كلما استشارتني صديقة في أمر ما، أختم جوابي “وصلي صلاة الاستخارة” وأكثرهن يسألنني وكيف أعلم ما سأختاره، هل سأرى رؤيا هل ستبدو لي علامة؟ هل وهل.. الكثيرون يسألون نفس السؤال وكنت ممن يسألون أيضا ما أمارة الخيار الصحيح؟ والجواب بسيط تجده في طيات ذلك الدعاء المهيب التي اختيرت كلماته بعناية إلهية، ويحمل بين طياته أسرار الغيب المخفية.
لي مع هذه الصلاة تجارب، أحببتها حبا عظيما وأحمد الله أن سنها للمسلمين في كل زمان ومكان نعمة توجب علينا أن نشكر الله عليها بعدد أنفاسنا، فهي طوق النجاة عندما تبتلعني الحيرة ويؤرقني القلق، أراها مفتاحا لكل مشاكلي مهما عظمت، جلاء لكل غمامة حيرة تعتريني، كيف لا؟ وهي سنة من لا ينطق عن الهوى، هي وحي يا سادة، هي حق أجراه الله -جل في علاه- على لسان سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، هي الحق الذي لا يحتاج إلا إلى اليقين كي نراه، فالله يُدعى عن يقين لا عن تجربة.
” مفتاح الاستخارة هو اليقين، أن تضع أمرك بين يدي الله ثم ترضى بما ستؤول إليه الأمور، وكيف لا ترضى، وقد فوضت الأمر للعليم القدير للحكيم “ |
لعل من أصعب المواقف التي نمر بها جميعا أن تتعدد الخيارات وخاصة عندما تكون مصيرية، حينئذ يُحْكِم القلق قبضته على نفوسنا وتُسَاورنا الوساوس وتبدأ “ماذا لو” وغيرها من أسئلة تعكس ضعفنا الانساني؛ أتذكر أني بعد أن اجتزت سنتي الخامسة من الطب قررت بدءا ألا أجتاز مباراة “الداخلية” وأن أرتاح قليلا قبل التخصص، ثم بعد انتشار بعض الإشاعات عن احتمال عدم فتح أبواب التخصص وبعد أن نصحتني إحدى صديقاتي قررت أن أستخير الله، فتحول النفور الكبير إلى رغبة عارمة، وبعد أن كنت غير مبالية صرت حريصة وقلقة من عدم القدرة على اجتياز المباراة، ونجحت والحمد لله لتفتح لي التجربة الجديدة بابا معرفة أمور كثيرة، ما كنت لأتعلمها لو أني بقيت على قراري الأول.
كانت تجربة جديرة بأن تُخاض، فقد تعرفت فيها على أرواح طيبة لا زالت إلى الآن لا تبخل علي بالنصح والإرشاد، ثم أُشْرِع أمامي باب اختيار أصعب، أن أختار تخصصي الطبي، لم أكن محتارة بداية الأمر فقد كان مقررا منذ زمن، لكني بعد صلاة الاستخارة بدأت أتردد وأتردد، وبعد صلوات وصلوات اخترت تخصصا مختلفا كنت قد قررت في بداية “فترة الداخلية” ألا أختاره، لحجم الضغط الذي يعيشه أصحابه وظننت أن مسؤولية رعاية مرضاه أكبر من أن أستطيع تحملها، لكن تأتي الاستخارة وتقلب الموازين ويميل القلب إلى القلب، وأكتشف مع الأيام أن ما يختاره الله لنا يبقى أجمل خيار، وأفضل طريق مهما بدا صعبا أحيانا، ومهما صادفْنا فيه من مشاق، يبقى الايمان أن الله أعلى وأعلم، ومع مرور الوقت تتجلى أسرار ذلك الدعاء العجيب فما اختاره الله هو خير لك في دينك ودنياك فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
الاستخارة كنز وُضِع بين أيدينا جميعا، لا يخيب من تعرف أسراره، كيف لا؟ وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أن خير الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم -كان يعلم أصحابه -رضي الله عنهم- الاستخارة في أمورهم كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، لذا أقول لكل حائر، لكل من وقف أمام بوابة الاختيار استخر يا عزيزي ولا تجزع، لا تحمل هم المستقبل لأن -وكما قلت وسأظل أقول- ما يختاره الله لك هو الأفضل، هو الأجمل.. تأتي الاستخارة بلسما يهون عليك مصاعب اختيارك، مهما صادفت من مشاكل ومهما تعثرت وتألمت ما إن تتذكر أن ما أنت فيه هو اختيار الله لك حتى تنشرح النفس وتطمئن، تطمئن لأن الخيار الذي سلكته خير لها في دينها ومعاشها وعاقبة أمرها فأنى لها أن تحزن أو تندم؟!
مفتاح الاستخارة أيها الطيبون هو اليقين، أن تضع أمرك بين يدي الله ثم ترضى بما ستؤول إليه الأمور، وكيف لا ترضى، وقد فوضت الأمر للعليم القدير للحكيم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما، لا تنتظر رؤيا ولا علامة، اركب بحر اليقين ودع أمواجه ورياحه تأخذ مركبك إلى مرافئ الأمان التي اختارها الله لك، استنفذ كل الأسباب، بالغ في الاستشارات ودقق الحسابات أيها الطيب، ثم تَوَكَّل وإياك أن تتوَاكل وانتظر ألطاف الله ولا تقلق! فما ستنتهي إليه الأمور هو: التوفيق لما فيه فلاحك، وما سيعتريك من مشاعر هو: الرضا بما وُفِّقْت إليه.
إلى كل متقدم إلى وظيفة، إلى كل مقبل على زواج، إلى كل طالب متردد في الاختيار، إلى كل حائر أشرعت أمامه أبواب الخيارات وحار في مفترق الطرقات، تَجَرَّدْ من حولك وقوتك، وَضَعْ ملفك بين يدي الله وفوض أمرك كله إليه، تقدم ولا تلتفت، واعلم أن يد الرحمن ترعاك فالله لا يخذل من لجأ إليه، الله لا يرد يدا مدت إليه، قم يا عزيزي فأحسن الوضوء ضع سجادتك واستقبل قبلتك صل ركعتي فقير بين يدي الله ثم قل:
“اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به” وسَمِّ حاجتك، ثم انفض عن قلبك غبار الوساوس والقلق وابتسم فقد تولى الله أمرك، فهنيئا لك..
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: إلى کل
إقرأ أيضاً:
أسرار تصفية القيادات ومقتل الرئيس عبد الفتاح إسماعيل بمذبحة عدن
على امتداد أكثر من قرن، ظل جنوب اليمن خاضعا للسيطرة البريطانية، التي حولت عدن ومحيطها إلى نقطة ارتكاز محورية ضمن شبكتها الإمبراطورية العالمية، وفي ظل هذا الواقع الاستعماري الطويل، ظهرت بوادر مقاومة محلية على فترات متباعدة، لكنها بقيت مشتتة وضعيفة التأثير، ولم تنجح في تقويض النظام الاستعماري الراسخ.
بيد أن الأمور بدأت تتغير بصورة ملموسة مع حلول النصف الثاني من القرن الـ20، حين ظهرت تنظيمات سياسية مسلحة ذات توجه تحرري، أبرزها "جبهة التحرير" و"الجبهة القومية".
ومع تصاعد العمل المسلح ضد الوجود البريطاني في جنوب اليمن، وجدت بريطانيا نفسها مضطرة إلى اتخاذ قرار الانسحاب، بعد قرابة 129 عاما من الهيمنة الاستعمارية، وفي خضم هذا التحول برزت "الجبهة القومية" باعتبارها القوة السياسية والعسكرية الأبرز على الساحة.
وفي 26 سبتمبر/أيلول 1962 قامت الثورة في الشمال بقيادة عبد الله السلال ضد الملكية وإعلان الجمهورية، بمساندة مصر التي أرسلت جيشها لدعم هذه الثورة.
وتأثرًا بهذه الأحداث، قادت الجبهة القومية في اليمن الجنوبي وأنصارها بدعم من الرئيس المصري جمال عبد الناصر -بداية عام 1963- مواجهة الاستعمار البريطاني الموجود في عدن والمحميات منذ عام 1839 ودعم الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال ماديا وعسكريا وإعلاميا.
وبالفعل بدأت الجبهة القومية في تعز بقيادة قحطان الشعبي حملتها الإعلامية والعسكرية ضد بريطانيا بدعم كامل من الرئيس عبد الناصر، وافتتحت الجبهة القومية نضالها بثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1963 في جنوب اليمن كحراك شعبي مسلح ضد الاحتلال البريطاني.
وبعد سنوات من النضال والتضحيات الجسيمة، نجح الثوار في فرض واقع جديد على الأرض، توّج بإعلان الاستقلال الكامل في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، لتنتهي بذلك مرحلة استعمارية طويلة كانت قد رُسخت عبر القمع والتفكيك البنيوي للمجتمع.
إعلانوكما يذكر جوزيف كوستينر في كتابه "الصراع من أجل جنوب اليمن" فإن مرحلة ما بعد التحرير سرعان ما اتّسمت بتنازع حاد على السلطة بين الفصيلين الرئيسيين في الحركة الوطنية، "الجبهة القومية" و"جبهة التحرير".
سرعان ما تطوّر النزاع إلى مواجهات مسلحة، وانتهى الأمر بتفوق الجبهة القومية، أثناء المفاوضات التي جرت في جنيف، والتي أفضت فعليا إلى تسليمها مقاليد الحكم وتحييد منافستها.
هكذا بدأ الاستقلال في ظل هيمنة فصيل واحد، مما ألقى بظلاله على شكل الدولة الوليدة، ومهّد لمركزية حزبية صارمة ستكون سمة رئيسية للحكم في جنوب اليمن لعقود لاحقة.
وفي 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، أُعلن رسميًا عن ميلاد "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، بعد مغادرة آخر جندي بريطاني لمدينة عدن، وتسلّمت الجبهة القومية مقاليد السلطة، واختير أمينها العام قحطان محمد الشعبي رئيسا للجمهورية، ليشكل أول حكومة في الدولة الوليدة.
تولت الجبهة القومية إدارة الدولة الوليدة في جنوب اليمن عقب الاستقلال، متبنية توجها يساريا في بنيتها السياسية وخطابها الأيديولوجي، غير أن التباينات الداخلية سرعان ما تفجرت، فاندلع صراع خفي بين تيارين داخل الجبهة: أحدهما معتدل يتبنى نهجًا براغماتيا في التعاطي مع السلطة والمجتمع، والآخر راديكالي يدفع باتجاه مشروع أيديولوجي أكثر حدة.
وقد أفضى هذا الصراع إلى إقصاء الجناح المعتدل عن المشهد السياسي، حيث أُجبر كل من قحطان محمد الشعبي أول رئيس للجمهورية، وفيصل عبد اللطيف الشعبي مؤسس الجبهة القومية في اليمن وأحد أبرز قادة الاستقلال، على مغادرة السلطة في 22 يونيو/حزيران 1969.
وكما ترصد هيلين لاكنر في كتابها "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" فقد تقدَّم الجناح الراديكالي ليتصدر واجهة الحكم، مكرسا هيمنة تيار ماركسي لينيني بقيادة عبد الفتاح إسماعيل الذي تبنى فكرة "الحزب الطليعي" و"الماركسية العلمية" كمرجعية صارمة للدولة والحزب، إلى جانب الرئيس سالم ربيع علي، الذي مثل تيارا متأثرا بالنموذج الماوي الصيني، وكان يرى في البناء الريفي والتنظيم الجماعي أساسًا لشرعية النظام السياسي، مع رفضه لتركيز السلطة بيد النخبة المركزية.
بيد أن الاستقرار ظل بعيد المنال؛ فالصراع بين الرفاق بلغ ذروته بعد أقل من عقد، عندما تم الانقلاب على سالم ربيع علي وإعدامه في 26 يونيو/حزيران 1978، في واحدة من أكثر اللحظات الدامية في تاريخ الحزب.
وفي ذلك العام، أُعلن عن تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني ككيان سياسي موحّد، ليتولى عبد الفتاح إسماعيل قيادة الدولة، مُكرسا مشروعا أيديولوجيا عابرا لمرحلة التحرر الوطني نحو تجربة اشتراكية مركزية صارمة.
وفي ظل قيادة عبد الفتاح إسماعيل وتبني التوجه الماركسي الذي اتسم بجذرية وشمولية التعامل في الداخل وتوسعيةٍ في الخارج، فقد رُسخت "الاشتراكية العلمية" كإطار فكري شامل للدولة، وانعكس ذلك في سياسات التأميم الواسع لمفاصل الاقتصاد الوطني، بما شمل الصناعات الأساسية ووسائل الإنتاج، إلى جانب فرض نمط انتخابي مُوجّه حافظ على احتكار الحزب الاشتراكي للسلطة.
إعلانوبدأ النظام السياسي في الجنوب يشهد ملامح رمزية سلطوية، عبرت عنها مركزية شخصية إسماعيل في الخطاب السياسي وتزايد حضور الحزب كمرجعية شاملة للدولة والمجتمع.
وعلى الصعيد الإقليمي لم تكتفِ حكومة اليمن الجنوبي بسياسة الحياد أو حسن الجوار، بل انخرطت بنشاط في دعم الحركات الماركسية المسلحة في الخليج العربي، كان أبرزها "الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي" و"الجبهة الشعبية لتحرير عُمان".
وقد وفرت عدن دعما مباشرا لهذه الحركات، عبر التدريب والإمداد اللوجستي وتأمين مسارات لتمرير الأسلحة القادمة من دول المعسكر الشرقي، لا سيما الاتحاد السوفياتي والصين، مما جعل جنوب اليمن لاعبا أساسيا في تمرد ظفار ضد سلطنة عمان منذ منتصف ستينيات القرن الـ20 وحتى السبعينيات.
وامتد هذا النشاط الثوري إلى الساحة اليمنية الشمالية، حيث سعت القيادة الجنوبية إلى تمكين حلفائها الشيوعيين من تقويض حكم الرئيس علي عبد الله صالح، تمهيدا لإقامة وحدة يمنية بقيادة اشتراكية موحّدة، وقد خلقت هذه الإستراتيجية واقعا مشحونا في الإقليم.
وقد أفضى هذا المسار إلى إدخال جمهورية اليمن الجنوبي في حالة من العزلة الإقليمية، نتيجة لتبنيه مشروعا أمميا ثوريا لا يراعي المعادلات الجيوسياسية القائمة، وهو ما أسهم في توتر علاقاته مع دول الجوار العربي، ورسّخ صورة الدولة الثورية التي تتجاوز حدودها الجغرافية من أجل تصدير نموذجها الأيديولوجي.
وعلى المستوى الداخلي مضى الحزب في تطبيق برنامج شامل لتأميم الممتلكات الخاصة، شمل العقارات والأراضي والمؤسسات التجارية، وأُخضعت الملكية الفردية لإجراءات صارمة حدّت من نشاطها.
وقد أسفرت هذه السياسات عن إرباك المنظومة الإنتاجية المحلية، وتفكيك أنماط اقتصادية تقليدية دون أن يتم تعويضها بمشاريع بديلة قادرة على استيعاب الطاقات البشرية وتوفير فرص عمل جديدة، فضلا عن مواجهة القوى المحلية التي وُصفت بالرجعية مثل شيوخ القبائل وكبار التجار والعلماء وغيرهم.
وأمام هذا الواقع وكما يقول بول دريش في كتابه "تاريخ اليمن الحديث"، فقد اضطر عدد كبير من سكان الجنوب إلى النزوح نحو الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي)، التي كانت في تلك المرحلة أكثر استقرارا على الصعيد الاقتصادي، مدفوعة بعائدات المغتربين، وبتحولات تدريجية شملت البنية التحتية، والحراك الاجتماعي، وانفتاحا نسبيا في الحياة السياسية والدينية، مقارنة بالحالة الانغلاقية التي طبعت الحياة العامة في الجنوب.
ولكل هذه الأسباب تصاعدت التحديات أمام عبد الفتاح إسماعيل بعد فشل مشروع تصدير الثورة إلى سلطنة عمان، وتزايد التوتر مع صنعاء، مما أسهم في إضعاف موقعه داخل الحزب، وفقدانه دعم تيار كبير من أنصاره، كما بدأت موسكو -الحليف الرئيسي لعدن وقتئذ- في مراجعة دعمها له، مفضّلة الدفع بعناصر أقل تشددا وأكثر انسجاما مع مصالحها الإقليمية في ظل احتدام الصراع داخل القيادة الجنوبية.
وتحت ضغط داخلي من أطراف بارزة في الحزب، أبرزها علي ناصر محمد وعلي عنتر وصالح مصلح، وبفعل مخاوف من تعرضه لمحاولة اغتيال، اضطر إسماعيل إلى الاستقالة في أبريل/نيسان 1980، وغادر إلى موسكو، منهيا بذلك مرحلة من الحكم اتسمت بالتصلب العقائدي والعزلة السياسية.
وقد خلفه في السلطة علي ناصر محمد، الذي تبنّى نهجا أكثر اعتدالا، وحرص على إعادة تطبيع العلاقات مع دول الجوار ومع القوى الدولية، وتميّزت سياساته بالبراغماتية، وابتعدت عن الخط الثوري الراديكالي.
إعلانإلا أن هذا التحول لم يُنه الصراع داخل الحزب، فقد استمر الاستقطاب بين أنصار إسماعيل، الذين تمسكوا بالنموذج الثوري الصارم، وجناح علي ناصر الذي سعى إلى إعادة توجيه السياسة الداخلية نحو الانفتاح، مما مهّد الطريق لانفجار سياسي كبير تمثل في أحداث 13 يناير/كانون الثاني 1986، التي دخلت التاريخ كأحد أكثر الفصول دموية وتعقيدا في تاريخ اليمن الجنوبي.
وبعد توليه السلطة لـ5 سنوات دون شريك، دخل علي ناصر محمد في مواجهة غير معلنة مع تيارات وشخصيات داخل الحزب الاشتراكي، أبدت اعتراضها على سياساته وأسلوب إدارته للدولة، وفي محاولة لامتصاص التوتر المتصاعد داخل الحزب، وافق في منتصف عام 1984 على عودة عبد الفتاح إسماعيل من منفاه، وهي العودة التي تحققت في فبراير/شباط من العام التالي.
ومع انعقاد المؤتمر الثالث للحزب في أكتوبر/تشرين الأول 1985، نجح التيار المناوئ لعلي ناصر في فرض صيغة تقاسم للسلطة، اضطر معها إلى التنازل عن قيادة المكتب السياسي لمصلحة خصومه، محتفظا بعضوية اللجنة المركزية، وفي يونيو/حزيران 1985 أقر الحزب منع اللجوء إلى العنف لتسوية الخلافات الداخلية، معتبرا من يفعل ذلك خارجا على القانون.
لكن هذا الترتيب لم يُنهِ الأزمة بل فاقمها، فكما يرى فريد هاليداي في كتابه "الثورة والسياسة الخارجية: حالة جنوب اليمن، 1967-1987″، فقد تصاعدت حدة الانقسام بين أجنحة الحزب حتى تفجرت في 13 يناير/كانون الثاني 1986، في صراع دموي عنيف داخل مدينة عدن، خلّف آلاف القتلى من القيادات والكادر الحزبي.
وقد اتسمت التصفيات خلال الأحداث بخلفيات مناطقية، وأسفرت المواجهات عن نجاة عدد من القيادات مثل علي سالم البيض، وحيدر أبو بكر العطاس، وسالم صالح محمد، الذين حافظوا على مواقعهم في مرحلة ما بعد الحرب.
من قتل عبد الفتاح إسماعيل؟في 13 يناير/كانون الثاني عام 1986، أقدم الحراس الشخصيون للرئيس علي ناصر محمد على إطلاق النار داخل اجتماع للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، مستهدفين عددا من أبرز القيادات.
وقد أدى ذلك إلى اندلاع اشتباك مسلح فوري، إذ كان أغلب الحضور من قيادات الحزب يحملون السلاح ويحيط بهم حراسهم في ظل أجواء توتر داخلي متصاعد منذ شهور، ومن المفارقة أن علي ناصر وأنصاره لم يكونوا في قاعة الاجتماع لحظة اندلاع الهجوم، ما أثار كثيرا من التكهنات حول دوافع العملية وتوقيتها.
وقد أسفر الاشتباك الأولي عن مقتل عدد من كبار القادة، أبرزهم نائب الرئيس علي أحمد ناصر عنتر، ووزير الدفاع صالح مصلح قاسم، ورئيس دائرة الانضباط الحزبي علي شائع هادي، بينما نجا عبد الفتاح إسماعيل من الهجوم المباشر، لكنه ما لبث أن لقي مصرعه لاحقا في اليوم نفسه، على الأرجح نتيجة قصف مدفعي نفذته وحدات بحرية موالية لعلي ناصر استهدفت مواقع حيوية داخل مدينة عدن.
وتوسعت رقعة القتال بعد ذلك لتشمل معظم أرجاء عدن واستمرت المعارك لمدة 12 يوما، مخلفة حصيلة بشرية مروعة قدرت بين 4 آلاف و10 آلاف قتيل، إلى جانب دمار واسع في البنية التحتية، وقد أدى الصراع إلى الإطاحة الفعلية بعلي ناصر محمد من موقعه السياسي.
وعقب انتهاء المواجهات، فرّ ما يقرب من 60 ألف شخص من أنصار علي ناصر محمد، يتقدمهم هو شخصيا، نحو جمهورية اليمن الشمالي، حيث حصلوا على دعم سياسي ولوجستي، وطُويت صفحة دامية من تاريخ الحزب.
وبرز على إثرها علي سالم البيض بوصفه أحد القيادات القليلة من تيار عبد الفتاح إسماعيل التي نجت من المجزرة، ليصبح لاحقا شخصية محورية في مسار جنوب اليمن السياسي، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب وحتى الوحدة اليمنية.
وفي عام 2021 أدلى حيدر أبو بكر العطاس آخر رئيس لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، بتصريحات إعلامية هي الأولى من نوعها منذ عقود، ألمح فيها إلى تورط الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني علي سالم البيض في الأحداث الدامية التي شهدها الجنوب في 13 يناير/كانون الثاني 1986.
إذ قال العطاس بشكل غير مباشر إن عبد الفتاح إسماعيل، أحد أبرز قادة الحزب ومهندسي مشروعه الأيديولوجي، قد تم استدراجه إلى موقع تصفيته من قبل بعض قيادات الحزب.
وأوضح العطاس في حديثه أن "علي سالم البيض وبعض الإخوان" كانوا طرفا فاعلا في إرسال عبد الفتاح إلى مكان وجوده وقت مقتله، دون أن يوضح ما إذا كان ذلك قد جرى عن علم منهم بما سيحدث أو بتنسيق مسبق مع طرف آخر.
إعلانوقد اعتبر متابعون أن هذه الإشارة، وإن جاءت بلغة تلميحية، تمثل تحولا في رواية أحد أبرز شهود تلك المرحلة الحساسة، التي طالت تداعياتها المشهد السياسي في اليمن لعقود لاحقة.
وفي أغسطس/آب 2022 قام برنامج المتحري الذي تنتجه الجزيرة بعمل حلقة استقصائية شاملة عن أحداث 13 يناير/كانون الثاني 1986 الدموية، وأثبت من خلال العديد من شهود العيان أن الأمر كان مدبرا ومخططا له، واستُدرج فيه عبد الفتاح إسماعيل وعدد كبير من قيادات الحزب في فخ ليتم التخلص منهم.
واتهم بعض شهود عيان -منهم الصحفي والمؤرخ سعيد الجناحي- 3 بأنهم وراء الاغتيال، وهم علي سالم البيض وسعيد صالح وسالم صالح.