لجريدة عمان:
2025-05-10@06:16:53 GMT

امتحان خطاب الكونـية

تاريخ النشر: 8th, November 2023 GMT

لم يكن خطاب الكونية موضع امتحان عسير -منذ ابتداء القول به مع نشأة العولمة- مثلما هو عليه أمره اليوم. كان الخطاب هذا -محمولا على صهوة الليبرالية الجديدة- يسوغ لنفسه ولفكرته «الكونية» بالعولمة؛ فهي المصداق لما يزعمه من ولوج البشرية عهد «ما بعد الأمم» والدول والحدود والسيادات، حيث السبيل مفتوحة إلى «مجتمع كوني» جامع وشامل.

وهل من قرينة على ذلك أكثر من العولمة الذاهبة بتلك الحدود والسدود إلى الزوال، والنازلة بأحكامها الإلحاقية «التوحيدية» على المجتمعات والدول كافة، ثم هل من دليل على تجسد «الكونية» في العالم الإنساني يفـقع به منطق كل المكذبين أفضل من العولمة؟ ما كان موضع استغراب، إذن، أن يقترن تضخم خطاب «الكونية» بفتوحات العولمة وانتصاراتها المتلاحقة، خلال طبعة نيوليبرالية منها سادت بين مطالع العقد الأخير من القرن الماضي وخواتيم العقد الأول من هذا القرن. نعم، ما كان في ذلك ما يبعث على الغرابة وإن كان كثيره يبعث على الاسترابة.

إلى عهد قريب-إذن- درج على كلام ظفراوي انتشائي على كونية آتية لا ريب فيها، تقتلع من طريقها بقايا مقاومات يائسة تطلقها الدول والأمم كمثل حشرجات تتسلق أجساما (= قوميات) مؤذنة بخاتمتها! ثم ما لبث حبل كذبة «الكونية» القصير أن بـدأ يتقطع، منذ عقد ويزيد، حيث شرعت العولمة في إبدال مراكزها والانتقال بدينامياتها من طور إلى طور آخر تتغير فيه معادلاتها بتغير مراكز قواها. كان من آثار ذلك ومن تبعاته، مثلا، أن الدول التي كانت عرضة لتأثيرات العولمة سلبا على اقتصاداتها وسياداتها الوطنية - مثل الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا...- لم تعد هوامش تتعرض لما كانت تتعرض له من ضروب الأذى على اقتصاداتها وسياداتها، ولم تنتقل من تخوم إلى مجرد مراكز جديدة مشاركة في صناعة العولمة وإنتاج حقائقها، فقط، بل باتت هي مراكز العولمة اليوم بعد أن كانت من أطرافها وهوامشها أمس. في المقابل، فقدت المراكز العولمية القديمة (الولايات المتحدة، أوروبا، اليابان) امتياز السيطرة على نظام العولمة شيئا فشيئا، وتراجعت حصتها المادية والابتكارية منها.

وما كان هذا التبدل الهائل في جغرافيا العولمة وقواها ومراكزها وتوازناتها ليمر من غير أن يترك آثاره العميقة على القوى العولمية الغربية الكبرى، وعلى خطاب «الكونية» الذي اخترعته أجهزتها الإيديولوجية. ولعل أظهر تلك الآثار جميعا ما نلحظه -منذ سنوات عدة- من ميل متزايد في السياسات الأمريكية والأوروبية نحو الانسحاب من الأطر العابرة للحدود، التي ولدتها العولمة، والانكفاء التدريجي إلى الداخل القومي في شكل من النكوص والارتداد مثير. وقفنا على وجوه من ذلك الانكماش في تصويت شعوب أوروبية ضد مشروع الدستور الأوروبي الموحد، تعبيرا منها عن رفضها عولمة تقترح عليها إنهاء السيادات القومية والانتظام داخل كيانية سياسية واحدة تصهر الأمم جميعها في بنية واحدة. ووقفنا على مثال ثان له بمناسبة التصويت الشعبي البريطاني لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والعودة إلى السيادة الاقتصادية. ثم وقفنا على أعلى تجلياته في مسارعة الولايات المتحدة الأمريكية -مع إدارة دونالد ترامب- إلى الانسحاب من عدد هائل من المعاهدات والاتفاقات الدولية والمنظمات من باب رد فعلها على انقلاب نتائج العولمة على مصالحها القومية، المصالح عينها التي اقتضت، فيما مضى، عولمة يتعاظم بها شأنها.

في كل هذه الأمثلة السابقة، ضربت فكرة الكونية في مقـتل وتبينت للقائلين بها حدودها المتواضعة، بل هي بدت مصيدة لا أفقا لمراكز غربية اندفعت نحو نظام العولمة اندفاعات هوجاء وغير محسوبة. لقد اكتشفت هذه المراكز متأخرة -والولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص- أن «الكونية» (العولمة) نفسها موضوع نزاع بين القوى والأقطاب (الدول والقوميات) الكبرى في العالم، وليست مسألة انحسمت قيادتها والسيطرة عليها بمجرد ارتياد مبكر لآفاقها من قبل دول الغرب الكبرى. أما الانسحابات المتوالية لهذه الدول من أطر العولمة فقرينة منها على اعتراف صريح بالعجز عن الاستمرار في منافسة قـوى عولمية جديدة من خارج الغرب أو مجاراتها في مشروعاتها العلمية والتنموية الكبرى. هكذا يدخل خطاب «الكونية» الغربي أزمة مصداقـيته في امتداد تأزم مشروعه العولمي الذي بـدا وكأنه بات عبئا على دوله يدفعها إلى فرملة المسير فيه أو-قـل- إلى الانتقال فيه من ضفاف «الكوني» الممتنع والافتراضي إلى الجغرافيات الكيانية القومية الواقعية.

الأنكى في سيرة الخطابات الإيديولوجية الغربية ما تضمره من إرادة في التلاعبات بالحقائق وبالأشياء والعناصر وحملها على وجوه عدة يقع فيها تظهير هذا وطمس ذاك على منوال شديد الانتقائية. من ذلك أن الخطاب الغربي -المتراجع حثيثا عن فكرة الكونية- يتجاهل أن مراكز جديدة من خارجه، تقودها الصين، تصنع شيئا شبيها بتلك «الكونية» الغربية من خلال ذهابها في العولمة إلى الحدود القصوى. مع ذلك، لا نعثر في ذلك الخطاب الغربي على شبهة اعتراف بذلك، ولا على كلام متجدد على «كونية» مصنوعة في الشرق. والتجاهل هذا أمارة على نزعة من التمركز الذاتي تستبد بالغرب فتمنعه من رؤية غيره في العالم، ومن معاينة الحقائق الجديدة التي تولد خارج حومته، بما يقيم عليه الحجة من نفسه!

خطاب الكونية اليوم في حالة امتحان عسير لاختبار معدل الحجـية، أو معدل التـره والباطل، فيه بعد أن كشفت أزمة العولمة عورته الإيديولوجية، وبعد أن استعادت الدول والقوميات قدرتها على التنزل أطرا مرجعية متجددة لكل الفتوحات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية في العالم. على مثل هذا الخطاب أن يبـرر للعالم مفارقته الغريبة: الكلام الهذياني عن «الكونية» حين تحمل العولمة على حوامل غربية، والصمت المطبق عنها حين تنتقل العولمة شرقا وتستقر في مراكزه!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی العالم ما کان

إقرأ أيضاً:

خطاب المسؤول.. والمواطن!

 

 

 

فايزة سويلم الكلبانية

faizaalkalbani1@gmail.com

 

 

الإعلام والتواصل الاجتماعي في عصرنا الحالي يشكلان منصة محورية لتداول الأخبار والمعلومات وتشكيل الرأي العام. ومع تطور وسائل الاتصال الحديثة، أصبح بإمكان الأفراد والجماعات التعبير عن آرائهم بشكل أسرع وأكثر تأثيرًا، إلّا أنَّ هذه الساحة المفتوحة تحمل في طياتها تحديات كبيرة، خاصة عندما يتعلق الأمر بتصريحات المسؤولين وتأثيرها على الرأي العام، كما نشهد هذه الأيام.

 

من القضايا التي أثارت جدلًا واسعًا مؤخرًا التصريحات المُتعلقة بمكافآت المجيدين والمتميزين في لقاء "إجادة". ورغم التأكيد على أهمية العمل بدافع الولاء للوطن دون انتظار مكافآت، إلّا أن هذه التصريحات أثارت حساسية لدى البعض؛ حيث رأى المواطنون فيها تجاهلًا لحقوق الموظفين المتميزين. وعبّر البعض عن استيائهم بجملة "الوطن للأغنياء والوطنية للفقراء"، ما يعكس حالة من التوتر بين الطموحات المشروعة للمواطنين وأسلوب إيصال الرسائل الرسمية. هذا يبرز دور المتحدث الإعلامي والمسؤول في تقديم التصريحات بشكل مدروس ودقيق، بحيث تحمل رسائل واضحة ومتوازنة تصل إلى الجمهور دون إثارة استياء أو سوء فهم.

في سياق آخر، تصريحات وزارة العمل بشأن إلزام المشاريع التي أكملت عامًا بتوظيف مواطن عُماني واحد على الأقل، أثارت جدلًا واسعًا، خاصة بين أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، الذين اعتبروا القرار تحديًا كبيرًا في ظل قلة العائد والدخل الذي لا يمكنهم من الالتزام به. وقد أدى ذلك إلى إغلاق بعض المشاريع أو التوجه نحو إغلاق السجلات التجارية هربًا من تطبيق القرار. ورغم أن وزارة العمل وضعت شروطًا وتقنينًا لتنفيذه، إلّا أن الكثيرين يرون أن تطبيقه يحتاج إلى مراجعة تراعي ظروف المشاريع الناشئة لضمان استمراريتها ودعم مساهمتها في الاقتصاد الوطني. وهنا يأتي دور المسؤول في توضيح خلفيات القرار وأهدافه، مع تقديم حلول تناسب مختلف الأطراف لضمان تحقيق توازن بين تطبيق السياسات ودعم الاقتصاد.

على صعيد آخر، تصريحات وظائف العُمانيين في قطر أثارت جدلًا واسعًا؛ حيث رأى البعض أن الحديث عن توفير وظائف في الخارج قد يعكس ضعف التخطيط المحلي لاستيعاب القوى العاملة الوطنية. وبينما يشكل هذا التعاون مع قطر خطوة إيجابية تعكس عمق العلاقات بين البلدين، إلا أنه يجب أن يُنظر إليه كجزء من رؤية متكاملة تهدف إلى تحقيق الاكتفاء المحلي وخلق فرص مُستدامة داخل السلطنة.

هُنا يتعين على المسؤولين تقديم خطاب إعلامي يعكس رؤية واضحة وشاملة حول أهمية هذه المبادرات، مع طمأنة الجمهور بأنها جزء من خطة وطنية متكاملة.

إنَّ أدوار الإعلام والتواصل الاجتماعي اليوم تفرض ضرورة تطوير آليات التواصل الرسمي لتكون أكثر شمولًا وفعالية، حيث يجب أن تقوم أي مبادرة أو قرار على دراسة متكاملة تشمل كافة الجوانب وتستشير جميع الأطراف المعنية، مع التركيز بشكل خاص على الآثار المباشرة للمواطنين ولاسيما إن كانت تلامس قضايا الباحثين عن عمل.

 

والتواصل الناجح لا يقتصر على دقة الصياغة ووضوح الرسالة فحسب، بل يتعداه إلى بناء تفاهم مشترك عبر حوار بناء يلامس تطلعات الناس وهمومهم، مما يعزز الثقة ويحقق التكامل بين السياسات الرسمية والاحتياجات المجتمعية، في إطار خدمة الصالح العام وتحقيق التنمية المستدامة.

 

وفي الختام.. دور الإعلام والتواصل الاجتماعي لا يقتصر فقط على نقل الأخبار؛ بل يشمل أيضًا التفاعل مع الجمهور وطرح القضايا المهمة للنقاش، ومما لا شك فيه أن المواطنين بمختلف ظروفهم والموظفين على اختلاف مواقعهم هم الركيزة الأساسية التي تستند إليها مسيرة التنمية. إن جهودهم وتضحياتهم تمثل العمود الفقري لتقدم الوطن وازدهاره، ومن واجب الجميع، أن يجعلوا هذه الجهود محل تقدير واهتمام دائم؛ فتقدير العمل المخلص ليس مجرد واجب عملي؛ بل هو حافز أساسي لتعزيز الولاء الوطني وتحقيق المزيد من الإنجازات التي تصب في مصلحة الجميع.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • ترامب يصعق نتنياهو ويبطش بالبنتاجون.. اليمن يهزم أمريكا والأطلسي
  • جامعة القاهرة تكشف عن شكل ومواصفات ورقة امتحان نهاية العام
  • وزير الإعلام: آلاف الحسابات الوهمية تنشر معلومات مضللة لتعزيز الاستقطاب ولمواجهتها علينا تبني خطاب عقلاني جامع
  • جدول امتحانات الصف الثالث الإعدادي 2025 في القاهرة الكبرى
  • مواعيد امتحانات الفصل الدراسي الثاني لصفوف النقل بالقاهرة
  • الرئيس الصيني: نعمل على تعميق علاقاتنا مع روسيا وتعزيز العولمة الاقتصادية
  • استياء كبير بسبب نسب الرسوب القياسية في امتحان رخصة السياقة
  • خطاب المسؤول.. والمواطن!
  • جدول امتحانات الصف الثالث الإعدادي 2025 في القاهرة والمحافظات
  • طريقة الاستعلام عن القبول وموعد امتحان شغل 21 وظيفة بـالطرق والكباري