى خطرها هي معصية الغيبة والنميمة.

فهذه المعصية تدخل في الثرثرة والحديث العابر، وقد تطلى بعبارات يحاول من يرتكب هذه المعصية أن يسوغها وتصبح أمرا ليس كبيرا، فيقول: «نحن عندما نذكر فلانا فإننا لا نقصد السوء» فتغطى بعبارات خادعة، ونسي هذا الذي يقول إن هذه الثرثرة هي حديث عابر بأنها قد تكون سببًا في سخط الله عليه ودخوله النار، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار سبعين خريفا» فهذه الكلمة أو الغيبة أو النميمة قد تكون سببا في جرائم ترتكب في هذا المجتمع، فربما تبدأ القصة بمجرد نقل كلامه بين الأصدقاء والأخوة وتتحول بهذا الفعل إلى أن تصل إلى ارتكاب جرائم كالقتل.

وعلى الرغم من ذلك قد يظن الناس أن الكبائر هي القتل والزنا والسرقة، لكنهم يغفلون عن أن اللسان أقصر طريق إلى النار، فالغيبة والنميمة لا تحتاج جهدا ولا وقتا، يكفي أن يجلس الإنسان ساعة مع رفقة غافلة حتى يجمع من السيئات ما لا يجمعه سارق في عمره، فهي من الذنوب السهلة، لذلك كان خطرهما أعظم، لأن النفس تطمئن إلى ما اعتادت عليه، فلا ترى فيه ذنبا يستوجب التوبة.

وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ بن جبل أن حصائد اللسان هي أعظم ما يدخل الناس النار فهذا معاذ يقول: « كنتُ معَ النبي صلى اللهُ علَيهِ وسلمَ في سفَر، فأصبَحتُ يوما قريبا منهُ ونحنُ نَسيرُ، فقلتُ : يا رسولَ اللهِ أخبرني بعمَل يُدخِلُني الجنةَ ويباعِدُني من النارِ، قالَ : لقد سألتَني عَن عظيم، وإنهُ ليسيرٌ على من يسرَهُ اللهُ علَيهِ، تعبدُ اللهَ ولا تشرِكْ بِهِ شيئا، وتُقيمُ الصلاةَ، وتُؤتي الزكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحج البيتَ، ثم قالَ: ألا أدلكَ على أبوابِ الخيرِ: الصومُ جُنةٌ، والصدَقةُ تُطفي الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجلِ من جوفِ الليلِ قالَ : ثم تلا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبهُمْ، حتى بلغَ يَعْمَلُونَ، ثم قالَ: ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلهِ وعمودِهِ ، وذِروةِ سَنامِهِ ؟ قلتُ: بلى يا رسولَ اللهِ، قالَ: رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثم قالَ: ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلهِ؟ قُلتُ: بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: فأخذَ بلِسانِهِ قالَ: كُف عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبي اللهِ، وإنا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلمُ بِهِ؟ فقالَ: ثَكِلَتكَ أمكَ يا معاذُ، وَهَل يكب الناسَ في النارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلا حَصائدُ ألسنتِهِم».

والغيبة والنميمة يدلان على أن من يقوم بهما غافل قلبه، وفاقد الإحساس بخطر الكلمة ووزنها فحين يضعف الوازع الداخلي، يصبح اللسان أداة عبث، يذوق لذة الثرثرة وينسى مرارة الحساب عند الوقوف أمام الله يوم القيامة، مع أن الله عز وجل حذر في كتابه العزيز من الغيبة فقال: «يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا منَ الظن إِن بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلَا تَجَسسُوا وَلَا يَغْتَب بعْضُكُم بَعْضا أَيُحِب أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتقُوا اللهَ إِن اللهَ تَوابٌ رحِيمٌ».

ولو تأملنا هذه الآية نجد أن الله تعالى حينما ينهى عن الغيبة، فهو لا يكتفي بمنع الكلام عن الغائب، بل يرسم لنا صورة حسية قوية: أن الغيبة أشد قبحا من أكل لحم أخيك الميت، هذا التشبيه يصدم العقل والقلب في الوقت نفسه، ويجعلنا نتأمل: كيف يمكن لكلمة تقال بلا دماء أن تكون أخطر من فعل مادي مقزز، فالغيبة تأكل روح الغائب قبل جسده، تهدم كرامته أمام الحضور ببطء، وتترك أثرا عميقا لا يزول في نفوس المستمعين، فهي تشبه أكل اللحم الميت: شيء قذر ومرفوض، لكنه يقدم على شكل كلام عابر، والنفس البشرية قد تبتلع ذلك الكلام بلا وعي، لكن القلب يشعر بالمرارة.

وإذا أتينا لتأمل شخصية المغتاب والنمام، لوجدنا أنها شخصيات خارجة عن الفطرة السليمة السوية فهي تكشف عن اضطراب نفسي وشخصية غير متصالحة مع ذاتها، فالمغتاب والنمام لا يتحدثان عن الناس عبثا، بل ينفسان عبر ذلك عن نقص داخلي وشعور دفين بعدم الأمان، فهما يفرغان صراعهما مع الذات في الآخرين، ويبحثان عن توازن مفقود عبر إضعاف صور من حولهم.

فنجد المغتاب في أغلب حالاته، إنسانًا يعاني من ضعف الثقة بالنفس ومن حس المقارنة المستمرة، فهو يرى نجاح الآخرين تهديدا لذاته، فيحاول تخفيف شعوره بالنقص من خلال النيل من سمعة غيره، فيعيش بحالة من الإسقاط النفسي؛ حيث يُسقط عيوبه ومخاوفه على الآخرين ليخفف من توتره الداخلي، الغيبة بالنسبة له ليست تسلية، بل محاولة يائسة لإعادة التوازن إلى ذاته الممزقة بين الإعجاب بالآخرين والغيرة منهم في الوقت نفسه.

وإذا أتينا إلى النمام، فهو أكثر تعقيدا من المغتاب، إذ لا يكتفي بانتقاد الناس، بل يسعى إلى زرع الفتنة بينهم، فيحمل بداخله حاجة خفية إلى السيطرة والشعور بالقوة، ويجد في نقل الكلام وسيلة غير مباشرة لبسط نفوذه العاطفي والاجتماعي، فهو شخصية معتلة مريضة إذ يرى نفسه محورا للأحداث ويستمد لذته من مراقبة التوتر الذي يصنعه بين الناس فهو يعاني من فراغ داخلي يملأه بالحركة والكلام وإثارة النزاعات.

وللأسف الشديد لم تعد الغيبة والنميمة اليوم حديثا بين الأصدقاء أو في المجالس بل انتقلتا من اللسان إلى الشاشة، ومن الجلسة الضيقة إلى الفضاء المفتوح، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، تغيرت طبيعة الحديث، واتسعت رقعة الكلمة، لكن الأخلاق ضاقت عند كثيرين حتى صارت الكلمة سلاحا يشهره البعض دون وعي بعواقبه. وقد كشفت لنا التكنولوجيا هشاشة الوعي الجمعي، فبين تغريدة وتعليق ومنشور، تُرتكب الغيبة على الملأ، وتُمارس النميمة بشكل جماعي تحت شعارات مختلفة: حرية رأي نقدا، أو«معلومة من مصدر موثوق» وهكذا أصبح الحديث عن الناس بدلا من الحديث إليهم، والعقوبة المجتمعية تُنفذ بنقرة على هاتف في مجموعات الواتساب.

وكذلك سهلت وسائل التواصل عملية نشر الإشاعة، وغيبت الحدود الأخلاقية التي كانت تكبح اللسان، فالمغتاب اليوم لا يحتاج إلى مجلس ولا إلى جمهور صغير، بل يكفيه أن يكتب جملة واحدة لتصل إلى آلاف العيون، والنمام لا يحتاج أن يتنقل بين الناس، فالتطبيقات تفعل ذلك عنه بثوان، بذلك تحولت الغيبة إلى محتوى، والنميمة إلى تفاعل رقمي محسوب بالإعجابات والمشاركات.

المشكلة تكمن في الإنسان الذي لم يتعلم بعد أن الكلمة الإلكترونية لا تقل وزنا عن الكلمة المنطوقة، فالحديث الذي كان يُنسى في المجالس أصبح اليوم محفوظا في ذاكرة الإنترنت، يخلد الأذى ويجعل التوبة أصعب، فصارت الغيبة لا تُقال مرة، بل يُعاد نشرها مراتٍ لا تُحصى، وصارت النميمة تُعلن في العناوين.

وهذه الظاهرة تكشف أزمة أخلاقية عميقة يعيشها المجتمع المعاصر؛ حيث تتقدم الرغبة في الظهور على قيمة الصمت، وكثيرون اليوم يخلطون بين الشهرة والتأثير، فيتناولون أعراض الناس بحثا عن الاهتمام، بينما ينسون أن الله تعالى يرى ما يكتبون كما يسمع ما يقولون.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الغیبة والنمیمة ن الله

إقرأ أيضاً:

خالد الجندي يكشف عن فئة من الناس يباهي الله بهم الملائكة.. من هم؟

قال الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إن الله تعالى يرفع من مكانة عباده المجتهدين في الطاعات، ويُباهي بهم الملائكة في كل وقت يجتهدون فيه.

وأوضح الجندي، خلال حلقة برنامج "لعلهم يفقهون"، المذاع على قناة "dmc"، اليوم الخميس، أن أحاديث النبي ﷺ تتحدث عن مباهات الله بالعباد في مناسبات متعددة، مثل يوم عرفة، وليلة القدر، ويوم الجمعة، وقيام الليل، وحتى انتظار الصلاة، مشيرًا إلى أن كل عبادة يؤديها العبد بإخلاص وتفرد تكون سببًا لمباهات الله به أمام الملائكة.

وأضاف أن من بين هذه الأمثلة، الأعرابي الذي يصلي وحده في الصحراء وقت الصلاة، أو الشخص الذي يمتنع عن معصية أو إغراء، أو من يحافظ على قيام الليل، فكل هؤلاء يباهي بهم الله تعالى أمام الملائكة لحرصهم على الطاعة والاجتهاد في القربات.

خالد الجندي: لا إيثار في العبادات.. العلاقة في الإسلام تنافسية لا تفضيليةالشيخ خالد الجندي: تفاوت الرزق سنة إلهية.. والرضا أغنى من المالكله من عند الله.. خالد الجندي: احذروا شرك النفس وانسبوا النعمة إلى المُنعمخالد الجندي: المشاركة في الانتخابات واجب وطني

وأشار الشيخ خالد الجندي إلى موقف من السنة، حينما أخبر النبي ﷺ عن جماعة من الصحابة الذين جلسوا في المسجد بعد صلاة المغرب منتظرين الصلاة التالية، فقال لهم: «الله يباهي بكم الملائكة»، موضحًا أن هذا الحديث يعكس فضل المثابرة والاجتهاد، وأن الله يقدّر من يُداوم على الطاعات حتى في لحظات الانتظار.

وأكد الجندي أن معرفة العبد بهذا الموقف تعطيه مكانة عظيمة عند الله عز وجل، وتوضح أن الاجتهاد في الطاعات ليس مجرد فعل شخصي، بل لحظة مباهة إلهية أمام الملائكة، وهو ما يعكس قيمة التفرد والاجتهاد في العبادة والنية الصادقة لله.

طباعة شارك الشيخ خالد الجندي برنامج لعلهم يفقهون انتظار الصلاة

مقالات مشابهة

  • خالد الجندي يكشف عن فئة من الناس يباهي الله بهم الملائكة.. من هم؟
  • صلاة الاستسقاء .. اعرف كيفيتها ودعاءها وفضلها
  • تتزايد شعبية المقامرة عبر الإنترنت: كيف تتجنب أكبر مخاطرها
  • أطباء بلاحدود: ما زالت الغارات “الإسرائيلية” تثير خوف الناس وتعطّل حياتهم في لبنان
  • سقوطُ الإنسان.. من شرارةِ الحسد إلى نارِ الانتقام
  • المفتي يحث المسلمين على أداء صلاة الاستسقاء غداً
  • الغزو الناعم .. سلاح صهيوأمريكي لهدم الأمة والمسيرة القرآنية تبني حصون الوعي والمقاومة
  • نهى الله تعالى عنها.. ما هى المعاجزة؟
  • الفيسبوك .. عين المواطن التي تراقب وتكشف وتُحاسب