95 عاماً في مواجهة المشروع الثقافي الفرنسي في جيبوتي
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
لم يكن الاستعمار الفرنسي كغيره من الاستعمارات، فقد اتبع سياسة ممنهجة لطمس الهويات الثقافية والدينية للشعوب التي احتلها، مؤمناً بـ”المهمة الحضارية” التي تبرر محو كل ما هو محلي وإحلال الثقافة الفرنسية مكانه. وفي جيبوتي، تجلت هذه السياسة بوضوح من خلال فرض اللغة الفرنسية ومنع التعليم العربي، ومحاربة أي مظهر من مظاهر الهوية الإسلامية والعربية.
لقد كان المشروع الفرنسي يعمل على صنع مواطن أفريقي يتحدث الفرنسية وينتمي ثقافياً لباريس، متجاهلاً تماماً تاريخ المنطقة وهويتها العربية الإسلامية العريقة. وفي مواجهة هذا المشروع الطموح، وقف الرجال الأحرار من التجار والعلماء اليمانيين، بإمكانياتهم المحدودة، لكن بإيمانهم اللا محدود، ليحافظوا على هوية هذا البلد الإسلامية. لقد قدموا من حضرموت وعدن وتعز وصنعاء، حاملين معهم ليس البضائع فحسب، بل الكتب والمخطوطات والعلم، ليبنوا مساجد ومدارس كانت حصوناً للهوية العربية في مواجهة آلة الاستعمار الفرنسي الجبارة.
تأسست مدرسة النجاح الإسلامية – التي تُعد أول مدرسة أهلية عربية في جيبوتي بل وفي منطقة القرن الإفريقي – عام 1931م بمبادرة من الجالية اليمنية المقيمة في جيبوتي، على يد رجل الأعمال المرحوم علي محمد كُبيش الذي يعتبر الأب الروحي والمؤسس لهذه المدرسة.
لم يكن المرحوم كُبيش كريماً فقط، بل كان شجاعاً وغَيوراً على دينه وأمته، فقد لاحظ -رحمه الله- أن الهيئة التبشيرية الكاثوليكية (ميسيون كاثوليك) قد أنشأت مدرسة لتعليم اللغة الفرنسية في شارع “ديجول” في العاصمة جيبوتي. ومن هنا وقع اختيار السيد علي كبيش على موقع مدرسة النجاح الاستراتيجي الحالي، إذ كان الهدف من تأسيسها مواجهة العمل التبشيري لهذه الهيئة من جهة، ودعم الوجود العربي من خلال تعزيز مكانة اللغة العربية والحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية بين أبناء الشعب الجيبوتي المسلم من جهة أخرى، وقبل ذلك تأسيس المدرسة بفترة، قام المرحوم السيد حمودي ببناء مسجد حمودي في منطقة “بلاص رامبو” والذي يُعتبر أول مسجد في جيبوتي، فقامت هاتان المؤسستان الإسلاميتان الوحيدتان في جيبوتي بدورهما التربوي والديني وتركتا آثاراً وبصمات واضحة في هذا البلد المسلم الذي كان يرزح تحت حكم الاستعمار الفرنسي.
تعاقب على إدارة المدرسة عدد من القامات العلمية والدينية من اليمن، وهم بالترتيب: القاضي السيد علي بن علي بن أبوبكر السقاف (رئيس المحكمة الشرعية في جيبوتي)، ثم السيد العلامة عبد الله بن علي بن عيدروس بن الشيخ أبي بكر بن سالم، ثم السيد علوي بن عبد الرحمن بن يحيى، وهؤلاء هم من خريجي رباط تريم في حضرموت، ثم الأستاذ محفوظ حسن عبد الله، وأخيراً تشرفتُ بإدارتها منذ عام 2012م وحتى اليوم.
في البداية، كانت المدرسة منذ افتتاحها تحت إدارة القاضي السيد علي بن علي بن أبوبكر السقاف، الذي قام بدور ريادي في تثقيف المجتمع وتنويره وتعزيز انتمائه لبلده وأمته ودينه، إلا أن المدرسة واجهت عوائق كثيرة اعترضت مسيرتها آنذاك، أهمها عدم اعتراف السلطات الفرنسية بها، بل واعتراضها على اسمها مما زاد من صعوبة الحصول على الترخيص من حكومة الاحتلال آنذاك، ولكن بفضل متابعة المرحوم علي محمد كبيش، وإلحاحه الشديد، منحت السلطات الاستعمارية الفرنسية لها الترخيص على أن تسمى بالفرنسية: Ecole Franco-Islamique وتعني (المدرسة الفرنسية الإسلامية)، فلبى طلبهم حتى يبعد أي عذر لهم لكنه جعل اسم المدرسة بالعربية “مدرسة النجاح الإسلامية”، هذا من جانب ومن جانب آخر واجهت المدرسة عائقاً مهماً تمثل في عدم وجود منهج عربي رسمي ينهل منه الطلاب علومهم ويتلقون دروسهم. ولذلك، تواصل القاضي علي السقاف بزميله العلامة السيد عبد الله بن علي بن عيدروس بن الشيخ أبي بكر وطلب منه القدوم إلى جيبوتي مع نخبة من أساتذة رباط تريم لإدارة المدرسة نتيجة لانشغال القاضي السقاف بشؤون المحكمة الشرعية، ومن هنا استطاع السيد عبد الله بن علي بن عيدروس بحنكته وغزارة علمه وخبرته وعلو همته من تجاوز هذه العقبة، حيث قام في البداية بتأليف عدد من الكتب التي أصبحت منهجاً تعليمياً يدرس للطلاب. ومن هذه الكتب المطبوعة: “دليل الفهم في علم الرسم” حيث قام بتلخيص عدد من القواعد اللغوية والإملائية الأساسية، والذي أصبح مرجعاً في أساسياً للطلاب، وكذلك كتاب “الدروس الدينية”، وكتاب “قرة العين في الرحلة إلى بلاد الحرمين الشريفين”، بالإضافة عدد من المؤلفات الأخرى. ثم استعان ببعض المقررات التي كانت تُدرس في حضرموت آنذاك، ثم في مرحلة لاحقة قام باستيراد بعض الكتب الدراسية من جمهورية مصر …
… وجود عدد من المعلمين الأكفاء الذين ساهموا في تجاوز العقبات والعوائق، نذكر منهم الأستاذ علوي بن يحيى والأستاذ عبد القادر طيب بامخرمة، والشاعر والأديب الأستاذ عثمان بن محمد السقاف، بالإضافة إلى المدير العلامة السيد عبد الله بن علي عيدروس بن الشيخ أبي بكر -رحمهم الله جميعاً- الذي استمر في إدارته للمدرسة لأكثر من ثلاثين عاماً حتى وفاته أثناء زيارته إلى حضرموت العام 1978م ودفن في مقبرة حوطة النور بمدينة القطن.
بعد الاستقلال المبارك عن فرنسا عام 1977م، استمرت المدرسة بتأدية دورها محققة الكثير من النجاحات، فتم الاهتمام بتعليم البنات وخصص لهن الفترة المسائية، وتم افتتاح المرحلة الإعدادية. وكانت المدرسة تعتمد في موازنتها على دخل إيجارات المحلات التي تركها للمدرسة الراحل السيد علي كُبيش ومن بعده ابنه سعدي، ثم حفيدته السيدة ماجدة كُبيش، ولهذا فقد كانت المدرسة تؤدي دورها الريادي لطلاب العلم بالمجان دون أي رسوم دراسية. ناهيك عن التحسينات الكبيرة التي شهدتها المدرسة شكلاً ومضموناً، فاليوم توسعت المدرسة إلى أصبحت تتكون من مبنى يحتوي على 10 قاعات دراسية، بالإضافة إلى مبانٍ إدارية وسكن المدير واستراحة المعلمين ومكتبة.
في العام 2006م، قدم الأستاذ علوي عبد الرحمن بن يحيى استقالته نظراً لظروفه الصحية – حيث توفي في اليمن بعد شهور من تقديم استقالته – فتم تكليف الأستاذ محفوظ حسن عبد الله بإدارة المدرسة. ومع بداية عمل الأستاذ محفوظ، انتهت فترة عمل المعلمين المصريين، فقام محمد عبود بالتنسيق مع نخبة من المعلمين اليمنيين أبرزهم الأستاذ / ياسر علي عبد الوهاب، والأستاذ/ كامل غانم، والأستاذ/ عبده نصر، والأستاذ/ حمزة صالح، وغيرهم. وتم تغيير المنهج المصري إلى اليمني تماشياً مع قرار وزارة التربية الوطنية. وتم على أيدي المعلمين اليمنيين افتتاح المرحلة الثانوية، وأدى طلاب الثانوية العامة أول اختبار في العام الدراسي 2010-2011م. وبهذه الخطوة أصبحت المدرسة متكاملة من الابتدائية إلى الثانوية العامة، وصولاً إلى العام 2012م، تم تكليفي بإدارة المدرسة لأصبح المدير الخامس لمدرسة النجاح الإسلامية، ولا يفوتني هنا أن أشكر كل من ساندوني في هذه المهمة وعلى رأسهم رئيسة مجلس الإدارة الأستاذة ماجدة كُبيش، والمرحوم/ علي أحمد علي، والأستاذ/ نيازي عبد الكريم، والأستاذة نوال الفريوي من تونس الشقيقة.
لقد خرجت المدرسة آلاف الطلاب الذين شكلوا نواة للهوية الجيبوتية العربية الإسلامية، وكانت بحق منارة أنارت الطريق للأجيال في ظلام الاستعمار. وما زالت حتى اليوم تؤدي رسالتها، محافظة على نفس الروح التي أسست بها، نفس الإصرار على البقاء، ونفس العزيمة في مواجهة التحديات، ومن طلابها عدد غير قليل من الشخصيات المعروفة والمرموقة في جيبوتي واليمن، نذكر بعضهم على سبيل المثال:
المناضل الشيخ عثمان، دولة الرئيس عبد الله محمد كامل (رئيس وزراء جيبوتي السابق)، الأستاذ/ رفقي عبد القادر بامخرمة (وزير التجارة والصناعة السابق بجمهورية جيبوتي) ، مؤمن احمد شيخ (وزير وزير العدل والشؤون والسجون المكلف بحقوق الإنسان في جيبوتي)، الشيخ عبد الرحمن بشير، عبد القادر سعيد العطار، إبراهيم سعيد العطار، أحمد محمد الحاج، ناصر علي عثمان، الشاعر أحمد فرج باضفاري، الدكتور أحمد بن علي السقاف (طبيب الأطفال المعروف)، نجيب محفوظ أحمد (مصور فني)، العقيد عسكري عمر بُقرة ( قائد خفر السواحل في جيبوتي)، الدكتور عبده علي مريش – أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة صنعاء، الأديب والشاعر أحمد حامد الجوهري، السفير محمد عبد الواسع الأصبحي (سفير اليمن في جيبوتي) وغيرهم من الشخصيات والقامات.
“لم تكن مدرسة النجاح الإسلامية مجرد مؤسسة تعليمية بل كانت صرحا وطنياً شكلت النواة الأولى للنهضة الفكرية والثقافية المقاومة” بهذه العبارة وصف التقرير الإخباري للتلفزيون الرسمي في جمهورية جيبوتي دور المدرسة في النضال الوطني حتى نيل الاستقلال عن فرنسا عام 1977م. وبالإضافة إلى دورها الوطني المناهض للاستعمار الفرنسي، كان لمدرسة النجاح دور مبكر في مساندة القضية الفلسطينية من خلال استضافة اللاجئين الفلسطينيين الذين قدموا إلى جيبوتي عقب نكبة 1948م وتقديم الخدمات لهم، في ظل ظروف صعبة وقاهرة.
ها هي مدرسة النجاح الإسلامية اليوم تقف شاهداً حياً على انتصار الإرادة البشرية على الإمكانيات المادية، وانتصار الإيمان بالهوية على سياسات الطمس والتغريب، كما أنها شاهدة على الدور الحضاري والتنويري والثقافي والدعوي للنخب اليمانية من تجار وعلماء وأساتذة، الذين تمكنوا برغم الإمكانيات المحدودة ، أن يقفوا في مواجهة واحدة من أكبر القوى الاستعمارية في العالم، ومواجهة مشروعها الثقافي، فقصة مدرسة النجاح الإسلامية ليست مجرد سرد تاريخي لمؤسسة تعليمية، بل هي نموذج لصراع الحضارات المصغر،
حيث انتصرت المدرسة العربية الإسلامية المتواضعة على الآلة الاستعمارية بإمكانياتها الجبارة، فقد أثبتت أن الأمة التي تمتلك وعياً بهويتها وإرادة الحفاظ عليها، لا يمكن لأي قوة في العالم أن تنتزع منها هويتها أو تمحو تاريخها.
إن مدرسة النجاح الإسلامية ليست مجرد مبنىً من الأسمنت والطوب فحسب، بل هي فكرة تجسدت في واقع، وإرث ثقافي حي، وقصة كفاح تستحق أن تروى للأجيال القادمة، لتذكرهم بأن الهوية لا تُمنح، بل تُصنع بالإرادة والعلم، وأن المقاومة لها عدة أوجه، أحدها العلم والقلم والمدرسة.
* مدير مدرسة النجاح الإسلامية في جيبوتي
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
بريطاني يرسب 128 مرة في اختبار القيادة النظري
#سواليف
كشفت بيانات صادرة عن مدرسة (AA) لتعليم القيادة في #بريطانيا، أن أحد المتدربين أنفق 2944 جنيهاً إسترلينياً (٣٨٧١ دولارا) في محاولات لاجتياز اختبار القيادة النظري، بعد أن خاضه 128 مرة دون نجاح، وفق شبكة SkyNews.
وبحسب البيانات ذاتها، لم يتمكن متدرب آخر من اجتياز الامتحان إلا في المحاولة الـ75، بعد أن بلغت تكلفته الإجمالية أكثر من 1700 جنيه إسترليني.
وتبلغ تكلفة كل محاولة لاختبار #القيادة_النظري، الذي يجب اجتيازه قبل حجز الاختبار العملي، 23 جنيهاً إسترلينياً.
ويقيم الاختبار معرفة المتقدم بقواعد المرور وممارسات القيادة الآمنة عبر #أسئلة #اختيار_من_متعدد، إضافة إلى اختبار القدرة على تقييم المخاطر من خلال مقاطع فيديو لمحاكاة المخاطر.
وبالنسبة لمن ينجحون في #الاختبار_النظري، يبقى الاختبار العملي عقبة أخرى.
مقالات ذات صلةففي العام الماضي، بلغ أعلى عدد لمحاولات الاختبار العملي قبل النجاح 21 محاولة، بتكلفة تراوحت بين 1302 و1575 جنيهاً إسترلينياً، وفقاً لوقت خوض الاختبارات.
كما أظهرت البيانات أن شخصين خاضا الاختبار العملي 37 مرة دون نجاح، وأنفق كل منهما ما يصل إلى 2220 جنيهاً إسترلينياً.
وجرى الحصول على هذه الأرقام عقب طلب للإفصاح عن المعلومات قُدم إلى وكالة معايير السائقين والمركبات (DVSA).
ووفقاً للوكالة، فإن معدلات النجاح في الاختبارين النظري والعملي خلال السنة المالية 2024/2025 بلغت 44.9% و48.7% على التوالي.
وقالت إيما بوش، المديرة العامة لمدرسة AA لتعليم القيادة، إن المراجعة “هي مفتاح النجاح” في الاختبار النظري، مضيفةً: “من السهل التقليل من حجم المعرفة المطلوبة لاجتياز الاختبار النظري”.
وكانت فترات انتظار الاختبارات العملية في بريطانيا قد وصلت إلى مستوى قياسي في وقت سابق من هذا العام. وقال مدربون للقيادة لـSkyNews إن حجز موعد اختبار قيادة عبر الموقع الحكومي بات شبه مستحيل بسبب برامج الحجز الآلية على النظام.
ويستخدم أفراد وشركات هذه البرامج لحجز مواعيد الاختبار بشكل جماعي ثم إعادة بيعها لتحقيق الربح. ورغم أن هذا السلوك غير مخالف للقانون، فإنه يُعد انتهاكاً لشروط استخدام وكالة معايير السائقين والمركبات.
وتُظهر البيانات الأخيرة أن الوكالة أغلقت أكثر من 800 حساب تجاري بسبب إساءة استخدام خدمة الحجز خلال العامين الماضيين.