د. حسين عبدالبصير يكتب: «قربان لا تأكله النار».. تشظى الذات فى عالم الصحو واليقظة والتذكر
تاريخ النشر: 5th, July 2023 GMT
«قربان لا تأكله النار» للشاعرة والناقدة د. منال رضوان هو الديوان النثرى الثانى لها بعد تجربتها الأولى والمهمة ديوان «أنا عشتار»، الذى خاضت «رضوان» فيه غمار عالم الأسطورة. و«قربان لا تأكله النار» هو مجموعة شعرية فصحى متميزة، مكونة من عشرين نصًا شعريًا نثريًا فاتنًا.
أخبار متعلقة
القيم والمبادئ المفتقدة وأصحاب الحرف القديمة فى رواية «بلكونة نحاس» للكاتبة منال رضوان
صدور رواية «امرأة سوداء في باريس» للفلسطينية سناء أبو شرار
دعاء البطراوى تكتب: يتراجع الحب ولا يعود فى رواية «شمس أيوب»
وبعد الإهداء اللافت، وهو: «إلى روحين أعياهما الجسد؛ فغادرا إلى ألف حياة أهديكما هذا.
وهنا أتناول بعضًا من هذه المجموعة الشعرية النثرية البديعة.
القصيدة الأولى «عبق»: «للوقت رائحة.. للضوء المتثائب كل صباح.. الإطارات الفارغة لصور.. محنطة بملهى الذاكرة.. لها رائحة أيضًا».. إلى قولها: «على أجساد الستائر البالية... يمتلكون رهجًا غائمًا.. أعرفه جيدًا.. وحدها الأحجار شديدة التهذيب.. التى قَبَّلتك برفق.. امتلكت رائحة لم أعرفها أبدًا.. لكنها فقط.. بدت.. كأنا!».
القصيدة الثانية «المقعد الشاغر لى»: «فى المنتصف من مايو.. رأيتك جالسًا على حافة البحر.. بين تخوم الذاكرة وجبال الملح.. حاولت تأويل رؤياى الغائمة.. كفك التى اغترفت أوجاعى ذات صباح.. ما بالها تؤنس اغترابى الآن أكثر.. أسفار الجليد.. قضمات القوافى المعطوبة.. أوراق البردى المحنطة بخزانتى.. التى أضحكت أناملك العازفة..على شغاف قلبى.. واللاهية بميراث كآبتى.. حزمات القصائد التى اشترتنى.. وربما.. عيرتنى!!.
منال رضوان - صورة أرشيفية
لا أعرف!.. لم أعد أذكر.. من أوهام الأنثى غير أوراق.. انتبذت مكانها بحقيبتى.. استلت على أطراف أصابعها.. إلى فراشنا لتداعبك.. الخرس الشمعى.. استصرخه.. دفء السادس عشر من نوفمبر.. وجهك العصى على تأويل.. أضغاث أحلامى المستباحة.. رسالتى الخجول.. كل التفاصيل الغارقة.. لم أعد أذكر منها غير.. ابتسامتك إلى جوار البحر.. دغدغات الرمال للمقعد الشاغر.. هذا المرح الفردوسى.. خرمشات الملح على جسدى.. والتى بدت رائعة جدًا.. ذكرتنى.. أن أبتسم أنا أيضًا».
القصيدة الثالثة «دقات متناثرة»: «فى صحبة الناقوس.. أخوض لجة السطور الغارقة.. الأوراق اللينة.. تعج بمئات الزائرين.. رجفات الضوء تدغدغ حواف عالمى المخبوء.. للحظة.. وددت لو أعدت كرات الصوف إلى سيرتها.. لمَ ينسجون أحلام الدفء لأقدام مبتورة؟.. يطربون إلى صخب ارتطام الجسد العالق.. هناك.. سألتهم: ماذا عن مشهد جديد؟.. وهنا.. رأسى الذى لم يعد يحتمل البقاء».
القصيدة الرابعة: «قربان لا تأكله النار»: «قائمة الأشياء البغيضة.. لم أعد أطيق النظر إلى الكأس الفارغة.. مرآة لا تعكس غير صورتك.. شبح مدينتى القديمة بلا مطر.. ظلال الموتى يتحلقون حول مائدتى.. يغترفوننى كل مساء.. انتصار الرؤى الكاذبة.. مخافة تأويلها كل حين.. حصاد أمنيات لا تجىء.. قرابين سنواتى العجاف.. ثرثرة نسوة طاولة الأحد.. نظراتهن الذابلة إلى بقعات مرتجفة.. خشيتهن لعنة الطهر الأبدى!.. و.......... ما أكثر الأشياء التى بت أبغضها.. ألف باء خ ذ ل ا ن.. بدت كمشنقة مدلاة.. على حافة سطر أخير...».
غلاف الكتاب
فى هذه المجموعة من النصوص الشعرية النثرية، تتحاور الذات مع العالم فى إطار من الغوص فى فضاءات الحيرة والقلق والحزن، وفى عمق الذات هذا البوح الذى يشى بجمال الروح وذوبها فى عالم شديد التشظى. تشكل الذات الشاعرة هنا العالم بشكل مختلف؛ حيث تحاور الشاعرة العالم من خلال مفردات المكان مثل: البحر، والحضارة مثل: البردى، والقربان الذى لا تأكله النار، والعبق الذى يمنح للوقت رائحة خاصة، وللضوء المتثائب كل صباح، والإطارات الفارغة للصور المحنطة الموجودة بملهى الذاكرة ذات الرائحة المميزة.
فتحمل النصوص هذه المراوحة بين الماضى والحاضر؛ فنجدها تستهل نصوصها بأمنية سرعان ما تغادرها ككل الأشياء التى أصابتها بالخذلان؛ لم تعد الشاعرة تطيق النظر إلى الكأس الفارغة، ولا للمرآة التى لا تعكس غير الخيانة التى جسدتها فى صورة رجل، وشبح مدينتها القديمة التى صارت بلا مطر، بينما ظلال الموتى يتحلقون حول مائدتها، يغترفونها كل مساء، وانتصار هذه الرؤى الكاذبة مخافة تأويلها كل حين، حصاد أمنيات لا تجىء، وقرابين السنوات العجاف، أو ثرثرة نسوة طاولة الأحد، ونظراتهن الذابلة إلى بقعات مرتجفة، خشيتهن لعنة الطهر الأبدى!.
فالبوح الإنسانى لدى الشاعرة فى هذه القصيدة حملَ الأوجاع والمخاوف التى يمكن أن تداهم المرأة فى سنوات حياتها، منذ الخذلان الذى بدأ بـ (ألف باء) حتى حرف الـ (م) الذى شبهته «رضوان» بالمشنقة التى بدت مدلاة على حافة سطرها الأخير، والذى نتمنى ألا نصل إليه أبدا طوال مطالعتنا لهذه المجموعة الشعرية التى تحمل بصمة خاصة لشاعرة وناقدة وقاصة تتميز حروفها بصدق التجربة الإنسانية.
من الجدير بالذكر أن الدكتورة منال رضوان كاتبة وناقدة متميزة للغاية. وهى أيضًا عضو اتحاد كتاب مصر، وكذلك عضو نادى القصة، ومدير تحرير موقع أوبرا مصر الإخبارى، ولها مجموعة من الأعمال مثل «طقس اللذة».. وهى مجموعة قصصية متميزة للغاية، ورواية «بلكونة نحاس»، وصدرت فى طبعتين «أولى وثانية»، و«سنوات الجراد»، وهى مجموعة قصصية جميلة للغاية.
و«أضغاث صحوتى»، وهى نصوص سيرة ذاتية، و«أنا عشتار»، وهى مجموعة شعرية فصحى بديعة، و«رباعيات حب وبعاد». وهى مجموعة شعر عامية، فضلًا عن عدد من الإصدارات قيد النشر مثل «١٠٥ فاصل أغانى»، وهى نصوص فاتنة، و«بنت بحر»، وهى مجموعة شعر عامية مصرية، و«أضغاث صحوتى» الجزء الثانى، و«قراءات نقدية فى الرواية العربية الحديثة».
وشاركت «رضوان» بإبداعات أدبية وقراءات نقدية فى العديد من الصحف والمجلات والمواقع المصرية والعربية مثل: (الأهرام، والمصرى اليوم، وروز اليوسف، والأسبوع، والأهالى، والجمهورية، ودورية عالم الكتاب، والكواكب، ودورية نقد ٢١، وجريدة القاهرة، وجريدة الدستور، وصحيفة الرأى الأردنية، ومجلة الكلمة اللندنية، ومجلة الأهلية البحرينية، وصحيفة الأيام البحرينية.
ومجلة نقش الأردنية، وصحيفة أنباء إكسبريس المغربية). وأعدت العديد من الملفات عن شخصيات أدبية مصرية وعربية فارقة فى تاريخ الأدب العربى، مثل: الأديب العالمى نجيب محفوظ، والروائى السورى حيدر حيدر، والأديب يوسف السباعى، والأديب محمد عبدالحليم عبدالله، والأديب بهاء طاهر، والأديب يحيى الطاهر، والأديب الدكتور يوسف إدريس.
وتكتب «رضوان» بصفة دورية فى جريدة «عالم الثقافة» سلسلة حلقات بعنوان «أضغاث صحوتى»، كما شاركت بإبداعات ودراسات نقدية فى عدة مواقع إلكترونية، منها الموقع الرسمى للهيئة المصرية العامة للكتاب (المعرض)، وموقع ثقافات، وموقع آفاق حرة، وموقع العربى اليوم، وموقع بوابة مصر الآن، وموقع مصر ٢٤، والصراحة اللندنية.. واشتركت كمحكم فى لجنة تحكيم مسابقة محمد عبدالمنعم زهران فى دورتها الأولى، وتشارك كمحكم فى مسابقات القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا بمجلة القصة. وشاركت بإدارة ومناقشة العديد من الندوات واللقاءات الأدبية.
* مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
ثقافة سور الأزبكية قربان لا تأكله النارالمصدر: المصري اليوم
كلمات دلالية: ثقافة
إقرأ أيضاً:
رحلة التحوّل الأنثوي في ضوء نظرية يونغ: قراءة تحليلية في كتاب “حدّثتني الشمس”
#سواليف
رحلة التحوّل الأنثوي في ضوء نظرية يونغ: #قراءة_تحليلية في كتاب “حدّثتني الشمس”
د. #مي_خالد_بكليزي
هيَ صَرخةٌ حَكيمةٌ ومفازةٌ كُبرى، وغنيمةٌ أَثقَلَتها الخَيباتُ والخُذلانُ، مِمَّن أحبَبْناهم ومِمَّن كرهونا على حدٍّ سواء.
تِلكَ الصُّخورُ التي رُمِيتْ بها لَم تَكُ جُرحًا، بل كانت مِعراجًا نحوَ الصُّعودِ إلى سَماءٍ لا تُشبهُ أيَّ سَماء، إذ كانت على مَوعِدٍ مع الشَّمسِ — نَعَم، الشَّمسِ التي حدَّثَتْها فأنصتنا جميعًا، وكشَفَتْ لها المَستورَ، لتَبوحَ بالحِكاياتِ التي نَسَجَت خُيوطَها مَرارةُ العَداوةِ وخُذلانُ القَريبِ وخِيانَتُه.
«ومِن نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ إزاحةُ الغَمامةِ عن عُيوني لأرى سُوءَ أفعالِهم، وأُقدِّمَ الشُّكرَ لحقارتِهم، فهيَ مَن جَعَلَتني في القِمّة» (ص 12).
مقالات ذات صلة هتاف العاطفة في قصيدة “يا رب عونك ” للشاعر محمد الشيعاني 2025/10/13إنَّها اعترافاتٌ بلسانٍ مَجبولٍ على الحَمد، وقلبٍ أَنهَكَهُ الخُذلانُ والخِيانة، لكنَّه ما يزالُ مُحافظًا على نَقائه، ذلك النقاءُ الذي ظنَّهُ البعضُ سذاجةً.
مُعلِّلةً حاجتَها إلى الكتابةِ بقولِها: «نحنُ نُريدُ أن نُريحَ أنفُسَنا، لا غير» (ص 15).
وتارةً أُخرى تقول: «خُذْ كلَّ الوجعِ والخُذلانِ والحَيرةِ والكَذِبِ والألمِ والبُكاء، وحوِّلها إلى وَقود» (ص 25).
جاءتِ الحكايا واللوحاتُ بصيغةِ المتكلِّم، في خِطابٍ مباشرٍ مع القارئ لا يُخفي ذاتَه، بل يُواجِهُ المُتلقِّي بصِدقٍ ووضوحٍ.
تُقدِّمُ الكاتبةُ نفسَها بلا مواربةٍ، وتَترُكُ البابَ مُشرَعًا ليُرى ما وراءَ الكلمات.
لا تَكتمُ عَبيرَ سيرتِها، بل تَلملِمُ خَيباتِها وتَنثرُها وَردًا على جانبي الطَّريق، لِيَتفيَّأَ ظِلالَها مَن يَعرِفُها عَبرَ هذه الصَّفحات.
إنَّها لا تُداهنُ ولا تُجامِل؛ بضاعتها طيبتُها، ورأسُ مالِها قلبُها الأبيض، وربحُها الأكبرُ استعادتها لذاتِها بعدَ كلِّ خَيبةٍ وخَسارةٍ.
«امرأةٌ بقَوامِ قصيدةٍ تَنسِجُ حروفَها من خُيوطِ الغيم، ويَخضِبُها لَيلٌ لا يَنطفِئ.»
«إنَّني هنا لأترُكَ أَثَرًا في عَقلِك لا يُمحى» (ص 20).
إنَّها تجربةُ تَقشيرٍ للحياةِ والمَواقفِ حتّى تَصِلَ إلى لُبِّ الحقيقة، وإلى جلاءِ الواقع، وانهزامِ الوَهم، وتقهقُرِ الكَذِب، وتراجُعِ الخِيانة.
فالشَّمسُ التي أشرقتْ، كشَفَت بشُعاعِها تلكَ الرزايا والعَرايا التي تَراكَمَت على الوجوه، فأظهَرَتْها جَليّةً للعيان، لا يَعتريها شَكٌّ، ولا تُذيبُها ريبةٌ.
العتبة النصيّة
يُشكِّلُ عنوانُ الكتاب “حدّثتني الشمس” عتبةً نصيّةً ذاتَ حُمولَةٍ رمزيّةٍ كَثيفة، إذ ينفتحُ على دلالاتِ الكشفِ والبوحِ والتطهيرِ.
فالشَّمسُ في المتخيَّلِ العربيِّ والإسلاميِّ ليست مجردَ جِرمٍ سماويٍّ، بل هي رمزٌ للحقيقةِ المطلقة، وللنورِ الذي يُبدِّدُ ظُلُماتِ الكَذبِ والخِيانةِ.
اختيارُ الشَّواورةِ لهذه العتبةِ يُوجِّهُ القارئ منذ البدايةِ إلى أنَّ النَّصَّ سيَحمِلُ طابعًا اعترافيًّا صريحًا، حيثُ تتجلّى الذاتُ في مواجهةٍ مع “الشَّمس” بوصفِها الشَّاهدَ الكَونيَّ الأعلى.
لكن، من زاويةٍ نقديّةٍ، يُمكنُ القولُ إنَّ هذا الاختيارَ العنوانيَّ يَنطوي على بُعدٍ مباشرٍ ومتوقَّع؛ فالشَّمسُ لَطالما استُهلكَت في الأدبِ العربيِّ رمزًا للوضوحِ والصِّدقِ واليقين، ممَّا يجعلُ العنوانَ أقلَّ ابتكارًا مقارنةً بعناوينَ تعتمدُ المجازَ أو الغموضَ المنتج، كـ “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف، أو “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي.
ومع ذلك، فإنَّ انسجامَ العنوانِ مع المضمونِ واضحٌ؛ فالكتابُ قائمٌ على الاعترافاتِ والبوحِ الذاتيِّ وتقشيرِ المواقفِ للوصولِ إلى لبِّ الحقيقة.
وهذا يجعلُ من الشَّمس “موجِّهًا قرائيًّا” يتناسبُ مع التجربةِ، فهي تَكشِفُ، وتُضيءُ، وتُطهِّرُ، كما أنَّها تُحرقُ وتُنقّي.
يستندُ هذا التحليلُ إلى أفكارِ عالِمِ النفسِ التَّحليليّ كارل غوستاف يونغ في كتابه Symbols of Transformation (رموز التحوّل)، إذ يرى أنَّ الإنسانَ يعيشُ رحلةً داخليةً من الألمِ نحو التكاملِ النَّفسي عبرَ مواجهةِ «الظلّ» وإدماجِه في الذّات.
التحليل النفسيّ للنصّ
النصّ يمكن قراءتُه بوصفِه رحلةً أنيميّةً أنثويّةً، أي رحلةً داخليةً نفسيّةً تمرُّ بها المرأةُ لاكتشافِ ذاتِها الحقيقيةِ والتصالحِ مع أعماقِها وتجاوُزِ القيودِ التي فرضها المجتمعُ والتجاربُ السّابقة، بحيثُ تنتهي باستعادةِ الاتصالِ الرّوحيّ والوصولِ إلى الأنوثةِ المقدَّسةِ في سبيلِ تحقيقِ التوازنِ بين العاطفةِ والعقل، والانتقالِ من مرحلةِ الجُرحِ إلى مرحلةِ النُّضجِ الهادئ، أي من «الأنا المَجروحة» إلى «الذات المتصالحة».
النصّ ينتمي إلى الأدبِ الوجدانيّ التأمّليّ، وهو أقربُ إلى القصيدة النثريّة بلُغةٍ مشحونةٍ بالعاطفةِ والفكر.
الموضوعُ المركزيُّ هو التحوّل الوجوديّ من الألمِ إلى النُّضج، ومن الضعفِ إلى القوّة الهادئة.
ويُشبِه هذا التحوّل ما وصفتْه سيمون دو بوفوار في كتابها الجنس الآخر حين قالت:
«إنّ المرأةَ لا تَبلُغُ ذاتَها إلّا بعدَ تجاوزِ نظرةِ الآخرِ إليها»
— وهي الفكرةُ ذاتُها في النصّ؛ انعتاقُ الذات الأنثويةِ من نظرةِ الحالمين والكارهين.
أولًا: التحرر من «القيد الأول» – مواجهة الظلّ
«تحرّرتُ من كلّ غلٍّ، الحياةُ التي تَحيا جمرةً مُلتَهبةً تُسقى.»
في هذا السطرِ نَلمسُ بدايةَ مواجهةِ الذاتِ لظلّها، أي لكلِّ ما كبَتَتْه من ألمٍ وحنينٍ وإحباطٍ.
الجمرةُ هنا رمزٌ للاوعي المؤلم الذي ظلّ مُشتعلًا حتى تمّت مواجهتُه.
وبحسب يونغ:
«التحررُ يبدأُ حينَ نَعترفُ بظلِّنا، لا حينَ نَهرُبُ منه
ثانيًا: التحوّل من الانفعال إلى الاتزان
«لم أَعُد شقيّةً كما يرتجي قلبي، ولا يَسُرّ بعَناني الكارهون.»
يمثّلُ هذا المقطعُ انتقالَ الكاتبةِ من مرحلةِ التماهي مع الانفعال (الجرح) إلى مرحلةِ الوعي الواقي.
لقد تجاوزت «الأنا الدراميّة» نحو الأنيموس الناضج، أي الجزء العقليّ في لاوعي المرأة.
فالتّحوّلُ هنا من الأنوثةِ المجرّحةِ إلى الأنثى المتّزنة.
ثالثًا: التكامل بين المتضادّات – المبدأ اليونغي للاتحاد
«صيامُ عمرٍ بتوقيتين ضدَّين، ونوافذُ مصوَّرةٌ أو مَسكونةٌ بغسلِ الزَّلاتِ الصغيرة.»
تُعبّرُ الكاتبةُ عن ازدواجيةِ الذاتِ بين الطُّهرِ والخطيئةِ، بين الماضي والصّفاء.
في نظر يونغ، الاكتمالُ لا يتحققُ إلا بتصالحِ الإنسانِ مع المتناقضاتِ في نفسه:
«لا اكتمالَ بلا تصالحٍ مع المتناقضاتِ فينا.
رابعًا: الانبعاث من الرماد – مرحلة التولّد الرمزيّ
«رمادُ أطلالٍ تتلاشى قيودُها… لا إلهي! لا وِزرَ علينا!»
إنها لحظةُ التحوّل الرمزيّ (Symbolic Rebirth)، حيثُ تُعلنُ الذاتُ ميلادَها من رمادِ الخَيبةِ.
الرمادُ في التحليلِ النفسيّ رمزٌ للتطهير والتجدّد، مثلما يولدُ طائرُ الفينيق من رمادِه.
لقد عبَرت الكاتبةُ المرحلةَ العَتَبيّة بين الموتِ النَّفسيّ والحياةِ الجديدةِ، وأعلنت تحرّرَها من عقدةِ الذنب.
خامسًا: الانتهاء إلى الهدوء الكلّي
«وقد صِرنا جُثثًا وبعضَ ظِلال.»
هذا الختامُ لا يدلّ على موتٍ فعليّ، بل على موتِ الأنا القديمة، وانبعاثِ ذاتٍ أصفى وأعمق.
في التحليلِ اليونغيّ، الظلالُ الباقيةُ تُمثّلُ الذكرياتِ والغرائزَ التي لم تُمحَ، بل أصبحت جزءًا من النُّضجِ الجديد، أي توازن النورِ والظّلامِ في النفس، وهو جوهرُ نظرية التفرّد (Individuation) عند يونغ.
ثالثًا: التقييم النفسيّ والفنيّ
النصّ «أخيرًا» يُجسّدُ أدبيًّا مراحلَ التحوّلِ الأربعَ عند يونغ:
المواجهة مع الذات – الوعي بالجرح. الصراع الداخلي – التنازع بين الأضداد. التحوّل الرمزي – الانبعاث من الرماد. التكامل – بلوغ الصفاء الذاتي.وبذلك يمكن القول إنَّ الكاتبةَ جسّدتْ في نصّها ما يسمّيه يونغ التحوّل الأنثوي نحو الذات العليا، أي نُضج الوعي بعد الألم.
رابعًا: التقييم الفكري والفني
البنية الفكريةالنصّ يُجسّد مفهوم الاستبصار الذاتيّ (Self-Insight)، أي إدراكُ الإنسانِ لمعنى معاناتِه وتوظيفُها في بناء الذات.
كما تقول كارين هورناي في كتابها Neurosis and Human Growth:
«الفردُ الناضجُ هو الذي يُحوّلُ انكساراتِه إلى فرصِ نموٍّ داخليّ.»
وهذا ما تفعله الكاتبةُ حين تقول إنها تشكرُ من أساؤوا إليها لأنّهم جعلوها تعملُ على تطوير ذاتِها.
رمزية المرأة الحقيقيةتعبّرُ الكاتبةُ عن وعيٍ نسويٍّ ناضجٍ لا يقومُ على الصّراع بين الجنسين، بل على تحقيقِ الذاتِ في مجتمعٍ ذكوريّ دون أن تفقدَ المرأةُ توازنَها أو قيمَها.
وهذا قريبٌ من طرح فاطمة المرنيسي في ما وراء الحجاب (دار الآداب إذ ترى أنَّ قوةَ المرأةِ العربيّةِ تنبعُ من وعيِها بذاتِها لا من تقليدِ النموذجِ الغربيّ.
اللغةُ شاعريةٌ، نثريةٌ، ذاتُ إيقاعٍ داخليٍّ نابعٍ من التكرارِ الوجدانيِّ:
«نعم أبكي، نعم أتعب، نعم أحزن.»
هذا التكرارُ يُعطي النصَّ موسيقى وجدانيةً تعبّر عن الصراعِ المتدرّجِ نحو الصفاء.
ويذكّر بأسلوب غادة السمان في رسائل الغربة، حيث يتحوّل الألمُ إلى وعيٍ لغويٍّ جميلٍ يُصفّي التجربةَ دون انفعالٍ أو غضبٍ.
الخلاصة
النصّ دعوةٌ إلى أن تتوقّفَ المرأةُ عن انتظارِ الإنصافِ الخارجيّ، وأن تبدأَ في شُكرِ ذاتِها بدلَ جَلدِها.
إنّه بيانٌ شعريٌّ للتحرّرِ من عقدةِ الجُرحِ والخُذلان، ونموذجٌ أدبيٌّ يُظهر ما يُسمّى بـ التحوّل الأنثويّ المتكامل في ضوء التحليلِ النفسيّ اليونغيّ.
فمن خلال الشّمسِ التي حدّثتْها الكاتبةُ، ومن رمادِ الألمِ الذي نهضتْ منه، تكتملُ رحلةُ الأنثى النّاضجة التي صارت تُضيءُ لا لتحرق، بل لتُطهّرَ ذاتَها من الظّلِّ، وتلتحمَ بنورِها الداخليّ.
إنه نصّ متماسك، صادق، يحمل نبرة تأملية عميقة تليق بأدب السيرة الوجدانية النسوية المعاصرة، ويُمكن اعتباره من نصوص التحوّل الذاتي التي تتقاطع مع الأدب العلاجي