مغني الـراب الذي صار عمدة نيويورك.. كيف صنعت الموسيقى نجاح ممداني؟
تاريخ النشر: 13th, November 2025 GMT
لا تزال أسرار نجاح السياسي الأميركي زهران ممداني، الذي نجح في الوصول إلى مقعد عمدة نيويورك، تتكشف شيئا فشيئا، بعدما اعتقد كثيرون أن ما حققه كان شبه مستحيل. فقد بدأت أعداد مشاهدات واستماع أغاني الراب التي أطلقها في سنواته السابقة بالتصاعد، ليكتشفه جمهور جديد كمغني راب، وكأنه شخص مختلف تماما.
وتبدو تلك الأغاني، بكلماتها وإيقاعاتها واختياراتها الفنية، تفسيرا واضحا لقدرته اللافتة على التأثير من خلف الميكروفون.
وكان ممداني، قبل انتخابه عمدة لمدينة نيويورك، وقبل أن يشغل مقعدا في مجلس الولاية، معروفا في أوساط موسيقى الأندرغراوند باسم "السيد كارداموم"، وهو مغني راب ذكيّ يملك وعيا اجتماعيا، ويمزج بين السخرية والإثارة السياسية في جرعات من التعليقات السياسية والاجتماعية لا تتجاوز 3 دقائق.
ويأتي تحوّل الشاب -الذي يعود إلى أصول هجينة تجمع بين الهند وأوغندا والولايات المتحدة- من الإيقاعات الموسيقية إلى صناديق الاقتراع كما لو كان إعادة ابتكار، لكن بالنسبة لمن تابعوا مسيرته عن قرب، لم ينفصل فنّه أبدا عن نشاطه السياسي، وإنما كان مقدمة تمهيدية للسياسة التي يدافع عنها الآن على أكبر منصة بلدية في أميركا.
أصدر ممداني عام 2017 ألبوما قصيرا بعنوان "كزبرة" (Cilantro)، وهو عمل ساخر يمزج بين الراب والسياسة والهوية الثقافية. من أشهر أغانيه ضمن هذا المشروع أغنية "فيض الكاري" (Curry Flow)، التي نُشرت عبر "يوتيوب"، وتميزت بطابع ساخر ونقدي للصور النمطية عن الثقافة الهندية والجنوب آسيوية في أميركا.
يشير ممداني مرارا إلى أن موهبته في موسيقى الراب لم تولد بمعزل عن نشأته في أسرة مكونة من مخرجة سينمائية ناجحة ومستقلة وقوية هي الأم ميرا ناير ومن المنظّر السياسي والأستاذ الجامعي، صاحب النزعة الاشتراكية محمود ممداني. وهو ما يعني أن الابن نشأ منغمسا في سرديات المقاومة والتداخل الثقافي بين 3 مجتمعات في كل من الهند وأوغندا والولايات المتحدة بما تحمله من اختلافات وتعقيدات وتناقضات، ومن خلال الموسيقى، وخاصة الهيب هوب، وجد صوته الخاص بين تفاصيل ذلك الزحام الفني والمعرفي والفكري.
إعلانبصفته "السيد كارداموم"، استخدم ممداني الموسيقى لتشريح كل شيء، من ذكريات سنوات الاستعمار في أفريقيا إلى التحرر. استخدم زهران السخرية والاستعارة لكشف كيف تُشكّل العنصرية والرأسمالية الحياة اليومية. كانت ألحانه مليئة بالإشارات إلى الصدمات التاريخية وفخر المهاجرين بأصولهم، ولكن دائما بلمسة مرحة، إذ دعت أبياته المستمعين إلى الضحك والتفكير والتساؤل.
في أغنيته "Curry Flow"، يقول "أُحرّر ذوقي من الاستعمار، أُصنع نكهة لحربي الطبقية، من كامبالا إلى كوينز، أنا جوهر التوابل." يقدم ممداني أو السيد كارداموم في أغنيته وعيا سياسيا مُبهجا، نابضا بالحياة، ومتجذرا في الثقافة اليومية. هذا النهج نفسه ميّز لاحقا خطاب حملته الانتخابية، وتنظيمه المجتمعي، والآن، أجندته كعمدة.
اختراق ثقافي بالحواديتعبر سنوات مراهقته وشبابه المبكر، شكل زهران ممداني ملامح أسلوب مختلف لممارسة النشاط الثقافي، ذلك الأسلوب الذي يعتمد بشكل رئيسي على الأداء المسرحي ورواية القصص والمشاركة المباشرة، فيما يشبه استدعاء لتاريخ الحركات الشعبية الناجحة. فلم تكن عروضه الحية حفلات موسيقية فقط، وإنما مساحات تلتقي فيها الهوية الجنوب آسيوية بالسياسة.
كانت الحكايات، وما زالت، هي القاسم المشترك في خطابات وأغاني السياسي الشاب، إنه السرد الذي ورثه عن أم تروي الحكايات عبر الأفلام، وفي "الراب"، روت كلمات أغانيه قصصا نادرا ما كانت محور اهتمام وسائل الإعلام الرئيسية عن أطفال من ذوي البشرة السمراء يتمسكون بهويتهم، ومستأجرين يحاربون جشع ملاك العقارات، ومسلمين يواجهون محاولات محو هويتهم.
وعندما انتقل إلى تنظيم حملات العدالة السكنية في حي "كوينز" بنيويورك، جلب معه أداء الراب، حيث طرق الأبواب كما لو كان يلقي أبياتا شعرية، وكتب منشورات انتخابية بإيقاعات وعبارات مؤثرة، وتواصل مع الناخبين من خلال المشاعر المشتركة بعيدا عن المصطلحات السياسية.
قام ممداني بصياغة بياناته كما يكتب أغانيه، فالإيقاع حاضر تماما، والجمل بسيطة وواضحة، تعكس شعارات حملته، ومنها "السكن حق من حقوق الإنسان"، و"إلغاء الإيجار"، و"فرض ضرائب على الأغنياء لتمويل الشعب"، تلك الجمل التي تبدو فيها قوة أسلوب الراب المختصر، حتى إن أول فيديو لحملته الانتخابية عام 2020 عن خلفيته وقيمه جاء أشبه بأغنية راب، تم تلحينها بشكل بسيط وممتع، وكأن الفيديو ليس إلا بداية لحملة صُممت كألبوم موسيقي شعارها، كل سياسة أغنية، وكل احتجاج أداء.
وجعلته هذه الغريزة الفنية مؤثرا بشكل خاص مع المجتمعات الشابة متعددة اللغات والمهاجرة التي غالبا ما يتم إهمالها من قبل السياسي التقليدي. وكما خاطبت موسيقاه الهويات الهجينة، فعلت سياساته ذلك أيضا، واعترفت بأنه يحق للمواطن النيويوركي أن يكون مسلما، أو أفريقيا، أو جنوب آسيوي، أو من الطبقة العاملة، أو أبيض.
تميزت موسيقى الراب لدى ممداني، دائما، بالسخرية والتهكم، وهو أسلوب يؤدي إلى إفقاد السلطة السياسية هيبتها، سواء في قاعة الجمعية الوطنية أو في مناظرة انتخابية لرئاسة البلدية، وقد أتقن الشاب البالغ من العمر 34 عاما فن الإشارة إلى السخافات دون أن يفقد وقاره وبوصلته الأخلاقية، وهي مهارة صقلتها خشبة المسرح والميكروفون.
إعلانولم تكن تلك الموسيقى مجرد أداة بلاغية، بل ساهمت في تشكيل فهم ممداني للتجربة الجماعية. يزدهر الراب، وخاصة أنواعه الفرعية "الأندرغراوند" و"الواعية"، في المساحات المشتركة، كالحفلات الموسيقية، والميكروفونات المفتوحة، والتعاون بين مختلف الطبقات والثقافات. وتتجسد هذه الروح التعاونية في كيفية بناء ممداني للتحالفات السياسية.
ويعكس نهجه في الحملات الانتخابية الممولة من قِبَل صغار المتبرعين، والمدفوعة بالمتطوعين، والمحلية للغاية، أخلاقيات العمل الذاتي في المشهد الموسيقي المستقل. فكما قاوم الفنانون المستقلون احتكار الشركات في صناعة الموسيقى، قاومت حملة ممداني أموال العقارات، وأجهزة الأحزاب، وهيمنة المؤسسات.
في كلا العالمين، الأصالة هي الأساس. ولم يحد ممداني عن ذلك قط. سواء كمغني راب أو كمرشح لمنصب عمدة، كان يتحدث بنفس الأسلوب الساخر، والحماسي، والأصيل.
ربما يكون زهران ممداني قد وضع اسم "السيد كارداموم" في أحد الأرفف المخفية بعد انتخابه، لكن العقلية التي ألهمت موسيقاه لا تزال حية في قاعة المدينة، إلا أن الأسلوب الذي نجح به يصلح تماما للحكم، إذ يمكنه أن يكتب القصة، كمبدع، ومن ثم يحركها الناس، لأن التغيير الثقافي يأتي أولا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات زهران ممدانی
إقرأ أيضاً:
تقدير إسرائيلي: حرب غزة مهدت الطريق لفوز ممداني في نيويورك
أثار فوز زهران ممداني بمنصب عمدة ولاية نيويورك موجة واسعة من النقاش داخل الأوساط الإسرائيلية، لكونه يحمل هوية متعددة الأبعاد: مسلم، تقدمي، ومهاجر، وهو ما منحه قدرة على التواصل مع شرائح اجتماعية وسياسية متنوعة، بدءا من المحافظين المسلمين الذين رأوا في انتخابه مصدر فخر ديني، وصولا إلى الشباب التقدميين الذين اعتبروه "واحدا منهم" وتجديدا للحياة السياسية التي يصنفونها بـ"الراسخة والفاسدة"، وهو ما يزعج الإسرائيليين بصورة واضحة.
وقال إلعاد بن دافيد، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، إن "الانتصار التاريخي الذي حققه ممداني يمثل علامة فارقة وغير مسبوقة في المشاركة السياسية للمسلمين في الولايات المتحدة، ويعكس مرحلة جديدة من تشكل القيادة الإسلامية داخل الساحة العامة الأمريكية".
وأضاف أن صعود ممداني لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة مسار طويل ارتبط بزيادة الحضور الإسلامي والمشاركة المدنية والسياسية في السنوات الأخيرة.
وأوضح بن دافيد، في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" وترجمته "عربي21"، أن هذه التحولات تعود جذورها إلى ما بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، التي أدت إلى انتشار موجات الإسلاموفوبيا، لكنها في الوقت ذاته دفعت قطاعات واسعة من المجتمع المسلم إلى إعادة صياغة خطابهم العام، وتبني استراتيجية استباقية تقدّم الإسلام باعتباره دينًا منسجمًا مع القيم الأمريكية الأساسية.
وبحسب المقال، فإن الأئمة والمنظمات الإسلامية والناشطين الاجتماعيين بدأوا في تلك المرحلة بتقديم الهوية الإسلامية بصورة إيجابية محبة للسلام، وتعزيز الحوار بين الأديان، مع طرح المجتمع المسلم كشريك طبيعي في قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والعنصرية وانتهاكات حقوق الإنسان في العالم، بما في ذلك اضطهاد المسلمين في مختلف المناطق.
وأشار إلى أنه ومع تنامي الإدراك بضرورة مواجهة الإسلاموفوبيا، ظهرت دعوات داخل المجتمع المسلم لزيادة المشاركة المدنية والاجتماعية، ولإزالة التشوهات التي تحيط بصورة الإسلام، والتأكيد على الولاء الوطني، وتعميق الاندماج داخل المجتمع الأمريكي.
وساعد ظهور منصات التواصل الاجتماعي لاحقا في تعزيز حضور خطاب إسلامي مؤثر ورموز دينية ومدنية اكتسبت نفوذا واسعا في المجال العام.
ويرى بن دافيد أن هجوم حماس في السابع من أكتوبر والحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على غزة سرعا من نضوج هذه الاتجاهات، إذ أدى الدمار الهائل وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا على مدار عامين إلى دفع قطاعات واسعة من المسلمين والمهاجرين والتقدميين لتبني خطاب أكثر قوة في الدفاع عن الفلسطينيين.
وأضاف أن هذا النشاط امتد إلى الجامعات الأمريكية التي تحولت إلى مراكز تضامن مؤثرة مع الفلسطينيين، وارتفعت الضغوط على الحزب الديمقراطي خلال الانتخابات الأخيرة، خصوصا في الولايات الحاسمة، مما أتاح بروز صوت إسلامي أكثر قوة وتأثيرًا في السياسة الأمريكية.
وأشار المقال إلى انتقال الجالية المسلمة من جيل "متردد وغير سياسي"، يخشى انتقاد السياسة الخارجية الأمريكية، إلى جيل جديد "صاحب وعي سياسي متقدم" يسعى للتأثير المباشر على الأجندة الوطنية بلا تردد، وهو ما عززته الحرب على غزة ومنحت الخطاب المؤيد للفلسطينيين والمعارض لدولة الاحتلال شرعية اجتماعية وسياسية أكبر.
وبحسب التحليل، فقد كانت هوية ممداني المتعددة عاملا رئيسيا في قدرته على مخاطبة أطياف مختلفة من الناخبين، من المسلمين المحافظين إلى التقدميين والشباب، إضافة إلى ارتباطه بخطاب سياسي قريب من رموز إسلامية تقدمية بارزة مثل إلهان عمر ورشيدة طليب، وشخصيات مؤثرة مثل ليندا صرصور، التي لعبت دورا في دعمه سياسيا.
وتخلص القراءة الإسرائيلية إلى أن فوز ممداني يمثل مرحلة متقدمة في ترسيخ حضور الجالية الإسلامية داخل الولايات المتحدة، وتعزيز مشاركتها السياسية على المستويين المحلي والفدرالي.
وترى أن لهذه التحولات، التي تعكس تنامي قوة "اللوبي الإسلامي" في أمريكا، تأثيرات مباشرة على العلاقات بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، وكذلك على مستقبل أكبر جالية يهودية خارج إسرائيل.