لجريدة عمان:
2025-05-27@21:42:59 GMT

المشروع الفكري لطه حسين (1) رؤية نقدية

تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT

مر الآن نصف قرن على وفاة طه حسين عميد الأدب العربي، ولم ينل حقه كاملًا من البحث والنظر؛ فما زالت كتاباته تحتمل الكثير من البحوث والدراسات. ولا شك في أن الملمح الأساسي البارز في كتابات طه حسين هو لغته نفسها التي لا ينافسه فيها منافس، ولا يدنو منها أحد؛ فهي تتسم بطابع من التفرد، يجعلنا نتعرف على أسلوبه الخاص بمجرد أن نسمع أو نقرأ فقرة واحدة مما كتب، وإن لم تأت منسوبة إليه.

وهذا شأن كل أديب عظيم؛ لأن الأديب الحق هو أسلوبه الخاص، وقد تميز أسلوبه بجمالياته الصوتية التي تجعل المعنى أو الفكر يتسلل إلينا ويصبح له قوة إقناعية لا تنفصل عن اللغة التي قيل بها. ولا أظن أن واحدًا- وأنا منهم- لم يفتنه أسلوب طه حسين.

على أن طه حسين ليس مجرد أديب مبدع صاحب أسلوب خاص، ولا هو مجرد ناقد مجدد، وباعث لحركة النقد الحديث، وإنما هو أيضًا مفكر صاحب مشروع فكري خاص أثار ولا يزال يثير جدالًا فكريًّا حول أصالته ومرجعيته وجدواه. وبطبيعة الحال، فليس بوسعنا في هذه العجالة أن نلم بأطراف فكر طه حسين أو جوانبه العديدة التي لا يمكن الإحاطة بها إلا من خلال دراسات مسهبة، وإنما يمكننا فقط أن نحاول الوقوف على السمة الأساسية المميزة لهذا الفكر أو- بمعنى أدق- الوقوف على ما يحرك هذا الفكر ويشكل منطلقاته في كل منحى من مناحيه. وفي هذا الصدد يمكنني القول إن فكر طه حسين ينبع من مرجعية الفكر الأوروبي الحديث وريث الحضارة اليونانية باعتبار أن هذا الفكر هو المعيار أو النموذج الذي يُقاس عليه، وهذا ما يُعرَف بمبدأ «المقايسة» في الثقافة العربية الحديثة. وليس بوسعي ضرب الأمثلة على هذا عبر كل مناحي فكر طه حسين، وإنما سأكتفي بتتبع ذلك عبر مثالين متباينين تمامًا، أحدهما يتعلق برؤيته أو تفسيره لتراث الحكم في الإسلام، والآخر يتعلق برؤيته للتعليم ولمستقبل الثقافة في مصر.

فيما يتعلق بالمثال الأول، يمكننا الرجوع إلى كتابه «الفتنة الكبرى». وهنا سنجد تأكيدًا صريحًا على أن الفتنة التي حدثت والتي لا تزال متواصلة إلى يومنا هذا، هي فتنة كانت لا بد أن تحدث؛ لأن نظام الحكم القائم على الشورى كان مناقضًا لنظام الحكم الديموقراطي (ويجب أن نضع هنا بين قوسين نموذج الديموقراطية الأثينية في ذهن طه حسين). هذا ما ذهب إليه طه حسين في الجزء الأول من كتابه «الفتنة الكبرى» الذي كرسه للخليفة عثمان، إذ يقول صراحةً: «فليس من شك في أن نظام الحكم في الصدر الأول من حياة المسلمين لم يكن ديمقراطيًّا، فالشعب لم يكن يختار حكامه بهذا المعنى الدقيق.. الذي يُختَار عليه الحكام في النظام الديمقراطي» («الفتنة الكبرى- عثمان»، ص. 28-29). وفحوى رؤية طه حسين هنا أن نظام الحكم الذي تأسس في صدر الإسلام هو حكم ومشورة الطبقة المميزة القريبة من النبي أو التي أحبها النبي. ومن هنا نشأت طبقة أرستقراطية، وشاعت أقوال من قبيل: «منا أمير ومنكم أمير»، «والأئمة من قريش»، بل إن النبي الكريم قال للأنصار: «نحن الأمراء وأنتم الوزراء». وهكذا رأى طه حسين أن نظام الحكم في الإسلام قد تأسس على أرستقراطية قوامها القرب من رسول الله، يُتوخى فيها إقامة العدل والأمر بالمعروف، وهو نظام كان معرضًا للزوال بطبيعته.

وعلى الرغم من أن الجزء الأول من كتاب الفتنة الكبرى كان مكرسا لعثمان، فإن الجانب الأكبر منه كان مكرسًا لعمر رضي الله عنه، وقد رأى طه حسين أن النظام الدستوري القائم على العدل الذي كان يطمح فيه عمر كان من الممكن أن يتحقق لو امتدت خلافته، ولكنه لم يكن كافيًا ولا مقنعًا، وهو ما فطن إليه عمر بعد أن طُعِن (ص. 48). ولا شك في أن هناك انحيازًا واضحًا من جانب طه حسين لعمر في هذا الكتاب.

ولا شك في أن أطروحات طه حسين في هذا الصدد قد خلخلت كثيرًا من الثوابت في نظرتنا التي تقدس التراث الإسلامي المبكر وتراه ممتنعًا على النقد؛ ولكن ما يمكن أن يؤخذ عل طه حسين هو أن النموذج الذي يقتدي به هو نموذج الحضارة الأوروبية وريثة الحضارة اليونانية والرومانية، وهذا ما يمكن أن تبينه بوضوح حينما نتأمل موقفه من الثقافة والتعليم. وهذا هو موضوع مقالنا التالي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: طه حسین

إقرأ أيضاً:

حسين خوجلي: هل ما زال السبت كالأمس زاهياً ومخضرا؟

** أدركت أمريكا أخيرا أن هنالك ٤ ثوابت يمنية لا تستطيع أن تكسرها: الارادة والأرض والجبال والبحر فلملمت طائراتها ورحلت. وتركت اسرائيل وحيدة تعاند في ضرب هذه الثوابت، ولكن لا تجني إلا الخزي والعار والهزيمة. وتظلُ المسيرات اليمنية المباركة تدك ساحات مطار بن غوريون ستجعل منه بقعة جرداء تعافها الطائرات والمسافرين، وتجعل ملايين الاسرائليين في تل أبيب وما حولها يهرعون صباح مساء صوب الملاجئ كالجرذان المسمومة.

تقول إحدى حكايات التراث أن أميرا عربيا مستبدا خرج إلى حدائق في أطراف بغداد وكان في صحبته شاعر وفقيه لا يخشى في الحق لومة لائم وعندما جلسا للسمر والمنادمة ضربت نحلة نشطة وجه الأمير المستبد وأبت أن تفارقه برغم أنه ظل يضربها بكلتا يديه فما أن تغادر حتى تعود فقال غاضبا وقد التفت صوب الفقيه متسائلا: لم خلق الله النحل؟
فرد الفقية: في ابتسامة مطمئنة ليزل بها أنف الجبابرة.

ولكأني بنتنياهو في اجتماع مجلس الحرب يقول غاضبا لوزراء القتلة من اليمين الصهيوني لم خلق الله الصاروخ ذو الفقار اليمني؟

ياتي الجواب سريعا من المناضل والمجاهد اليمني والناطق الرسمي باسم الجيش والشعب يحيى سريع: خلق الله صاروخ ذو الفقار اليمني نحلة يذلُ بها أنف الجبابرة والقتلة والسفاحين.
** طفلة سودانية مليحة خرجت لتوها من قيد الأسرِ في الصالحة يبدو على وجهها الرهق والخوف والأسف على ساحاتٍ كانت حتى بالأمس القريب مسرحاً لتلاقي الصديقات، يمرحن في طلاقة صوب المدارس. ورغم الجوع والمهانة والثياب الرثة إلا أن كل هذه المصاعب لم تستطع أن تضيع تلك الملامح الطيبة والجمال الطبيعي الحلال.

ولكأني بها ترسلُ برقية لومٍ وعتاب للعواصم الأفريقية والعربية وتذكرهم بدمعها المسكوب، كيف تناسيتم السودان الجريح والمقتول والمغتصب والجائع؟ كيف تجاهلتم الخرطوم سيدة اللاءات الثلاثة والعون غير المحدود للثورة الجزائرية والشعب الليبي وباتريس لومبا؟ وجواز سفر مانديلا حين عزت عليه البطاقات والهويات؟ كيف تجاهلتم خرطوم حرب القنال؟ والوقوف بشرف لصالح النضال الفلسطيني والقضايا المركزية لقوى الخير والسلام في كل قارات العالم؟ كيف تناسيتم مسيراتها الحارة وتظاهراتها الصاخبة ضد الظلم والقهر والاستعمار؟
كان لسان حال الطفلة المخبوء بالمعرفة القادم يجلد أروقة الجامعة العربية، وقد حورت قليلا أغنية سيف الدسوقي بصوت الجابري الفياض من الحنين والشجن في رسائل الشوق السوداني الجهير:
مافي حتى (مسيرة) واحدة
بيها نتصبر شويه
والوعد بيناتنا انك كل يوم
(تحزن) عليا
هل يجوز (والجفوة) حارة
(بالرصاص) تبخل عليا
أما النص الحقيقي فيبقى أبدا حارا في قلوب ومناديل ودموع العشاق والمحاربين.
** مما يشدني للأدب الشعبي في مقاماته المختلفة المديح والغناء بمناحاته ونسيبه ومراثيه وحقيبته والدوبيت أن صدقه يتدفق من واقعيته وملامسته للواقع والناس والأشياء. ومما استدل به في هذا المقام أن الشاعر القومي الكبير ود شوراني كان يزور أسرةً يحبها وتحبه في إحدى البنادر، وكان الرجل يرمي بصره على واحدة من حسان الأسرة ولم يكتب له الزمان القاسي (القسمة) زارهم مرة والمكان معتكر بانقلاب عسكري وحظر التجوال شائع في التلفاز والاذاعة وفي الصحف وما يتداوله الناس. أكرموا الرجل وبدأ الأنس وهو يقرأ شعره بزهوٍ وسط الأسرة الكريمة وقد كان يفتعل (تكسير الدقايق) حتى جاوزت الساعة ميقات حظر التجوال فحمل عكازه الشهير وأحكم ثوبه وعمامته وهم بالمغادرة مودعاً فقالت له الملهمة في لطف: أن هذا زمان حظر التجوال والخروج في هذا الوقت يا شيخ العرب يعرضك للمساءلة وربما الاعتقال، وآزرها في ذلك الاهل. ظل ساهرا معهم حتى مطلع الفجر وسط تحالف الشاي النعناع والدوبيت المفصح وقد وثقها عليه الرحمة بهذا المربع:

غفر الساعة واحد حام وانا لقيت هَوّي
فوق الرمشو إجرح ونور بسيمتو يكوّي
الخلاني ما بنلام قدر ما اسوّي
خمد خيت الضلام واصبح خديدو يضوي

ترى هل مات في سودان الحزن العميم والخرطوم الأطلال بقية للشعر والفرح والغناء؟ الأجابة صعبة بعد رحيل كل المبدعين في الحضر والبوادي وفي مقدمتهم ود سند وود شوراني.

حسين خوجلي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الطاهر بن عاشور.. تأصيل مقاصدي لقيمة الحرية والمساواة في الفكر الإسلامي (3)
  • الطاهر بن عاشور.. تأصيل مقاصدي لقيمة الحرية والمساواة في الفكر الإسلامي (4)
  • السديس: الحرمين منبع الهدايات وتحصين الفكر صمام الأمان للمجتمعات
  • بين التمرد والتجريد: قراءة نقدية لمقال خالد كودي عن ظاهرة القونات
  • الاحتفال بتخريج طلبة الدمج الفكري بـ"تعليمية شمال الباطنة"
  • اتصال بين أبي المنى ودريان.. وتأكيد على عدم إيقاظ الفتنة
  • «لجام للرياضة» تعلن توزيع 8.1% أرباحاً نقدية عن الربع الأول
  • بيان مشترك من مصراتة: نرفض إشعال الفتنة ونحمّل أنصار الدبيبة مسؤولية التصعيد
  • حسين خوجلي: هل ما زال السبت كالأمس زاهياً ومخضرا؟
  • إضاءة نقدية على القصيدة العمودية المعاصرة