هل تعرف ما معنى أن يرث المرء مفتاحا؟ أن يُختصر ميراث المرء وماضيه وذكرياته بمفتاح فحسب!

قدرُ كثيرٍ من الشعوب المظلومة محكوم بالتهجير والتشريد، ويدرك مَن عاين ذلك أنّ للأمر تَبعاتٍ لا تتوقف عند اللحظة التي يعيشها المرء باحثا فيها عن مأوى حقيقي وآمن ودافئ، بل يتعدّاه إلى البحث عن الهويّة الضائعة والنَّفس التائهة المتعثّرة في جنبات الحياة تطلّعا وتشوفا نحو انتماء يلم شعث المرء ويسكن فؤاده، فالروح دوما تواقة إلى السَّكن والاستقرار.

وإنّ التهجير والتشريد والإخراج من الديار هو المعادل الموضوعي للموت وخروج الروح من الجسد كما بيّن الله تعالى في سورة النساء: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ".

لطالما كان الأدب حضنا دافئا للقلم الجريح والألم العبقري، يلوذ به فرسان اليراع للتخفّف من أعباء الحياة بالحديث عنها وتصويرها، فتبوح النفوس الشفيفة معتلية صهوة القلم، معرّية صفحة الزمان مسقطة عنها قناع الحياة المزركش بالآمال والآلام على حد سواء.

ماذا تعرف عن أدب اللجوء؟ 

في سياق أدب اللجوء تتشعب خطوط الشتات، فالتغريبة الفلسطينية حاكت أوتار الإبداع الأدبي بلا منافس! وتلتها بعد سنوات طويلة التغريبة العراقية فالسورية وغيرها… في أدب اللجوء تُكشف مواطن العَور، وتطفو الأخلاق الزائفة على سطح التجربة والمأساة، وتتبلور حرية الفكر والتعبير تمردا على الاستبداد والاحتلال والقمع والتهجير، فتغدو الكلمة سيفا!.

ومن الروايات المميزة التي تحدثت عن اللجوء الفلسطيني على سبيل الذكر لا الحصر، رواية للكاتب الروائي الفلسطيني علي الكردي بعنوان "قصر شمعايا" التي تجري أحداثها في حارات دمشق وأزقتها، بل في حارة اليهود تحديدا. أما أدب اللجوء أو النزوح –إذا جاز التعبير- على الجهة السورية فقد اشتعلت جذوته بعد سنة 1967 أي بعد النزوح من أرض الجولان السورية، فرواية "عجوز البحيرة" للروائي تيسير خلف تحدثت عن قصة النزوح السوري والفلسطيني من الجولان، فقد اضطر نحو مئة 130 ألفا من أبناء الجولان إلى ترك مرابعهم وحمل لواء الهجرة والتهجير لأجيال لاحقة.

عند الحديث عن حكايات اللجوء في الأدب فإن أول ما يتبادر إلى ذهننا كتابات غسان كنفاني الذي صوّر المعاناة الفلسطينية في أعماله الأدبية تصويرا دقيقا، وجعل من حرفه وكلماته معولا يقتلع اليأس من نفوس قُرائه، ويحثّ الفلسطينيين على التمرد والنهوض من جديد، وهذا ما نجده في روايته البديعة "رجال في الشمس" التي اختتمها بقوله "لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟". وكذلك الأمر في روايته "عائد إلى حيفا".

كيف تبدو صورة المخيمات في أدبنا العربي؟ 

مهما سمع المرء عن اللجوء يبقى عاجزا عن إدراك ماهيته حتى يتجرع مُرّ علقمه، فكما يقال، "ليس من رأى كمن سمع!". ولعلنا جميعا سمعنا بعضا من حكايات الجدّات وروايات الأجداد عن ماضينا التليد الغني بالأحداث القاهرة والقتل والتهجير والتغريب، غير أن المرء لا يُعاين المعنى إلا في نفسه، وإن كان أديبا رقيقا فستصبح الآهات والصرخات المنبعثة من الماضي حروفا وكلمات من نار، تحكي قصص الإنسان المثقل بمعنى اللجوء!.

"الخيمة يا أم سعد هي الخيمة حتى لو كانت قصرا في المنفى، ما شأني إن لم يورق غصن الكرمة و كلانا ما عاد إلى حيفا" هكذا يشرح غسان كنفاني رؤيته للخيام، فحتى لو صارت قصورا ستبقى دلالة للتهجير ورمزا للتشريد والتغريب.

أما كلمة "المخيّم" فهي وحدها كفيلة اليوم باستدعاء آلاف الصور إلى مخيلاتنا العربية، فشعوبنا ذات باع طويل في مجال التهجير والتشريد، وتتداعى إلى رؤوسنا صور من البؤس والفقر والعوز والحاجة، وصور الخِيَم التي قد تتحول بالزمن إلى بيوت أو غرف صغيرة ترتصف بجوار بعضها وكأنها تتكئ على نظيرها البائس لتدعمه ويدعمها في ظروف معيشية تفتقر إلى أساسيات الحياة الإنسانية.

ونتخيل أنّ سكّان المخيمات مُبعَدون مهمّشون، لا يسعهم هامش الحياة ولا تقدر الحواشي على الإلمام بأوجاعهم كثرة وحسرة، لكنّ المخيّم صار جزءا من حياة كثيرين منّا، ولم يعد حكرا على أبناء فلسطين الجريحة الذين خاطبهم غسان كنفاني قائلا، " لك شيء في هذا العالم، فقُمْ". فمن النكبة إلى النكسة إلى العراق واليمن وسوريا تستمر حكاية اللجوء العربي.

لكن المخيم مذ كتب غسان كنفاني رواية "أم سعد" مستشرفا بذلك مستقبل أبناء المخيمات على وجه خاص وتحولهم إلى وقود حقيقي للثورة، مغيرا بذلك نظرة العالم إلى المخيمات بوصفها بؤرا للفساد، وقلبها 180 درجة لتصبح المخيمات منطلقا للثُّوار وموئلا للأحرار.

ماذا عن الصورة السلبية التي نقلها لنا الأدب حول المخيمات واللاجئين؟ 

لا أعتقد أن القصص والروايات التي صورت أحوال المخيمات واللاجئين تركت أثرًا سلبيًا حين صورت أنماطًا سيئة من البشر، فعلى الرغم من تكريس كثير من الأفكار الظالمة والمجحفة عن اللاجئين، لكنّ الإنصاف يستدعي القلم الحرّ والفكر المعتدل في تقييم الصور الأدبية التي نقلت لنا مثالب بعض اللاجئين، فبعض الصور التي صدّرها الأدب في القصص والروايات مثل حكاية "القميص المسروق" لغسان كنفاني، تلك القصة التي تصف أحوال الناس وتسلط الضوء على النفوس الجشعة والشخصيات الانتهازية والاستغلالية والخائنة لوطنها وأبناء جلدتها، لا تعني التعميم مطلقا، بل تعني الإنصاف وتحرّي الصدق والشفافية في نقل الواقع المعاش آنذاك.

ومثل هذه الصور تعد ظاهرة صحية في الأدب عامة، فهي نقدٌ اجتماعي يهدف إلى تصحيح المسار وإيضاح السبل بتعرية النفوس البشعة وإرشادها والعمل على تقويمها.

حين يكون اللاجئ أديبا فيلسوفا

حين نتحدث عن أدب اللجوء لا يمكننا أن نتجاوز أعمال الأديب الفلسطيني المبدع وليد سيف صاحب "التغريبة الفلسطينية"، فقد استطاع فيما قدّمه من أعمال أدبية وسيناريوهات تمثيلية، أن يعرض قضية اللجوء وما فيها من مآسٍ وندوب عميقة بلَبوس حَيٍّ وقريب، واستطاع أن يربطها بمعطياتها الثقافية وظروفها السياسية التي طوقتها ومنعت عنها أسباب الحياة، لا سيما أنه كان شاهدا فعليا منذ أيام طفولته، إذ يقول، "شَهدت طفولتي المبكرة مظاهر المأساة الفلسطينية مُمثلةً في معاناة اللاجئين، وتطور أوضاع المخيمات في الضفة الغربية، وأذكر أننا عندما كنا نتمشّى في سهل طولكرم المعروف كنا نصطدم بما يسمى (حدود الهدنة) فننظر إلى فلسطين المغتصبة من وراء تلك الحدود".

ويكمل مصورا معنى الانتماء الذي نما في وعي الفلسطينيين مبكرا جدا، ومعنى الجهاد في سبيل الوطن والحق والعدالة، إذ يقول: "عندما بدأنا بتعلم القراءة والكتابة كانت الكلمة التي نخطّها بالطباشير على ألواح الصفوف هي (فلسطين)، وحين كان يُطلب منا أن نكتب موضوعا حرا في التعبير كنا نختار دائما وبصورة عفوية موضوعا يتعلق بفلسطين، والنكبة والتحرير والعودة التي نحلم بها".

حين يوحّد اللجوء بين الفنانين والأدباء

هل خطر في بال ناجي العلي رسام الكاريكاتير المبدع وصاحب الرمز الشهير "حنظلة" حين رسم لوحة الخيمة الهرم أنها ستنال إعجاب أديب مثل غسان كنفاني الذي التقى معه في خاتمة الاغتيال والشّهادة، وأنها ستستوقفه ليسأل عنها، وعن العلاقة بين الهرم والخيمة؟

وقد جاء جواب ناجي العلي فريدا ولافتا، فقد قال -بتصرف- بلهجته الفلسطينيّة: "أولا: نحن الفلسطينيين نتميّز بالخيمة مثلما يتميز المصريون بالهرم، يعني لما تقول خيمة ستقول فلسطين، ولما تقول هرم ستقول مصر…، ثانيا: الهرم والخيمة مكان للسكن لهم ولنا، لكن هُم يسكنونها في موت الحياة يعني علامة للخلود، ونحن نسكنها في حياة الموت يعني علامة الإصرار على العودة، وللخلود أيضا، ولكي تظل قضيتنا حمرة متل الجمرة، ويوم نحمل الخيمة ونلفها، نحمل فلسطين ونلفها أيضا".

فأُعجب غسان بفلسفة ناجي، وسأله من أين له بهذه الأفكار، فكان جوابه بلهجته الفلسطينية المحببة مشيدا بأثر الظروف الصعبة التي عاشها في المخيم، لأنها السبب وراء صقل تجاربه الحياتية وتنمية ملكاته، إذ يقول: "ما قلنالك يا زلمة، هالدنيا علمتنا كل إشي. عليم الله هاذا المخيم لحاله فيه عِلْم أكثر من الجامعة الأمريكية اللي بيحكوا عنها ببيروت!".

ومن بديع ما ذكر في نهاية حوارهما أن ناجي العلي ربط بين حجر الهرم وقماش الخيمة موضحا العلاقة بينهما بقوله: "ما بيرجّع فلسطين غير هالحجر! وما بيطلع هالحجر إلا من هالخيمة.. لا من قصور ولا من علالي، وسلامة تسلمك!".

تبادل الخبرات بين اللاجئين

من المضحك المبكي في الآن نفسه أن يتبادل اللاجئون خبراتهم في اللجوء والخيمة والتعامل مع واقع التشريد الجديد، فيكون الأدب هو البريدُ الموصل لهذه الرسائل، كما فعل الأديب الفلسطيني إبراهيم جابر إبراهيم عندما كتب "رسالة من لاجئ فلسطيني للاجئ سوري" مع بدايات موجة اللجوء السوريّ عام 2011، ينقل فيها وصايا اللاجئ الفلسطيني، الذي له خبرة عقود في معاناة اللجوء، وخبراته، فيقول: "عليك أن تعتاد أشياءك الجديدة: أنت الآن رقم في سجلات اللاجئين وفي نشرات الأخبار، وفي اجتماعات اللجان ومساعي الوفود، ستكون الخيمة مزعجة في الليلة الأولى، ثم في السنة الأولى، بعد ذلك ستصير ودودة كواحد من العائلة، لكن حاذر أن تقع في حبها، كما فعلنا!".

"لا تبتهج إن رأيتهم يقيمون لكم مركزا صحيا، أو مدرسةً ابتدائية، هذا خبرٌ غير سارّ أبدا!"

"وإيّاك أن تتورط بمطالبات غبية مثل بناء بيوت بسيطة بدل الخيام، أو بخطوط مياه وكهرباء، ذلك يعني أنك بدأت تتعايش.. وهنا مَقتلُ اللاجئ، وإن استرحتَ يوما فهذا يعني أنك لم تعد تلهثُ باتجاه (العودة)! ولا تُدرّب أولادك على الصبر، الصبر حيلة العاجز، وذريعة مَن تَخلّى".

بكلّ وجعٍ وألم يصوّر لأخيه اللاجئ المستجدّ في جامعة التشريد كيف سيتاجر النّاس بأوجاعه وآلامه، فيقول: "سيبيعك الناس لبعضهم، تلك هواية السياسيين، وسيجيء المتضامنون من كل البلاد، ستصير أنتَ شعارهم الانتخابي، ويتقربون بك إلى الله، وستزداد همّة الناس في تفقّدك في "رمضان" وفي الأعياد والمناسبات الدينية! والبعض سيصوّر أطفالك منهكين وجائعين لمجرد أن يحصل على مكافأة من رئيس التحرير أو مدير المحطّة".

ويلتقي إبراهيم جبرا مع غسّان كنفاني في أنّ كلّ الخيام تشبه بعضها، وأنّ على اللاجئ أن لا يستسلم لتخدير التعامل الإنسانيّ مع اللاجئ، فيقول: "تلك حياتك الجديدة: سينشب حبٌ في الخيام، ويولد رَسّامٌ موهوب، وسيولد أيضا عميلٌ وعاهرة، لا تشكُ حرارة الطقس أو الحصى في الخبز، وحاذر أن تطالب بخيمةٍ أفضل، ليس ثمة خيمة أفضل من خيمة، وقل لهم إن مشكلتك ليست عاطفية ولن تحلّها زيارة أنجلينا جولي".

وكم صدق ناجي العلي إذ ختم بقوله لغسّان كنفاني: "وسلامة تسلمك".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غسان کنفانی ناجی العلی

إقرأ أيضاً:

الأدب الرقمي.. تجربة تفاعلية تتجاوز النص

علي  عبد الرحمن

أخبار ذات صلة بدور القاسمي: المكتبات حلقات وصل بين الذاكرة الإنسانية والمستقبل إبداعات كورية في «الوسائط المتعددة».. انفتاح الدائرة على جماليات مغايرة

في مشهد تتلألأ فيه الأضواء الرقمية، وتنساب فيه المعلومات كأنهار متدفقة، يخوض الأدب غمار تحول جذري، مغادراً عالم الورق والحبر إلى أفق رقمي يتراقص فيه النص على أنغام التكنولوجيا الرقمية، هذه المرحلة الجديدة، التي تجمع بين الخيال والتقنية، تعيد تشكيل تجربتنا الثقافية وتفتح أمامنا أبواباً جديدة للتفكر والتأمل في تأثير التكنولوجيا على السرد الأدبي.
الأدب الرقمي يتجاوز استخدام الأدوات الرقمية كوسائل لكتابة النصوص، ليعيد تشكيل كيفية تقديمها وتجربتها، تلك الظاهرة ليست مجرد دمج للحروف بالآلات، بل تعكس تحولات فلسفية عميقة حول الذات والوجود في عصر المعلومات المتسارع تحت مظلة «الوجود الرقمي»، كما يثير تساؤلات عميقة حول الهوية والواقع في عالم يزداد تطوراً، والتكنولوجيا هنا لا تقوم فقط بصياغة النصوص، بل تعيد تشكيل تجربتنا كقراء، حيث توفر تجربة قراءة فريدة، يتفاعل خلالها القارئ بشكل مباشر مع المحتوى، ما يعزز من دوره كفاعل في السرد، ليعيد هذا التفاعل تعريف العلاقة بين القارئ والنص في إطار رقمي متغير، يجعله شريكاً في عملية الإبداع.
ويتجاوز القارئ دوره التقليدي كمستقبل للنص، ليصبح عنصراً أساسياً في التفاعل، وتعكس فلسفة التفاعل الديناميكي في الأدب الرقمي، كيفية أن القارئ لا يكتفي بمراقبة الأحداث، بل يشارك بفعالية في تشكيل مسار القصة وتوجيهها، على سبيل المثال، تقدم رواية «الخطوات التسع والثلاثون» لجون بوكان، التي طورتها مجموعة من المطورين، نموذجاً بارزاً لتجربة القارئ التفاعلي، كما يكتشف أجزاء متعددة من مدينة افتراضية، ويؤثر في مجريات القصة من خلال اختياراته، مما يخلق تجربة غامرة ومؤثرة.
هذه الديناميكية تعيد صياغة مفهوم الوجود الأدبي، حيث يصبح القارئ شريكاً نشطاً في بناء النصوص وتطويرها، فيما تأخذ رواية «تاريخ موجز البشرية»، للكاتب يووال نوح هراري، هذا المفهوم إلى آفاق جديدة، حيث تدمج بين السرد والوسائط المتعددة لتقديم تجربة قراءة تفاعلية غنية، من خلال التفاعل مع العناصر التفاعلية والنصوص الرقمية، يساهم القارئ في تشكيل السرد وتطويره، مما يعيد تشكيل مفهوم الذات ككيان مؤثر في عالم النصوص.
من جانب آخر، تسهم التعددية في الأدب الرقمي في إغناء تجربة القراءة بطرق لم تكن ممكنة في النصوص التقليدية، ومن خلال دمج النصوص مع الصور والفيديو والصوت، تخلق هذه التعددية تجربة قراءة متعددة الأبعاد تتجاوز حدود النص التقليدي، وعلى سبيل المثال، يدمج الكتاب الصوتي «الفتاة التي لعبت بالنار»، لستيغ لارسون، بين الأداء الصوتي والمؤثرات السمعية لتعزيز الشعور بالتوتر والتشويق، مما يجعل القارئ يتفاعل مع الرواية على مستويات متعددة.
الابتكار والتجديد  
تقدم البيئة الرقمية تجربة جديدة كلياً من خلال منح القارئ القدرة على التأثير المباشر في مسار القصة وتشكيل نهاياتها وفقاً لخياراته، على سبيل المثال، تتيح منصة «Twine»، للمستخدمين خلق قصص تفاعلية خاصة بهم، ليتحول الأدب إلى تجربة ديناميكية تتفاعل مع القارئ، حيث يتمكن من اتخاذ قرارات تؤدي إلى تطورات مختلفة، مما يعزز فلسفة التفاعل الإبداعي.
هذا التفاعل يعيد صياغة مفهوم «الوجود الأدبي»، حيث يصبح القارئ شريكاً في بناء النصوص وصياغتها، ومن الأمثلة الأكثر شهرة في هذا الصدد، لعبة «Fallen London»، التي تعتمد على النصوص الأدبية وتتيح للاعب استكشاف عوالم خيالية مليئة بالخيارات المتعددة، بجانب أن القرارات التي يتخذها اللاعب تؤثر في الأحداث والشخصيات، مما يجعل التجربة الأدبية أكثر تشابكاً مع التفاعل البشري المباشر.
في النسخة التقليدية لرواية «الأمير الصغير» لأنطوان دو سانت-إيكسوبيري، تظل القصة خطية وثابتة، مما يسمح للقارئ بالتأمل في الرسائل الرمزية للشخصيات، أما في النسخة الرقمية التفاعلية، فيمكن للقارئ أن يختار كيفية تفاعله مع الشخصيات ويؤثر على مسار القصة، مستفيداً من الرسوم المتحركة والصوتيات التي تضيف بعداً حيوياً للتجربة في النهاية، وهكذا يقدم الأدب الرقمي تفاعلاً أكبر وتأثيراً مباشراً للقارئ، بينما يحتفظ الأدب التقليدي بجوهره المتأمل الثابت.
تحديات قانونية  
مع توسع الأدب الرقمي وتزايد الاهتمام به، تبرز قضايا حقوق الملكية الفكرية كأحد التحديات الرئيسة التي تواجه هذا المجال، ويجمع الأدب الرقمي بين النصوص والأدوات التفاعلية والتقنيات المتقدمة، مما يصنع بيئة معقدة تتطلب تعاملاً دقيقاً مع قضايا الملكية الفكرية، وتشمل حقوق الملكية الفكرية حقوق المؤلف، براءات الاختراع، والعلامات التجارية، التي تلعب دوراً حاسماً في حماية الإبداعات الرقمية وضمان حقوق المبدعين.
وقد تتداخل الأعمال الأدبية مع تقنيات متعددة، مثل البرمجيات والوسائط المتعددة، مما يجعل تحديد حقوق الملكية الفكرية أمراً معقداً، إذا قام مؤلف بتطوير رواية تفاعلية باستخدام عناصر صوتية ورسوم متحركة، فإن حقوق ملكية هذه العناصر يجب أن تكون واضحة ومحمية. وفي ظل هذا التداخل قد تتعرض الحقوق الأدبية للتحديات، حيث قد يتم استخدام أو تعديل محتوى دون إذن من المؤلف أو المبدع الأصلي، وتتطلب حماية حقوق الملكية الفكرية في الأدب الرقمي تحديث الأطر القانونية بما يتناسب مع التطورات التكنولوجية، ويتعين على المبدعين والمطورين أن يكونوا على دراية بكيفية تأمين حقوقهم من خلال تراخيص مناسبة واتفاقيات قانونية تضمن الحفاظ على حقوقهم وحمايتها من الانتهاك.
العمق والنص 
فيما تتفاوت وجهات النظر حول الأدب الرقمي بناء على التخصصات المختلفة، يوجه النقاد الأدبيون، انتقادات حول مدى تأثير الأدب الرقمي على الجودة الأدبية والتجربة القرائية التقليدية، ويرون أن التركيز على التفاعل الرقمي قد يأتي على حساب العمق الأدبي والنقدي للنصوص، حيث قد يميل بعض الأعمال إلى الاعتماد على تقنيات ترفيهية، بدلاً من تقديم محتوى أدبي رفيع المستوى.
في المقابل، يعزز علماء الاجتماع أهمية الأدب الرقمي من خلال التأكيد على كيفية تأثيره في التفاعل الاجتماعي والثقافي، ويرون أنه يفتح أبواباً جديدة للتواصل والتفاعل، مما يعزز من تبادل الثقافات والأفكار بطرق لم تكن ممكنة في الأدب التقليدي، كما يمكن أن يعكس تحولات ثقافية، ويسهم في تعزيز الوعي الاجتماعي من خلال تقنيات تفاعلية تشرك القارئ في القضايا المطروحة.
ومن خلال دمج هذه وجهات النظر المتباينة، يتضح أن الأدب الرقمي ليس مجرد تطور تكنولوجي، بل تحول ثقافي يثري التجربة الأدبية بطرق متعددة، ويعكس التقدم في هذا المجال التفاعل بين التكنولوجيا والإبداع الأدبي، ويستدعي من جميع الأطراف المعنية العمل معاً لضمان أن يكون الأدب الرقمي محمياً بشكل كاف، ويعزز من التجربة الثقافية والأدبية بشكل شامل.
كما تتباين وجهات نظر الأدباء حول الأدب الرقمي بشكل عكس تفاعلاتهم مع هذا المجال المبتكر والمتجدد، ويرى الروائي المصري محمد حسن مليحة، أن الأدب الرقمي يتجاوز مجرد دمج النصوص بالتكنولوجيا، وأنه تجسيد لتحولات ثقافية وفلسفية عميقة، ويمثل الأدب الرقمي جسراً متيناً بين الإبداع الأدبي والتكنولوجي، ويعكس تطوراً نوعياً في تجربة القراءة وفهم النصوص.
وأعرب مليحة عن اعتقاده بأن دعم وتعزيز هذا المجال يمكن أن يفضي إلى خلق محتوى أدبي رقمي يعكس الثراء الثقافي للعالم العربي ويجذب جمهوراً أوسع، بالإضافة إلى الإمكانيات الكبيرة التي تمتلكها المنطقة للعب دور بارز في هذا التحول العالمي، وشدد على أن التوسع في الأدب الرقمي فرصة لتعزيز الهوية الثقافية العربية وتوسيع دائرة تأثيرها في المشهد الأدبي الدولي.
في المقابل، يسلط الكاتب المصري إبراهيم عبدالمجيد الضوء على النمو التدريجي للأدب الرقمي في العالم العربي، ويشير إلى أن الأدب الرقمي يستمر في التطور ببطء، ولكنه يشهد اهتماماً متزايداً من الكتاب والناشرين الذين يسعون لتقديم محتوى تفاعلي يلبي احتياجات القارئ الحديث.
وأوضح، أنه رغم هذا التقدم تواجه المبادرات الرقمية تحديات عدة، منها ضعف الدعم المؤسسي وقلة التمويل المخصص للمشاريع الرقمية، ويواجه المبدعون صعوبة في العثور على منصات توفر التكنولوجيا اللازمة لإنتاج محتوى تفاعلي يتماشى مع المعايير العالمية.

مقالات مشابهة

  • بوسي تستعرض رشاقتها بفستان أنيق| صور
  • عودة 64 عائلة مهجرة من مخيمات اللجوء بالأردن إلى مناطقهم في درعا
  • نسرين طافش تخطف الأنظار بإطلالة عصرية| صور
  • قراءة وتعليق في قانون اللجوء المصري (٢)
  • إطلالة كاجوال.. بسنت شوقي تستعرض رشاقتها
  • الأدب الرقمي.. تجربة تفاعلية تتجاوز النص
  • باحث في العلاقات الدولية: ما يحدث بغزة مثال صارخ على النهج الإسرائيلي اللاإنساني
  • قراءة وتعليق في قانون اللجوء المصري (١)
  • السعدي ينفي علاقته بملف الماستر المثير للجدل بجامعة ابن زهر ويعلن اللجوء للقضاء
  • مي عمر تثير الجدل بإطلالتها في الرياض