النهضة المُتجددة.. ركائز وطنية ترسم خريطة المستقبل وتُرسِّخ لدولة المؤسسات
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
◄ الخطاب السامي الثاني أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة
◄ الهوية العُمانية الجامعة المصدر الأساسي لمنظومة القيم الوطنية
◄ الثقافة العُمانية تتميز بخصوصية مُتفرِّدة داخل حدود محيطها الجغرافي
◄ إبراز دور المرأة والشباب والقطاع الخاص في إنجاز المشاريع الوطنية
◄ التراكيب اللغوية في الخطاب السامي تؤكد على علاقة المسؤولية المجتمعية المشتركة
الرؤية- ناصر أبو عون
جاء الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- يوم الأحد الثالث والعشرين من فبراير 2020- في لحظة وطنية فارقة من تاريخ الأمّة العُمانية، وفاصلًا بين عصرين؛ فلمَّا أن قضى السلطان قابوس- طيَّب الله ثراه- نحبه بعد حياة حافلة من البناء والتأسيس العصريّ لدولة المؤسسات في مرحلة نهضتها المباركة منذ سبعينيات القرن العشرين، والتي تواصلت على مدار 50 عامًا بنى خلالها صورة ذهنية ناصعة البياض عن سلطنة عُمان شَهِد لها القاصي والداني، جاء العهد الميمون لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أبقاه الله- ليُكمل المسيرة.
ومن ثَمَّ فإن هذا الخطاب حقق 4 غايات رئيسة؛ تمثّلت في وضع خطة عمل مستقبلية ووطنية خالصة لتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040"، والتأكيد على اقتفاء فلسفة السلطان قابوس داخليًا وخارجيًا وتمتين العلاقة بين السلطان والمواطنين في إطار من المسؤولية الجماعيّة، وحرية التعبير المسؤولة المستندة للنظام الأساسي للدولة، وشرعية انتقال السلطة.
أولًا: المبادئ البراجماتية في الخطاب:
عند تحليل استراتيجيات الخطاب الثاني لصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق- أعزه الله- يوم 23 فبراير 2020، يمكن القول إنّ هذا الخطاب أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة؛ لتتحول من الطابع التقليدي، إلى العلاقة التشاركية القائمة على مبدأ المواطنة؛ مما أدى إلى تغيير في المفهوم من "الرعية" إلى "المواطنة الفاعلة"؛ وهي علاقة منضبطة مبنية على تحقيق التُوازن بين التطوير والاستمرار في إنتاج نهضة تواكب مفردات العصر، عبر 5 مبادئ محددة؛ هي: (1) مبدأ نفسي يسعى إلى طيّ ثيمة الحُزن الوطني، الذي خيّم على الشعب العُماني برحيل السلطان قابوس باعث حركة النهضة المباركة. (2) مبدأ اجتماعي يؤمن بوجود لُحْمة وطنية وعروة وثقى لا تنفصم بين السلطان والمواطنين ولكنه يؤكد عليها. (3) مبدأ سياسي قانوني يؤكد على شرعية الانتقال السلس للسلطة وِفْق عقد اجتماعيّ أقرّته الأعراف والتقاليد العُمانية. (4) مبدأ اقتصادي وضع الخطوط العريضة لمسيرة التنمية المستقبلية في إطار الموجة الثانية من النهضة. (5) مبدأ رمزي يؤكد على أنّ منظومة قيم السلطان الراحل هي ذاتها منظومة السلطان هيثم بن طارق- أبقاه الله- ومصدرها الهويّة العُمانية الجامعة. وقد لوحظ أنّ الخطاب تميز مُنْتَج بلغة أدبية عالية ومفردات ارتكزت إلى عقيدة دينية ووطنية راسخة.
ثانيًا: بناء توازنات بين المعرفة والسُّلطة
نجح هذا الخطاب في إعادة تعريف مبدأ المواطنة في إطار الثقافة العُمانية التي تميَّزت بخصوصية مُتفرِّدة داخل حدود محيطها الجغرافي؛ فأكد على مسؤولية المواطن وتضامنه مع الدولة في إطار الشرعية والقانون، ومن ثَمَّ أنتج صياغة تصوّر جديد في ذهنية المواطن عن معنى مصطلح الدولة، والدور الفاعل للمواطن فيها القائم على ضرورة تضافر الجهود والمسؤولية المشتركة بين السلطة والشعب مقرونًا بإقرار مبدأ "حرية التعبير المسؤولة" ضمن إطار النظام الأساسي للدولة. وقبل هذا أعاد ترتيب الأولويات في ملفات عديدة على رأسها: الاقتصاد والتشغيل، والتعليم.. إلخ.
ثالثًا: إقرار خُطة وطنية ذات أهداف عامة
لقد أقرّ السلطان هيثم- أبقاه الله- عبر هذا الخطاب خمسة أهداف عامة، وهي بمثابة خطة عمل وطنية ارتكز عليها في الانطلاق نحو المرحلة القادمة من مسيرة النهضة المتجددة؛ وهي على النحو الآتي: (1) هدف أبوي (تطمينيّ) يبدد سحابات القلق التي ألقت بظلالها على المرحلة الانتقالية بتوظيف ثلاث وسائل ناجعة هي: احتضان المشاعر الشعبية العارمة الناتجة عن رحيل السلطان قابوس وتوظيفها في الحفاظ على المنجزات وتطوير منظومة العمل. (2) التأكيد على أنّ العقيدة الدينيّة عروة وثقى لا انفصام لها، فضلًا عن التأكيد على بقاء واتساع مظلة الأمن والأمان وهي السمة التي تتمتع بها سلطنة عُمان بين شعوب العالم قاطبةً. (3) اقتفاء أثر نهج السلطان قابوس، والتغيير وفق المنهج الإصلاحي الممنهج؛ بإعادة هيكلة البِنية الإدارية، وتحديث منظومة القوانين لتواكب متغيرات العصر وفلسفة الإصلاح الاقتصادي، والتركيز على التكنولوجيا في إطار رؤية عامة ترتكز على مبدأ تنوّع مصادر الدخل. (4) إقرار مبدأ الوحدة الوطنية الجامعة واتضح ذلك من مخاطبة سائر الفئات: المرأة والشباب، والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والقطاع الخاص.. إلخ، موظِّفًا ومكرِّرًا أسلوب النداء: (أبناء عُمان الأوفياء، الأعزاء). (5) التأكيد على التمسك بعناصر شرعية الحُكم العُمانيّ الرشيد، وهي: "شرعية تاريخية" الممتدة من عصر المؤسِّس الأول للدولة وصولًا إلى السلطان قابوس وانتهاء باستلام السلطان هيثم للراية التي لن تُنكّس أبدًا، و"شرعية أخلاقية" ترتكز على مبادئ الدين الإسلاميّ الحنيف، ومنظومة القيم العُمانية المتوارثة، و"شرعية تنفيذية" تسعى إلى إعادة هيكلة الدولة ومنظومة الاقتصاد العُماني وتحديد ملامحه، و"شرعية إجرائية" ترتكز على التخطيط وِفقَ مبادئ رؤية "عُمان 2040".
رابعًا: تحليل بنية الخطاب السامي:
بمتابعة لحظة إلقاء السلطان هيثم بن طارق- أبقاه الله- لخطاب يوم الـ23 من فبراير 2020، نجد عملية انتقال تدريجي بدأت بالحديث عن مشاعر الفقد التي تفجّرت برحيل السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- ثم التمهيد بالرضا بأقدار الله، ثم الانتقال إلى رؤية مستقبلية والتفكير في الغد بإيجابية، وتسمى بمرحلة إدارة الانتقال الساسي للسلطة عبر ثلاثة وسائل، تستهدف تحقيق الشرعية في وراثة الحُكم، وهي: الثناء على السلطان قابوس ودوره في بناء دولة المؤسسات، واقتفاء النهج القابوسي، وذلك لتبديد القلق الشعبي، والإعلان عن خطة إصلاحية ورؤية جديدة في إدارة الدولة. ولتعزيز الإحساس بالشراكة الفاعلة بين المواطنين والدولة أشار إلى دور المرأة العُمانية والشباب والقطاع الخاص في إنجاز مشاريع المرحلة الجديدة.
خامسًا: الأيديولوجيا والسُلطة في الخطاب:
يُمكننا عبر هذا الخطاب رصد المكونات الرئيسة التي ترتكز عليها أيديولوجية الدولة الحديثة في عصر السلطان هيثم بن طارق، وهي: "التسامح وقبول الآخر" في العلاقات الدولية والفاعلية في المشهد الدولي استنادًا إلى مبدأ السلام، و"القوة العاقلة" بتطبيق الدولة لمبدأ سيادة القانون، ومنظومة الأمن والأمان، وتحقيق الاستقرار، الذي ينتج عن تفاعل المنظومتين القانونية والأمنية معًا، و"الدولة التنموية" القائمة على تطوير البنية الأساسية وإعادة هيكلة الاقتصاد وتحفيز الابتكار، والسُلطة بوصفها تكليف ومسؤولية.
سادسًا: البناء اللغوي والتراكيب في الخطاب:
اعتمد الخطاب السامي في بنائه اللغويّ والتركيبي على 3 وسائل تُحيل المستمع ذهنيًا إلى مخزونه التاريخيّ، ولغته المتوارثة الحاملة لتراثه الديني، والمعبِّرة عن وجدانه؛ ووظّفها للتأكيد على التواصل بين عهد المغفور له- بإذن الله تعالى- السلطان قابوس، والعهد الجديد للسلطان هيثم-أبقاه الله- وهذه الوسائل تمثّلت في: "التَّناصّ" بالإحالة إلى خطاب السلطان الراحل وافتتاح الخطاب بالآيات القرآنية والدعاء. أمَّا على مستوى نصّ الخطاب؛ فقد وظّف الخطاب مفردات ذات طابع ديني لإضفاء شرعية روحية وأخلاقية على العهد الجديد. مثل: (نعاهد الله، ونحمد الله، والمُتقين، والرحمة، والقدرة)، ولتعزيز روح الانتماء والتماسك الاجتماعي وظّف الخطاب مفردات تعبّر عن الوحدة الوطنية الجامعة؛ مثل: (نُقدِّر، ونثمِّن، والأعزاء، والأوفياء، وأبناء عُمان). أمّا على صعيد التحديث والبناء فقد وظّف مصطلحات ومفردات تنموية من مثل: (هيكلة، والتشريعات، والتنويع الاقتصادي، والتوازن المالي، والتمكين، والبناء). وجاءت التراكيب اللغوية للتأكيد على علاقة المسؤولية المجتمعية المشتركة وتضافر الجهود بين السلطان والشعب العُماني في بناء المرحلة الجديدة من نهضة عُمان، مثل: (سيكون في سُلّم أولوياتنا، ونحن ماضون).
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
من الإمام المؤسس إلى هيثم المجد.. تاريخ مشرق وإنجازات خالدة
د. محمد بن عوض المشيخي **
القادة العظام يبقون في أذهان شعوبهم عبر لأزمنة المختلفة فرصيدهم يكون حاضر في القلوب والافئدة التي تجعل كل الناس تُعبِّر بصدق عن إن إنجازاتهم وتذكر بأعمالهم الفريدة عبر الأجيال، ذلك لكونها أي الأعمال تميزهم عن غيرهم؛ ويمكن وصف ذلك بـ"كاريزما" القيادة والرشد في إدارة شؤون الدولة؛ أو ما يعرف بفن القيادة الذي يفتح الأفق ويمد الجسور بين القائد والرعية، ويزيل الضبابية بين الحاكم وشعبه.
قيادة النَّاس وإدارة شؤونهم باقتدار نحو المستقبل المُشرق، ليس بالأمر السهل أو الهين؛ بل يعد ذلك من أهم فنون الإدارة المعاصرة وأصعبها على الإطلاق، وقد أنعم الله على عُمان بقيادات حكيمة تعمل بلا كلل أو ملل لتحقيق آمال وطموحات المجتمع العُماني بكل أطيافه، في هذه الأيام النوفمبرية الخالدة ونفحاتها التي تأسر العقول؛ تختلط المشاعر الوطنية النابعة من الوفاء الصادق والإخلاص لعُمان وسلطانها صاحب النظرة الثاقبة الذي يقود بحكمة واقتدار سفينة الوطن نحو المجد. فوطننا العزيز في موعد مع مناسبة مجيدة كتبت بماء من ذهب، لإنها تذكرنا جميعا بذكرى خالدة وعزيزة على قلوبنا جميعا؛ ألا وهي اليوم الوطني الذي يتزامن مع الذكرى رقم 281 لتأسيس الدولة البوسعيدية وسط إنجازات تعانق السماء موقعة بعبق تاريخ الدولة البوسعيدية وبصمة سلاطينها الميامين، بدايةً من الإمام المؤسس أحمد بن سعيد الذي يعود له الفضل بعد الله في طرد المحتلين الفُرس وتوحيد البلد تحت رأيته ثم انتخابه إمامًا بإجماع العُمانيين من أهل الحل والعقد في ذلك الوقت؛ مرورًا بسلاطين عظماء بإنجازاتهم الوطنية ومواقفهم المشرفة للوطن والأمة؛ إذ يبرز من تلك الكوكبة من الزعماء والقادة الذين تولوا حكم عُمان في عهود مختلفة، وكان هاجسها وغايتها الأولى المحافظة على أمن الوطن، واستقرار شعبها؛ بل وحتى استقلال قرارتها السيادية في أحلك الظروف وأصعبها؛ اثنان من الأسماء التاريخية التي لا يمكن لها أن تنسى من ذاكرة العُمانيين القاصي منهم والداني على حد سوى وهما: أولا؛ السلطان سعيد بن سلطان الذي امتد حكمه من 1806 إلى 1856؛ أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد نجح في تأسيس امبراطورية عظيمة مترامية الأطراف يُشار لها بالبنان في ذلك الوقت، امتدت من جنوب شرق الخليج العربي إلى شرق أفريقيا.
وقد كانت عُمان وأحدة من أهم وأكبر الإمبراطوريات في ذلك الزمن من حيث المساحة وكذلك الأساطيل البحرية العابرة للبحار والمحيطات في الشرق والغرب؛ والأهم من ذلك كله الازدهار الاقتصادي والتجاري الذي كان غطى إقليم بلوشستان شرقًا إلى زنجبار في القرن الأفريقي غربًا.
وفي القرن العشرين وبالتحديد في عام 1970، كان هذا البلد العزيز على موعد مع فجر جديد من العقود المشرقة بالأمن والاستقرار والمنجزات التي تعانق عنان السماء؛ إذ أطل من جديد على الأرض العُمانية عهدٌ مبارك ونهضة تنموية مستدامة كتب صفحاتها المضيئة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الذي نجح من جديد في بعث الماضي التليد للغبيراء، وأبحرت السلطنة بقيادته الحكيمة نحو حضارة القرن العشرين بما تحمله من تنوير ونجاحات، وكان السلاح الفتاك المستخدم محاولة القضاء على ثالوث التخلف: الجهل والمرض والفقر، من خلال استخدام العِلم والمعرفة في نشر الفكر وتأسيس دولة المؤسسات؛ وبناء هياكلها المختلفة ودعوة المواطنين المهاجرين في دول الخليج وأوروبا بالعودة والمشاركة في خدمة الوطن؛ حيث شهدت البلاد مشاريع اقتصادية شامخة وعملاقة، وانفتاح ثقافي مخطط له راع الثوابت والقيم العُمانية؛ والهوية الوطنية والاستفادة من الثورات العلمية والإنتاج الفكري الذي يجعلنا نتواصل مع الثقافات والشعوب الأخرى في أرجاء المعمورة.
وفي هذه المرحلة التي تعيشها سلطنة عُمان وهي تحتفل بيوم 20 نوفمبر المشرق، في كنف قائدنا الفذ حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أعزه الله- الذي ينتمي إلى إرث إمبراطوري عظيم، وتعد أسرته هي الأقدم والأعرق في الحكم في الجزيرة العربية، وهو جدير بالتقدير والثناء لمقامه الرفيع، وأخلاقه العالية وتواضعه المنقطع النظير، والأهم من ذلك كله قربه من أبناء هذا الوطن وحبه الأبدي للتراب الوطني المقدس.
وفي الختام.. عُمان اليوم وهي تعيش أجمل عهودها نحو المستقبل الزاهر، الذي أجاد سلطان الفكر في كتابة فصوله المضيئة؛ فإنها بلا شك في طريقها لتحتل مكان الريادة بين الأمم حسب رؤية "عُمان 2040" الذي يُعد السلطان "هيثم المجد" المهندس الحقيقي لها، وقد وضع نصب عينيه الكريمتين، أن تكون السلطنة في مقدمة دول العالم في مثلث التنمية المعروف بأبعاده: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إنَّ عُمان تنتظر منا جميعًا رد الجميل والإخلاص للوطن والولاء للسلطان هيثم والمحافظة على الإنجازات التي تحققت على أرض سلطنتنا الغالية التي في واقع الأمر لا يُنكرها إلا ظالِم.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصر