منذ أكثر من قرن كتب آرثر جيمس بلفور رسالة قصيرة إلى اللورد روتشيلد، جملة واحدة فقط لكنها كانت كفيلة بتغيير مصير شعب كامل. لم يكن بلفور يملك فلسطين ولم يكن روتشيلد يستحقها، ومع ذلك خطّ وزير خارجية بريطانيا وعدا بإعطاء أرض ليست له إلى من لا حق له فيها.

كانت تلك ذروة الاحتلال؛ أن يقرر من لا يملك مصير من يملك، أن يُصاغ مستقبل أمة بمداد غرباء.

ولم يدرك العرب يومها أن تلك الرسالة لن تبقى وثيقة سياسية، بل ستغدو نموذجا يعاد إنتاجه في أزمنة متباعدة وبأقنعة مختلفة.

من وعد بلفور إلى وعد السيسي

واليوم وبعد مئة عام، تتكرر الفكرة نفسها في مصر على يد سلطة محلية لا تقل قسوة عن أي احتلال خارجي.

فعبد الفتاح السيسي الذي انقلب عام 2013 على الحكم عاد لينقلب بعدها على مفهوم الدولة ذاته. لم يعد يرى نفسه رئيسا مسؤولا أمام شعب، بل وصيا على مصر؛ يتعامل معها كأنها شركة خاصة، ومع الأرض كأنها غنيمة ومع الشعب كأنه كتلة قابلة للإزاحة. الأخطر أنه أعاد إنتاج منطق بلفور نفسه، لكن ليس عبر إمبراطورية استعمارية بل عبر سلطة تحمل على مصر وتتصرّف كقوة انتزاع لا كدولة وطن.

عبد الفتاح السيسي الذي انقلب عام 2013 على الحكم عاد لينقلب بعدها على مفهوم الدولة ذاته. لم يعد يرى نفسه رئيسا مسؤولا أمام شعب، بل وصيا على مصر؛ يتعامل معها كأنها شركة خاصة، ومع الأرض كأنها غنيمة ومع الشعب كأنه كتلة قابلة للإزاحة
لمن تكون الأرض؟

من وادي النيل إلى جبال سيناء كانت الأرض ملكا للشعب والدولة مجرد وكيل لإدارتها، لكن حين يعتبر الحاكم نفسه مالكا للأرض لا خادما لها تقع الكارثة؛ تتحول الدولة من مؤسسة للشعب إلى سلطة فوق الشعب، ومن حامية للأرض إلى عارضة لها في المزاد.

وهذا ما نراه اليوم في: جزيرة الورّاق، ومنطقة علم الروم، وجميمة، ورأس الحكمة، وأحياء أخرى تُنتزع بصمت من شرق مصر إلى غربها وتُسلَّم للمستثمرين.. تهجم القوات على بيوت عمرها عقود، على جدران ربّت أجيالا، على ذكريات محفورة في روح المكان ثم تُقال الجملة الباردة:
"هذه أرض دولة".

لكن الحقيقة أن من عاش فوق الأرض أربعين أو خمسين عاما وبنى بيتا وغرس شجرة وربّى أسرة وحفر بئرا؛ هو صاحب الحق قبل الدولة؛ لأن الأرض تُملك بالعمر وتُقدّس بالعرق وتُحرَّم على من يأتي متأخرا ليقول لمن سبقوه إنها ليست لهم.

حين يصبح التطوير اقتلاعا

لا يوجد شعب يرفض التنمية، المواطن يريد دولة قوية واقتصادا مزدهرا ومشاريع تفتح أبواب الرزق، لكن ما يفعله النظام الآن ليس تنمية بل اقتلاع مُغلّف بلغة رسمية.

مشاريع تُدار خلف الأبواب المغلقة في صفقات غامضة مع أجانب، وإخلاءات قسرية تنفذ بلا حوار ولا شفافية ولا عدل. وحين نحدّق في الصورة نرى مشهدا مروّعا، يصبح البحر المتوسط شاطئا لمدن إماراتية وقطرية، ويتحول نيل القاهرة إلى حديقة لرجال الأعمال، ويقال لأصحاب الأرض الحقيقيين: عودوا إلى الصحراء إن وجدتم فيها مكانا. هذا ليس تطويرا، هذا تحويل الوطن إلى سلعة والإنسان إلى عقبة يجب إزالتها.

الانقلاب على جوهر الدولة

لم يكتف السيسي بالانقلاب على السلطة التي سبقته، بل انقلب على جوهر الدولة المصرية الممتدة لآلاف السنين، الدولة التي عُرفت بأنها حامية النهر وحارسة الدلتا وضامنة للعدالة الاجتماعية وراعية للفلاح والفقير.

لكن هذا الشعار الذي رفعه ضباط 1952 لم يصمد أمام الزمن؛ أصبحت الدولة اليوم جهازا يطرد الفلاحين ويقتلع الأحياء والأموات ويبيع الشواطئ والجُزر، ويسلّم رقاعا من الوطن لمن لا جذور لهم فيه.

حين صدر وعد بلفور قال الفلسطينيون إنه مجرد رسالة وإنهم باقون وإن الورق لا يغيّر الحقيقة، ثم جاء المستوطنون قليلا قليلا، واختفت الأرض قليلا قليلا، ومع الزمن صار الشعب بلا وطن والأرض بلا أهلها
هكذا انقلبت المعادلة، لم تعد مصر وطنا للمصريين بل صار المصريون ضيوفا في وطن يُعاد تقسيمه.

البشر ليسوا حجارة

مهما تجمّلت السلطة بكلمة التطوير يظل المشهد الإنساني عاريا؛ أم تطوي ملابس أطفالها على عجل، ورجل يعيد مفتاح بيته الذي كان يحلم أن يورّثه لأحفاده، وطفل يبكي لأنه لا يعرف بيتا غير هذا، وعجوز ينظر إلى شجرة زرعها شابا ثم يراها تُقتلع لأنها ليست ضمن المخطط.

هذه التفاصيل التي تراها السلطة هامشا هي قلب الوطن وروحه، ومن يقتلع الناس من جذورهم سيقتلع الوطن من مستقبله.

من وعد بلفور إلى وعد السيسي.. المشهد واحد

حين صدر وعد بلفور قال الفلسطينيون إنه مجرد رسالة وإنهم باقون وإن الورق لا يغيّر الحقيقة، ثم جاء المستوطنون قليلا قليلا، واختفت الأرض قليلا قليلا، ومع الزمن صار الشعب بلا وطن والأرض بلا أهلها.

واليوم تُفرغ مناطق كاملة في مصر، وتُسلّم الشواطئ والموانئ والجزر والقرى قليلا قليلا، ويُعاد المشهد نفسه لا عبر احتلال خارجي بل عبر سلطة داخلية قررت إعادة رسم خريطة الملكية.

وإن لم ينتبه المصريون الآن قد يأتي يوم تصبح فيه مصر كفلسطين؛ أرضا محاطة بالأسوار، وشعبا محاصَرا بالمنفى، ووطنا يأكله رأس المال، وسلطة تقول: ليس لكم هنا شيء.

فبلفور أعطى وعدا من محتل لمحتل، أما السيسي فيعطي وعدا من حاكم لمحتل يرتدي زي رجال الأعمال، غير أن النتيجة واحدة: الشتات.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات بلفور السيسي مصر مصر السيسي تهجير بلفور مدونات مدونات مدونات مدونات قضايا وآراء مدونات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قلیلا قلیلا وعد بلفور

إقرأ أيضاً:

رسوم ترامب تفاقم التضخم وتربك الأسواق.. رهان اقتصادي ينقلب على الإدارة الأمريكية

دخلت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2025 محمّلة بوعود طموحة لخفض الأسعار وتعزيز القدرة على تحمل تكاليف المعيشة، فقد أظهرت نتائج الانتخابات النصفية السابقة أن التضخم وضغط النفقات يمثلان أولويات الناخب الأمريكي، ما منح الديمقراطيين مكاسب مهمة في ولايات رئيسية.

وتعهد البيت الأبيض بإحياء الصناعة المحلية تحت شعار “أمريكا أولاً”، إلا أن الأداة الأساسية التي اعتمد عليها — التعريفات الجمركية الواسعة — كانت بطبيعتها تتعارض مع الهدف نفسه، إذ إن السياسات الحمائية تؤدي تقليدياً إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وأسعار المستهلكين.

مداهمات تشل شارلوت.. فوضى واحتجاز أمريكيين في حملة لسلطات الأمن والهجرة بنورث كارولايناملفات إبستين تهز واشنطن.. رسائل جديدة تضع ترامب في مرمى الانتقادات

ووفقا لموقع بيزنس انسايدر فإن التناقض الذي يبدو واضحا، جعل من تلك السياسات وصفة مؤكدة لإثارة الغضب الشعبي.

الرسوم الجمركية

في مطلع 2025 أعلنت الإدارة الأمريكية عن حزمة واسعة من الرسوم الجمركية، وُصفت بأنها الأكثر حدة منذ عقود. شملت: 20% على جميع الواردات الصينية و25% على الواردات من كندا والمكسيك الخارجة عن USMCA و25% على واردات الصلب والألمنيوم والسيارات و10% تعريفات “تبادلية” أساسية على جميع دول العالم و50% رسوماً انتقامية على واردات من دول مثل البرازيل والهند

ولم تُبنَ هذه الرسوم على اعتبارات اقتصادية خالصة، بل جاءت في كثير من الأحيان كرد فعل سياسي، ما حول التعريفات من أداة حماية إلى أداة عقابية تفتقر إلى الاتساق.

ومع اقتصاد يعتمد على سلاسل توريد عالمية شديدة التشابك، أدّى هذا التوسع الواسع إلى زيادة مباشرة في تكاليف الإنتاج وارتفاع التضخم، وهو عكس الهدف المعلن للإدارة بخفض أسعار السلع، وفقا لما أشار إليه موقع بيزنس انسايدر.

رأت مؤسسات مالية أن نطاق التعريفات الجديدة يذكّر بسياسات قانون سموت–هاولي لعام 1930، الذي تسببت رسومه المرتفعة في موجة ردود فعل انتقامية عالمية فاقمت الكساد الكبير

ميزانية غير مدروسة

كما قارن خبراء الخطوة بقرارات ليز تراس في بريطانيا عام 2022، حين أدى الإعلان عن “ميزانية راديكالية” غير مدروسة إلى انهيار ثقة الأسواق، وتراجع الجنيه، وأزمة سندات، انتهت بسقوط حكومة تراس في 49 يوماً.

وأشار اقتصاديون إلى أن الإدارة الأمريكية بدت وكأنها تتجاهل هذه الدروس بفرض سياسات عالية المخاطر وغير متوقعة قد تثير أزمة مشابهة — ولكن في سوق الأسهم الأمريكية هذه المرة.

تآكل ثقة المستثمرين 

لم يقتصر الأثر السلبي للتعريفات على المستهلكين؛ بل إن التقلب المفرط في السياسة التجارية دمّر ثقة المستثمرين.
تعتمد مشاريع إعادة توطين الصناعة (Reshoring) على استثمارات بمليارات الدولارات تتطلب استقراراً سياسياً وتنظيمياً طويل الأمد. لكن سلسلة التراجعات السريعة والقرارات المفاجئة جعلت بيئة الاستثمار شديدة الخطورة وغير قابلة للتنبؤ، ما أوقف أي مكاسب محتملة من التعريفات.

 فشل تحمل التكاليف

ركّزت الإدارة على حرب الرسوم الجمركية بدلاً من التصدي للقضايا البنيوية التي تُرهق الأسرة الأمريكية: الإسكان ورعاية الأطفال والصحة والتعليم، وهي عوامل تشكل الجزء الأكبر من نفقات الأسرة.
حتى مع انخفاض أسعار بعض السلع أو المواد الخام، فإن هذه التكاليف الثابتة تُبقي شعور الناخب بـ “الأزمة المعيشية” قائماً.

توتر بين البيت الأبيض والاحتياطي الفيدرالي

أدت السياسات الجمركية إلى خلق حالة من “حرب الرسائل” بين الإدارة والاحتياطي الفيدرالي.

فبينما كان البيت الأبيض يضغط لخفض الفائدة لدعم الاستثمار المحلي، كان البنك المركزي يخفض الفائدة لأسباب مختلفة: وهي ضعف سوق العمل وليس تراجع التضخم، الذي ظل مرتفعاً بفعل الرسوم الجمركية.

هذه الازدواجية خلقت تناقضاً خطيراً بين سياسة مالية تضخمية وسياسة نقدية توسعية، ما يضع الفيدرالي أمام خيارات مكلفة، إما دعم التوظيف وتعميق موجة التضخم، أو كبح التضخم على حساب الدخول في ركود.

وفي تحليله، أكد موقع بيزنس انسايدر أن الرسوم الجمركية  لم تُحدث "نهضة صناعية”، ولم تُخفّض الأسعار، ولم تُعِد الثقة إلى الناخبين، بل تسببت في ارتفاع الأسعار، وتراجع الاستثمار، وتعميق الغضب الشعبي — مما يجعلها أحد أكبر الأخطاء الاقتصادية للإدارة خلال ولايتها الثانية.
 

طباعة شارك دونالد ترامب البيت الأبيض الرسوم الجمركية ليز تراس السياسات الجمركية

مقالات مشابهة

  • النائب عادل زيدان: الرئيس السيسي عودنا على سماع نبض الشارع ووقوفه مع شعبه وقت الإنجازات
  • الرئيس السيسي: أنا جيت في وقت كل حاجة كانت على الأرض
  • أحمد موسى: الرئيس السيسي استلم البلد وكانت كل حاجة على الأرض
  • الرئيس السيسي لشباب أكاديمية الشرطة: دوري جاء والفن والقيم والتعليم والاقتصاد على الأرض| فيديو
  • الرئيس السيسي: أنا جيت في وقت كانت فيه كل حاجة على الأرض
  • أفراح نوفمبر
  • رسوم ترامب تفاقم التضخم وتربك الأسواق.. رهان اقتصادي ينقلب على الإدارة الأمريكية
  • منحة استثنائية لأصحاب المعاشات.. المحكمة تفصل في الدعوى
  • أحمد موسى: الإخوان مسحوا بالعوا الأرض بعد شهادته.. والجماعة كفّرته لأنه قال كلمة حق