هيا فريج: من جحيم غزة.. كيف تودع جيرانك وسط القصف؟
تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT
الدكتورة هيا فريج باحثة فلسطينية من غزة
لا أبالغ حين أقول إن أكثر من ثلاثين طائرة حربية اسرائيلية تحوم فوق شمال قطاع غزة، نراها رأي العين على ارتفاع ٍ منخفضٍ جدًّا، ولك أن تتخيل حجم الضجيج والتلوث السمعي، والصداع الذي نشعر به، والدوار الذي نصاب به، وآلام الأذن بفعل خرق طبلة الأذن من ضجيج اختراق الطائرات لحاجز الصوت، ناهيك عن قنابل الغاز الفسفورية والدخانية التي تأكل أنوفنا، وتكاد تحرق أجسادنا.
والأمَرُّ من كل ذلك هو مئات الغارات في الليلة الواحدة، ومئات الشهداء في الليلة ذاتها. وعلى ما يبدو، فإن الذاكرة تطرد المآسي وتظنها لا تتكرر، إذ كنا نعتقد أن أصعب ليلة مرت علينا هي ليلة الحزام الناري التي كان أقربها علينا في منطقة بير النعجة في جباليا ليلة العيد عام 2021.
لكن المصائب التي نكرهها تُعاد بشكلٍ أعنف وأضخم، وأكثر ضراوة، وكأنهم يستحدثون طرقًا جديدة لقتلنا نفسيًّا، وجسديًّا، فمشهد الحزام الناري ذاته يتكرر في الليل والنهار، في أكثر من موضعٍ ومكان، والقصف المجنون في هذه الحرب فاق الوصف، وجاوز حد الخيال.
لا تقتصر أساليب القتل الجماعية على صواريخ الطائرات المزعجة تلك، وإنما تتعدد صنوف الإبادة، وتتنوع أشكالها، منها: المدفعية العمياء التي تقف على التخوم، والبوارج البحرية التي تطلق قذائفها دون وعي أو هدف، ومع الاجتياح البري، دخل الرصاص المعركة؛ إذ صار رصاص الاشتباكات القريبة يصلنا في البيوت.
نحن هنا في غزة، في المخيم الذي يأبى أن تتكرر مأساة تهجيره، وتعود أحداث هجرته، نرى الموت كل يومٍ ألف مرةٍ، هذا الضيف الثقيل السمجُ الذي حلّ علينا منذ أكثر من شهر؛ لينتقيَ أفضلنا، وأنقانا، وأجملنا، وأطهرنا.
وأكذب لو قلت إنّ وجودي لا يتآكل كل ليلة، فمقوّمات صمودي بدأت تتلاشى، مع قصف بيوت جيراننا الآمنين، الذين كانوا ممن رفضوا تغريبتهم إلى الجنوب، بعد أن حاول الاحتلال التعميم على سكان الشمال الانتقال إلى جنوب وادي غزة.
أذكر يومها أننا كنا واقفين جميعًا على شبابيكنا واضعين أيدينا على خدودنا نشاهد مشهد التغريبة الفلسطينية الجديدة، في وجوهنا كثيرٌ من الحسرة، وقليلٌ من الكلام، اكتفينا بالإيماء؛ فقد كانت الحيرة واضحةً، والسؤال واحدٌ: أي مصيبة حلت على هذا الشعب؟ وأي كارثة ستنزل به؟ وماذا ينتظرنا في الأيام القادمة؟
عسى أن لا يصبح جيراني أرقاماًكانت العائلات تمشي في جماعات، الرجال يجرّون أبناءهم، والنساء تهيم بلا وعي، حاملةً حقائب صغيرة فيها أشياء كثيرة، والأطفال يحملون حقائب مدارسهم مستعيضين عن الكتب ببضعة ملابس، أما الشباب فيحملون حقائب اللابتوبات، وأوراقًا لا قيمة لها في هذه النكسة.
الكل يسير على وجهه لا على رجليه، محاولين التقاط شيءٍ من الأمان في الجنوب (لا ألوم باحثًا عن النجاة) لكنه المشهد الذي يجب أن نرويه للعالم.
كنتُ يومها آنسُ بوجود جيراني الباقين معي، المتفرجين في ذهول للمشهد ذاته، وأترك شباكي مفتوحًا؛ لأؤكد لهم أني باقيةٌ معهم، وألوّح لهم كل صباحٍ بأني مثلهم، لن أرحل.
لكنهم رحلوا قبلي، في البداية رحل أصحاب المخبز، بعد قصف منزلهم، ومخبزهم، وخروجهم جرحى من تحت الركام. ثمّ رحل أصحاب المحلات التجارية، بعد استشهاد خمسة منهم، وانتشال جرحى وناجين من تحت الحفرة العميقة، في قصف المحالّ بالسوق المقابل لمنزلنا.
ثمّ كانت القاضية الليلة الماضية حين قصف الاحتلال منزل جارنا المقابل لنا، واستشهد أبناء وبنات ونساء وأطفال ورجال.. وقد رحلوا قبلي شهداءً عند ربهم. أما المصابون فلن يعودوا، فما عاد هناك مأوىً يؤويهم في المكان؛ فمن لي بأنيسٍ بعدكم؟ ومن لي بجارٍ بعدكم يحفظ سرّي، ولا يكشف ستري؟
لا أدري كيف تغمض لي عينٌ بعد أن سمعت أصواتكم الأخيرة، وكيف سيطلعُ عليّ صباحٌ، لأستقبل شمسه في غرفتي المطلّة عليكم، وقد رأيتكم مضرجين بدمائكم، ملفوفين بستائر الشبابيك البيضاء الناصعة؟
هذه قصتكم أيها الأبطال، سطرتم مجدكم بالدم، واخترتُ أن أنقلها للعالم بكثير من الحزن، وبشيء من المَهابة في الموقف الجَلل؛ علّني لا أكون عبدًا للصمت والانبطاح، وعلّكم لا تكونون أرقامًا في الإحصاءات الرسمية وخبرًا في البيانات الصحفية.
في الصباح، كانت النجاة من حظّنا، واستمرت الحياة بدورتها العادية نفسها، لم يتوقف القصف، وكان المخيم مثل حلقة النار، كل من داخلها مستهدفٌ، والخروج منها مغامرة لا تُحمد عقباها، وقد آثرنا البقاء، مع الدعاء بالسلامة.
"إنكِ لن تجدي الشمس في غرفة مغلقة" مقولة لغسان كنفاني في قصة قصيرة للأطفال، كتبتها كثيرًا في حكمة اليوم على سبورة المدرسة، وحكيتها مرارًا لطالباتي، مع نصيحة دائمة لهنّ: "افتحنَ شبابيككنّ أيتها الفتيات، واستقبلن الحياة، وعشن الحرية".
فتحت شباكي، لأستقبل شمس الصباح التي تطلع وسط الغبار في وطنٍ مقيّد، ندفع فواتيره بالدم، ألقيت تحية الصباح على البيت المقصوف أمامي، وجدت سيدة من الناجيات تبحث عن بقايا تنفعها من تحت الركام، لا أثر لأي شيء. أستغرب كيف تذيب هذه الأسلحة كلّ شيء، لا وجود لخزانات الأطفال، ولا لغرف الأولاد، ولا لأدوات مطبخ، ولا لملابس نساء، لا معلمَ من معالم الحياة سوى مجموعة من الحجارة المتراكمة التي سيضطر أهلها لهدمها بأيديهم مرة أخرى؛ للبحث عن مفقودين، أو لبنائها مرة أخرى.
مولود جديد تحت القصف
كنا على موعد جديد مع فرد جديد ينضم إلى العائلة، في ظروف هي الأصعب على المستوى الشخصي والأقسى على المستوى الوطني.
وشاءت الأقدار أن تنقطع الاتصالات والإنترنت في تلك الليلة، وفي الصباح أيضًا، لم نستطع الاتصال بأحد وسط الحصار المطبق على شمال غزة.
خرج اخي وسط النار للبحث عن سيارة اسعاف تمر بالصدفة في الشارع، علها زوجته التي جاءها المخاض وحان موعد ولادتها تجد طريقاً لمشفى او عيادة. لا مجال لركوب سيارة مدنية فقد تكسرت شبابيك سيارة عمي بعد قصف البيت المقابل في الليلة الفائتة، كما ان مستشفى العودة والمستشفى الاندونيسي في مخيم جباليا يتعرضان للقصف بشكل مكثف في محاولة للضغط على المستشفى للإخلاء. كان من حسن الحظ ان لدينا طبيبة نساء وولادة في البيت من النازحين استطاعت توليدها في البيت.
استقبلنا مولودة جميلة، لكنهم حرمونا المسرّات، فما عدنا نعرف كيف نفرح بطفلة تخرج من رحم الألم؟ وماذا عسانا نفعل مع طفلة تضجّ بالحياة في بلدٍ تصرخ أطفاله فزعًا من أغوال الموت، وتبكي من وحوش تحمل المتفجرات. استبشرنا خيرًا بإنجاب الفتاة، ودعونا أن تكون سنة نبات وبنات؛ ففي الموروث الشعبي الفلسطيني مثلٌ شهير: "سنة البنات نبات، وسنة الفحول محول"، فقد كانت السنة المنصرمة سنة غلب فيها إنجاب الذكور، أما سنة البنات فهي سنة الخير بإذن الله. ودعوتُ لها في سري أن ترى أيامًا أجمل من أيامنا، وألّا تفتح عينها على بلدٍ محتل تُسلب فيه كل حقوق الطفولة، وأن يكتب لنا الله النجاة ببركة وجودها، وأن تحمينا الملائكة بحمايتها.
وعلى استحياء من دم الشهداء النازف كل ثانية في غزة، فتحت علبة شوكلاتة تأخرتُ في توزيعها على طالباتي، وكانت من نصيب الأطفال الصغار الذين لا يدركون ماذا يفعل بهم أعداء الإنسانية. ولأنّ الحزن قد تملك قلوبنا، لم نتحلقْ بدهشة حول الطفلة، ولم نطلق زغاريد الفرح في استقبالها، ولم تذبح لها العقيقة، ولم تطبخ لها الولائم، وحده الألم وليدَ اللحظات.
مع عودة الاتصال والإنترنت، أخبرتُ صديقي البحريني الذي يطمئن على حالي كل يوم، عن هذا الميلاد الجديد، فحدثني عن صديق سوداني له، شعرت زوجته بآلام الولادة في ظل حظر التجول الذي فرضه الجيش السوداني اثر انتفاضة اكتوبر 1964، فخاطب الجنود المتمركزين قرب منزله فوافقوا ببقية من مروءة على نقله وزوجته بالدبابة إلى المشفى. فقلت: يا ليت شعوبنا العربية تحمل شيئًا من شهامة العرب، أو بقية من حميّة الجاهلية، أو قليلًا من مروءة الإسلام، تشعل فيهم ثورة؛ علّها تطفئ لهيب النار المستعرة في غزة، وليتهم ينهضون؛ لينهوا الإبادة الجماعية لأهلهم في غزة، ويقفون وقفة رجل واحد؛ ليرفعوا هذه الغمّة عن أهلهم في غزة، التي اشتدت، وضاقت، واستحكمت حلقاتها. وهذه الحكاية لن تنتهي، ما دام في العمر بقية، وفي الروح نَفَس.
المصدر: رؤيا الأخباري
كلمات دلالية: فلسطين قطاع غزة تل أبيب جيش الاحتلال الإسرائيلي فی غزة
إقرأ أيضاً:
كانت حامل.. مفاجآت واعترافات صادمة بقضية مقتـ.ل عروس المنوفية ضحية الزوج
قبل أربعة أشهر فقط، خطت بقدميها إلى منزل أسرته بالفستان الأبيض، لتخرج منه جثمانًا تحويه «ملاية».. لم تتخيل «كريمة محمد صقر» عروس المنوفية، ابنة العشرين ربيعًا، أن تتبدد الأحلام وتتحول أيام السعادة المنتظرة الى أيام عذاب، بسبب ما تعرضت له العروس على يد زوجها، قبل أن تنتهي سلسلة العذاب بضربة قاتلة فاضت روحها على إثرها، لترحل العروس، ابنة قرية ميت بره بالمنوفية، التي احتفلت بزفافها إلى زوجها «أيمن» العامل، الذي يكبرها بـ 4 أعوام منذ 4 أشهر فقط.
بدأ مسلسل العنف الزوجي والاعتداء بالضرب منذ الليلة الأولى من الزواج، إذ أكدت العائلة المكلومة أن ابنتها تعرضت للضرب منذ الليلة الأولى، إثر عنف زوجها وعدم تعامله بالهدوء معها، وعلى الرغم من محاولات شقيق زوج عروس المنوفية المتهم، الدفاع عن شقيقه، لكنه أكد خلال حديثه بأحد البرامج التلفزيونية، اعتداء شقيقه بالفعل على العروس الفقيدة، قائلًا: «أخويا كان بيضرب مراته».
وأكدت الأم المكلومة على ابنتها، ووالد العروس المتوفاة، أنهما رأيا آثار الضرب والتعذيب على جثمان ابنتهما، بعد رؤيته بالمشرحة، عندما علما بالأمر، إذ أوضحت الأم التي تلقت الخبر كالصاعقة أنها صممت على أن تغسل جثمان ابنتها، قائلة: «لقيت بنتي وشها أزرق وعينها حابسة دم، وجسمها كله كدمات».
كشف أحمد طلبة، المحامي بالنقض ودفاع أسرة عروس المنوفية، تفاصيل جديدة وخطيرة في القضية، مؤكدًا أن توصيفها القانوني لا يندرج تحت بند الضرب المفضي إلى الموت كما أُشيع، بل هي جريمة قتل عمد مقترنة بجناية إجهاض، ما يجعل العقوبة الإعدام وجوبيًا دون سلطة تقديرية للمحكمة في تخفيفها.
وأوضح طلبة، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج «الصورة» الذي تقدمه الإعلامية لميس الحديدي على شاشة «النهار»، أن القضية أُحيلت إلى محكمة جنايات شبين الكوم لتحديد أقرب جلسة لنظرها، مشيرًا إلى أن توصيف الجريمة يستند إلى المادة 234 فقرة 2 من قانون العقوبات، والتي تنص على توقيع عقوبة الإعدام إذا اقترن القتل العمد بجناية أخرى اقترانًا زمنيًا وسببيًا، مشددا على أن الجاني ارتكب جريمتي القتل والإجهاض في ذات التوقيت وبسبب واحد، ما يوجب تطبيق العقوبة الأشد قانونًا، دون جواز النزول بها.
عن اعترافات المتهم أمام النيابة، أقر قائلًا: «ضربتها لحد ما ماتت»، كما كشف تقرير الطب الشرعي عن تعرض المجني عليها إلى أكثر من 22 ضربة قوية ومتتالية بالقدم في منطقة القفص الصدري، ما أدى إلى كسر إحدى عظام الصدر وحدوث نزيف في الرئتين وتوقف عضلة القلب.
وجاء بالتقرير، أن الضحية تعرضت للتعدى بالضرب بعنف بأجزاء متفرقة من جسدها الهزيل، ما أودى بحياتها فى واقعة تعدى مأساوية هزت أرجاء المجتمع المنوفي.
وذكر التقرير، أن « كريمة» العروس المجنى عليها، تعرضت لضربات موجعة بالرأس وسائر جسدها، ما أدى لتأثر اجهزة الجسد الحيوية وتوقفها عن العمل، الامر الذى ترتب عليه مصرعها ومفارقتها للحياه تأثرا بالامها المبرحة.
وأضاف أن الضربات امتدت إلى منطقة البطن، ما تسبب في إجهاض الجنين وحدوث نزيف حاد، لافتًا إلى أن العظمة المكسورة من أصعب عظام الجسم كسرًا، ولا تنكسر إلا نتيجة عنف شديد.
أشار المحامي، إلى أن واقعة الاعتداء لم تكن الأولى، حيث تعرضت المجني عليها للضرب عدة مرات منذ الأسبوع الأول للزواج، بواقع نحو أربع اعتداءات سابقة، وفيما يتعلق بتصرف أسرة الجاني عقب الواقعة، أوضح أن المتهم أبلغ والدته بعد الجريمة، التي حاولت استدعاء طبيب للكشف على الضحية داخل المنزل، وبعد تأكيد الوفاة، طلبت الأسرة من الطبيب تحرير تقرير يفيد بأن الوفاة طبيعية، إلا أنه رفض وغادر متجهًا إلى الوحدة الصحية، دون أن يبلغ الجهات المختصة، وهو ما وصفه الدفاع بالأمر المثير للتساؤلات.
وأكد محامي أسرة الضحية، أن القضية تحمل أركان جريمة مكتملة تستوجب أقصى عقوبة ينص عليها القانون.