عربي21:
2025-12-05@21:11:26 GMT

أفكار حول الجذور العميقة للأزمة السياسية البنيوية

تاريخ النشر: 5th, December 2025 GMT

كثيرا ما تُتّهم السلطات في العالم العربي بأنها ترفض التعددية والقبول بالاختلاف وبالتضييق على الأجسام الوسيطة الممثلة للإرادة الشعبية والتي ترفض القبول بدور الأجسام الوظيفية، بل إنها لا تعترف بشرعية تلك الأجسام فتتعامل معها باعتبارها خطرا على "الوطن/الأمة" لا على النظام فحسب. وهو اتهام يجد في الوقائع التاريخية والمعيشة ما يمنح القائلين به حججا صلبة سواء قبل "الربيع العربي" أو بعد انتكاسته.



وليس يعنينا في هذا المقال تحليل الفلسفة السياسية "المُهجّنة" لتلك السلطات -بالمعنى السلبي للهجنة وليس بمعناها الإيجابي في الدراسات ما بعد الاستعمارية- بل مقصدنا هو المحاججة على أنّ الأزمة ليست سياسية في جوهرها، بل هي أزمة ثقافية/قيمية، وهي بالتالي ليست مجرد أزمة عرضية في ثقافة السلطة/الحكم، بل هي أزمة في بنية الثقافة التراثية ذاتها وفي كل السرديات التي علمنتها دون أن تنجح في تجاوزها جدليا، وهو ما يجعل من أي "معارضة" للسلطة مجرد مشروع متخيل للإصلاح وللتحرير؛ سرعان ما يتحول واقعيا إلى مشروع استبدادي جديد تهيمن عليه أقليات دينية أو أيديولوجية أو عسكرية أو قبلية أو جهوية كما هو معلومٌ من استقراء واقع السلطات العربية.

في المجتمعات التقليدية -أي مجتمعات ما قبل المواطنة- كان الفرد لا يحضر في الفضاء العام ولا يعامل فيه باعتباره هوية ذاتية، بل باعتباره جزءا من هوية جماعية دينية. وكانت حقوقه وواجباته تتحدد بناء على ذلك الانتماء بصرف النظر عن موقفه الشخصي منه، كما كانت الانتظارات الاجتماعية منه -سواء من لدن السلطة أو من لدن جماعته الدينية- هي ما يُشكّل نسق ذاته فيكون كل انحراف عن تلك الانتظارات مؤذنا بالوصم الديني أو بالعقوبات السلطوية. ولكن ثقافة "المواطنة" -على الأقل في المستوى النظري- تفترض حصول تغييرات جوهرية في النسق الثقافي التقليدي وفي أبنيته الموضوعية، وهو أمر لا يبدو أنه قد حصل بصورة كافية تجعل من الخطابات الإصلاحية/التحديثية تتجاوز الدعوى حتى في أكثرها انتقادا لذلك النسق. ولذلك فإن انهدام الأطر الاجتماعية والاقتصادية التقليدية وتغيير الأنظمة التشريعية وظهور نخب جديدة غير تقليدية، كل ذلك لم يكن يعني الخروج من "الاستعارة الرعوية" وما يسندها من أنساق فكرية وأنماط مخيالية، بل كان يعني أساسا علمنة تلك الاستعارة وتغيير مركز الثقل فيها -أي المركز البشري- ببناء سرديات "رعوية" مرتبطة بأقليات دينية وأيديولوجية وجهوية وعسكرية وقبلية حاولت تأسيس شرعيتها على سرديات تراثية أو غربية من جهة أولى، وادعاء تمثيل الجسد الاجتماعي برمته -لا فقط تمثيل المصالح المادية والرمزية للأقليات التي تنتمي إليها- من جهة ثانية.

في تونس، كانت الدولة-الأمة على النمط البورقيبي مشروعا "تحديثيا" تحرريا جامعا في الظاهر، ولكنها كانت في جوهرها دولة استعمار جديد، أو دولة الاستعمار غير المباشر. كان خطاب السلطة ونخبها خطابا وطنيا ولكن خيارات النظام كانت خيارات جهوية-ريعية-زبونية لا علاقة لها بمكونات الوطن بجميع فئاته وجهاته. ورغم افتتان الراحل بورقيبة بالفكر الغربي وباللائكية الفرنسية والتنوير.. الخ، فإنه قد اختار أن "يُتَونس" الغرب بصورة تكرس الاستبداد الشرقي في صيغة شبه معلمنة شبه دينية. أما من جهة علاقته بالفكر الديني، فإن بورقيبة قد أراد أن يُظهر نفسه أصوليا "مقاصديا" في مستوى التشريع، وهو في الحقيقة مجرد مترجم سيئ للتشريع الفرنسي وجذوره اليهو-مسيحية.

ولعل أكبر دليل على فشل التحديث البورقيبي -في مستوى الأبنية الذهنية قبل المستوى الواقعي- هو أن "الزعيم" الذي قاد مشروعا لمحاربة الفكر التراثي قد حوّل نفسه إلى "شيخ" وحوّل أتباعه إلى "مريدين". وهو ما جعل الدولة بمختلف أجهزتها مجرد "زاوية/ خانقاه" كبيرة تسبّح بحمد الزعيم وتنفذ "توجيهاته" وتفسر خطاباته وتبرر سياساته حتى عندما تكون متناقضة، كما جعل عملية "التوريث" أو انتقال السلطة محصورة في الدائرة المقرّبة جهويا/أيديولوجيا من "الشيخ-الزعيم".

إن "الزعيم/الشيخ" لا يخطئ، وهو رئيس في الظاهر -رئيس للدولة مدى الحياة مثلما أن الشيخ شيخٌ للزاوية ما بقي حيا- ولكنه رئيس لم يستطع أن يقمع الشيخ فيه، فبنى ضريحه/مزاره ليتحول إلى رمز شبه-ديني عند أتباعه، كما تحولت سرديته إلى سردية شبه مقدسة بحيث يكون انتقادها مهددا للوحدة الوطنية ومفضيا إلى الوصم السياسي بالتطرف أو اللاوطنية.

ورغم أن بورقيبة لم يبرر حكمه بمنطق "الإرادة الإلهية" بل بمنطق النضال والاستحقاق، فإن الاستعارة الرعوية ظلت ملازمة لمنطق الحكم. فبورقيبة ليس راعيا، ولكنه أب لكل التونسيين، ولا يمكن للأبناء التمرد على أبيهم أو إنكار سلطته مدى الحياة، وهو ما يجعل من أي انتقاد له يتجاوز -من منظور السلطة- مستوى المعارضة إلى مستوى "العقوق"، خاصة عندما يكون "الشعب" بالنسبة للزعيم مجرد "ذرات بشرية" -كما أعلن هو نفسه- قبل أن يُشكّل منهم أمةً.

إن خطاب الدولة-الأمة هو خطاب علماني في مفرداته، ولكنه خطاب ديني/تراثي في بنيته العميقة. فالزعيم هو "الراعي" (والراعي وحده من يملك الحقيقة ويعرف مصلحة رعيته)، وهو "الأب" (والأب سلطة مقدسة لا تقبل المعارضة والتمرد)، وهو "صانع الأمة" (مما يجعل "الأمة" محكومة بـ"دَين أبدي" لا يمكنها تسديده إلا بالطاعة المطلقة). وإذا كان الخطاب الديني ينكر إمكانية أي "نجاة" أو "خلاص" من خارج "الدين الصحيح" و"الفرقة الناجية"، فإن خطاب الدولة الأمة ينكر هو الآخر إمكانية "الخلاص" (بعد علمنة المفهوم وحصره في "عملية التحديث") خارج خيارات "الزعيم".

رغم ضمور المعجم الديني عند أغلب النخب السلطوية والمعارضة على حد سواء، فإن عمليتي التحديث والعلمنة التي قادتها أقليات دينية وغير دينية لم تكونا في جوهرهما إلا استصحابا لروح المعجم الديني التراثي، لا المعجم الديني القرآني، كما لم تكونا إلا تشويها للمعجم الفكري الحديث حتى تحولت أغلب مفاهيمه إلى مفاهيم سيئة السمعة على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري. فإرادة الله لم تخرج من التاريخ، ولكنها تعلمنت لتصبح هي "الإرادة الشعبية" أو "الحتمية التاريخية" أو "الواجب الوطني" أو "الإنقاذ" أو "التصحيح" "التحرير" أو "اللحاق بركب الدول المتقدمة" أو مقاومة "الرجعية والظلامية".. الخ. ولا شك عندنا في أننا أمام بدائل معلمنة للإرادة الإلهية، وأمام تخليق زائف لجوهر السلطة اللا شعبي واللا شرعي. وهي في تقديرنا بدائل تحتاجها "الأقليات" لبناء شرعيتها وللتغطية على دورها الحقيقي في أنظمة سايكس-بيكو، خاصة في هذه اللحظة المتصهينة للإمبريالية. ولكن هل تمتلك "المعارضات" فعلا مشاريع مختلفة عن مشاريع السلطات القائمة؟ وهل تخلص زعماء تلك المعارضات من الشيخ-الزعيم الذي لم يفارق أي حاكم مهما تعملن خطابه؟

إن الإجابة عن هذا السؤال بالنفي أو الإثبات تحتاج إلى مجهودات نظرية تتجاوز الفرد، ولكن تلك المجهودات يمكن أن تستأنس ببعض الأسئلة التوجيهية التي قد تساعد على تحييد الانحيازات التوكيدية للمشتغلين عليها. فهل تخلصت الثقافة العربية من منطق أحادية الحق؟ هل تتعامل النخب -بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية- مع من تتوجه إليهم باعتبارهم مشاريع مواطنة أم باعتبارهم مشاريع رعايا؟ كيف يمكن بناء "مواطنة" دنيوية في ثقافة تضيق أخراها بجميع المختلفين دينيا، بل هي تضيق باثنتين وسبعين فرقةً من المنتمين إلى تراثها الديني ذاته وترمي بهم في النار؟ هل إن المعارضة هي معارضة لمنظومة الاستعمار الداخلي، أم هي في جوهرها معارضة لواجهاتها السياسية ورغبة في الاعتراف بها ضمن "الوكلاء المعتمدين" في أنظمة الاستعمار الداخلي؟ هل إن كيانات سايكس-بيكو أو ما يُسمّى بالدول الوطنية هي سقف ممكن للتحرر أم إنها عائق بنيوي يحول دونه؟ هل إن أصحاب السرديات الكبرى يستطيعون بناء مشروع تحرري جامع، والحال أن علة وجودهم ذاتها ترتبط نظريا بصراعاتهم الهوياتية وبمنطق التنافي والإلغاء المتبادل، وترتبط واقعيا بما يقدمونه من خدمات لأنظمة الاستعمار الداخلي أو بما يمثلونه من خطر استراتيجي على وجودها ذاته؟

إنها أسئلة تتجاوز المستوى السياسوي الصرف، ولكنها تُمثل -في تقديرنا- شرط انبثاق حقل سياسي أساس فاعليته النقد المزدوج للفكر/المخيال التراثي من جهة، وللتعريب المشوَّه/ المشوِّه للأنساق الفكرية الغربية من جهة أخرى.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء تونس بورقيبة تونس بورقيبة ايديولوجي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من جهة

إقرأ أيضاً:

عاجل | الأزهر: اللجوء إلى «البشعَة» جريمة دينية وإنسانية ودجل وكهانة ومُحرمة شرعًا

أكد مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، أن اللجوء إلى «البشعَة» جريمة دينية وإنسانية ودجل وكهانة ومُحرمة شرعًا، موضحًا أن الإسلام أقام منظومة العدل على قواعد ثابتة تحفظ الحقوق وتصون الكرامة.

وقال إن الإسلام نهى عن كل وسيلة تُهين الإنسان أو تظلمه أو تُعرِّضه للضرر، ومن أخطر هذه الوسائل ما يعرف بـ«البَشِعَة»، التي هي ممارسة قائمة على الإكراه والإذلال، ولا تمتّ إلى القضاء ولا إلى البينات الشرعية بصلة، بل هي من بقايا الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها.

وأوضح أن «البشعة» كهانة وادعاء لمعرفة الغيب، تُشبِه ما كان يفعله أهل الجاهلية من الاستقسام بالأزلام، الذي قال المولى سبحانه عنه: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]، فهي باب من أبواب الفساد والباطل، يحرم العمل به والتحاكم إليه.

وتحمل «البشعَة» في طياتها أشكالًا من التعذيب البدني والنفسي، ففيها إذلال وتخويف، وتعذيب بالنار، الذي قال عنه سيدنا النبي ﷺ: «إنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بهَا إلَّا اللَّهُ» [أخرجه البخاري]، وقال أيضا ﷺ: «إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ في الدُّنْيَا» [أخرجه مسلم]، وفيها تمثيل بالإنسان الذي كرمه الحق سبحانه، وقد «نَهى النبيُّ ﷺ عَنِ النُّهْبى والمُثْلَةِ» [أخرجه البخاري]، وفي المثول لخرافة البشعة وصمٌ يلازم من تعرض لها طوال حياته، حتى وإن ثبتت براءته لاحقًا، فتترك بذلك أثرًا وألمًا نفسيًّا واجتماعيًّا -يسبق هذه الممارسة ويتبعها- يعيق حياته ويشوّه سمعته، سيما مع ما فيها من اتساع دوائر العقوبة للمشتبه فيهم دون بينة أو دليل، بما يخالف قواعد الشرع والقانون.

وأغلق الشرع أبواب الخرافة في إثبات الحقوق، ومنع وسائلها التي تُستخدم في الابتزاز والترهيب والتلاعب بمصائر الناس، وجعل مرجع الفصل في الخصومات هو البينة لا الادعاء، صيانةً لكرامة الناس وحقوقهم، فقال سيدنا النبي ﷺ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» [متفق عليه]، وعند الترمذي، قال سيدنا ﷺ: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ».

كما أن طرق الإثبات في الشرع محددة ومنضبطة، وممارسة «البشعة» ليست مجرد خطأ، بل جريمة شرعية وإنسانية، لما تشتمل عليه من الإكراه، والإيذاء الجسدي والنفسي، واستغلال الضعفاء، والتعدي على اختصاص القضاء، والإضرار بالأبرياء، وقد قال ﷺ: «لا ضَررَ ولا ضِرَار». [أخرجه الحاكم]

▪️ لا يجوز التحاكم إلى «البشعة»، والعمل فيها، وإكراه أحد الناس عليها، ولا الاعتداد بنتائجها، بل الواجب ردُّ النزاعات إلى القضاء المختص، حيث البينات، والإجراءات العادلة، وصونُ الحقوق بعيدًا عن أساليب الترهيب والابتزاز.

وبما أن «البشعة» ممارسة محرمة، فإنه لا يجوز نشر المقاطع أو الصور أو الأخبار المروجة لها، لما يسببه من إحياء للعادات الجاهلية، وإشاعةٍ للباطل، وتعدٍّ على كرامة الإنسان، وإذكاءِ الفتنة والنزاعات في المجتمع، فضلًا عن كونه تشويهًا للوعي وهبوطًا بالذوق العام.

واللهَ نسأل أن يهدينا سبل الرشاد والسداد، وأن يمنَّ علينا بالعافية في الدين والدنيا والآخرة.

اقرأ أيضاًدور الأزهر الشريف في صيانة الشرع والمجتمع

بعد موافقة مجلس النواب.. تفاصيل قانون تنظيم الفتوى الجديد 2025

مقالات مشابهة

  • عاجل | الأزهر: اللجوء إلى «البشعَة» جريمة دينية وإنسانية ودجل وكهانة ومُحرمة شرعًا
  • الأزهر: البشعة جريمة دينية وإنسانية ودجل وكهانة مُحرم شرعاً
  • مشاورات موسعة بين القوى السياسية المعارضة بتونس.. محامون يصعدون
  • أبرزها محاربة السرطان .. فوائد متعرفهاش عن زيت السمسم
  • غذاء لا غنى عنه للنساء.. 5 أفكار مبدعة للاستمتاع بتناول البروكلي
  • روبيو: ترامب الزعيم الوحيد القادر على إنهاء “أزمة السودان”
  • خطوة روسية – أمريكية نحو حل سلمي للأزمة الأوكرانية
  • برج العقرب.. حظك اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025.. طرح أفكار مبتكرة
  • روبيو: ترامب الزعيم الوحيد القادر على إنهاء "أزمة السودان"