معركة في الإعلام والأخلاق بقلم: أ. د. بثينة شعبان
تاريخ النشر: 15th, January 2024 GMT
في مقابلة عضو المجلس السياسي الأعلى في اليمن، محمد علي الحوثي، مع مذيعة في هيئة الإذاعة البريطانية، قدّم الحوثي للغرب والشرق درساً في الإعلام والأخلاق، وأظهر تفوّقاً معرفياً ووجدانياً وتاريخياً على هيئة إذاعة ادّعت أنها الأعرق والأقدر على إيصال المعلومات.
كانت أجوبة الحوثي تُظهر فرقاً شاسعاً بين مذيعة سطحية منفعلة عنصرية لا تعرف قيمة وأهمية ما تُثيره من مكنونات ثقافتها الاستعمارية، وبين صاحب شأن وقضية تماهى معها فكراً وروحاً وأداءً.
لم تخجلْ المذيعة أن تعتبر نفسها ممثلة للاحتلال الإسرائيلي بكلّ إجرامه وإبادته للمدنيين من أطفال ونساء حين قالت: «إنّ ما يجري في البحر الأحمر لم يؤثر في الاحتلال الإسرائيلي من أجل وقف الحرب على غزّة»، فأجابها الحوثي وبكلّ بسالة: «إذا لم يؤثّر فيهم، إذاً لماذا شكّلوا تحالفاً دولياً»؟ وجواباً عن سؤال المذيعة بشأن علاقة الحوثيين بفلسطين، وهم يبعدون أميالاً عمّا يجري في قطاع غزّة، قال الحوثي: «يعني الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو يسكنان في شقة واحدة؟! والرئيس الفرنسي يسكن في الطابق نفسه؟ ورئيس الوزراء البريطاني يسكن في العمارة نفسها؟ أم أن بينهم وبين إسرائيل آلاف الأميال»؟
في هذه الأجوبة الذكية والنافذة تعرية واضحة للمنطق الاستعماري المتعالي الذي يستخدمه الغرب ضدّ العرب والشرق والإقليم من دون أن يتوقع تطبيق المعادلة ذاتها عليه، ولو أن المتحدثين يحاولون أن يحاكموا نظراءهم الغربيين بالمعايير ذاتها التي يطرحونها عليهم، لأحدثوا فرقاً هائلاً في المقاربة.
نقطة الانطلاق يجب أن تكون جهل الغرب، واعتماده على سياسات عنصرية بغيضة، وعلى تاريخ استشراقي لا يمتّ لواقعنا بصلة، والنقطة الثانية هي دحض الأوهام التي زرعها الغرب في عقول سكّان الأرض بأن إعلامه موضوعيّ وحياديّ وأنه قويّ وحضاريّ، وقد برهنت السنوات الأخيرة، وخاصة ردود فعل الغرب، حكومات وإعلاماً وكونغرس وبرلمانات، على أبشع إبادة في التاريخ جارية الآن في غزّة، على أنه غرب عنصريّ موتور مهزوم وسطحيّ ولا يقيم للقيم والأخلاق وحياة البشر من غير الغربيين وزناً على الإطلاق.
مذيعة بريطانية أخرى كانت تهذي وهي من المفترض أنها تجري مقابلة سياسية مع الأستاذ مصطفى البرغوثي، فتحوّلت إلى ابنة شارع تردح بجهل عن افتراضات استشراقية مغلوطة، نهلتها من تربية عنصرية مقيتة معادية للعرب فجمعت بين الجهل المعيب، وقلة الأدب المخجلة حين اتهمت الأستاذ البرغوثي بأنه لا يريد أن يتكلم إليها لأنها امرأة، وألمحت إلى أن العرب لا يحترمون المرأة ولا يقدّرونها ولا يتكلّمون معها، لقد حملت في طيّات كلماتها جهلاً مُخجلاً بالعرب وتاريخهم، وانحيازاً مُخزياً لاستشراق بغيض ألّف جملة من الأكاذيب عن العرب، ومازال الغرب وكلّ من فيه يجترّون هذه الأكاذيب على مدى قرون من دون أن يتوقّف أحد منهم ليستكشف كذب وتضليل هذا الاستشراق، لهذه المذيعة أقول: إن امرأة عربية حكمت مملكة تدمر منذ ثلاثة آلاف عام، وإنّ المرأة العربية بدأت النوادي الأدبية منذ آلاف السنين، وفي التاريخ الحديث كان لدى النساء العربيات أكثر من عشرين ألف مجلّة تُؤلف وتُطبع وتُوزّع من النساء قبل الحرب العالمية الأولى، حين كانت نساء أوروبا في ظلام عميق. المرأة العربية لها تاريخ من الحضارة والرّقيّ والأخلاق، والرجل العربي سندٌ للمرأة العربية وفخورٌ بها، فلا تحاولي أن تفرضي جهلك وعنصريتك البغيضة على مشاهديك. إنه لمخجل بالفعل أن تكون مذيعة بهذه الضحالة وبهذه التفاهة وبهذا الموقف العنصريّ البغيض من مقاومٍ ومناضلٍ محترم، لقد بدا الفرق واضحاً بين فتاة سوقية وبين مناضل أخلاقي يحترم ذاته، ولا يرفع صوته مع أنها تصرّفت بقمّة قلّة الأدب معه، وهذا بحدّ ذاته يُري الفرق الحضاري بيننا وبينهم.
هذا هو الغرب ذاته الذي أوقف البرنامج المشهور للشاب الموهوب مهدي حسن، وأوقف عمله مع ثلاثة من المقدمين المسلمين لأنهم تجرّؤوا على قول الحقيقة، وهذا الغرب هو الذي لم يكتفِ بإقالة رئيسة جامعة هارفارد التي يتغنى الغرب كلّه بأهميتها ولكنه لاحق الرئيسة بأنها لا تستحقّ أصلاً أن تكون رئيسة جامعة وأنها تبوّأت هذا الموقع فقط لأنها ذات سحنة سوداء ومن أجل التعبير عن التعدّدية في المجتمع الأميركي.
الخلاصة الواضحة والأكيدة من مئات الأمثلة المشابهة والتي فجّرتها حرب الإبادة الصهيونية على غزّة هي أن مقولة الإعلام الحِرّ في الغرب سقطت سقوطاً مدوّياً، وأنّ جهل الغرب بواقع الحال مخزٍ، وأنّ ما يدّعونه غالباً من تفوّق معرفي وأخلاقي هو مجرّد دعاية رخيصة لإقناع الآخرين بالتبعية لهم، كلّ ذلك يعني أننا وصلنا الى الحدّ الفاصل الذي لا يجوز معه بعد اليوم أي مجاملة أو تردّد أو موقف رمادي، ولا بدّ للمواقف أن تكون واضحة، فلا جدوى من الظهور في الإعلام الغربيّ، ولا ضرورة أبداً أن نشرح قضايانا على وسائل إعلامهم لأن هدفهم الوحيد هو استخدام من يظهر معهم لتبرير وجهات نظرهم وليس لاستكشاف أي حقائق أو إجراء حوار جدّي يلقي الضوء على معلومات جديدة أو مفيدة.
حريٌّ بنا، إضافة إلى مقاطعة المنتجات الغربية ومقاطعة الجلوس في المقاهي التي تساند العدوّ الإسرائيلي، أن نقاطع الإعلام الغربي مقاطعة كاملة؛ إذ لا جدوى من الحديث إليهم خاصة أنهم لا يمتلكون لياقة الحديث أو لياقة النقاش أو لياقة احترام الآخر، ومن ناحية أخرى لن يؤثّر هذا الكلام في شيء لأنهم مؤدلجون على عنصرية مقيتة لا تقيم لشعبنا ولا لحياتنا ولا لأرضنا ولا لمستقبلنا وزناً، وقد تكون هذه إحدى الخلاصات الكثيرة الجمّة التي سوف يتوصّل إليها العالم في السنوات المقبلة نتيجة حرب الإبادة الوحشية التي يشنّها الغرب حالياً ضدّ المدنيين العُزّل في غزّة بهدف استعمار أرضها وجلب الغربيين لاستيطانها، فحرب الإبادة بحقّ الفلسطينيين وهذا التطهير العرقي الصهيوني الآثم للشعب الفلسطيني لن يكونا ذا نتائج عسكرية أو سياسية وحسب، وإنما سيكونان ذا نتائج تاريخية وحضارية ومجتمعية، وسوف تصل ارتدادات ذلك إلى العالم برمّته، كما أن جنوب إفريقيا رفعت شعاراً منذ عهد المناضل العالمي نيلسون مانديلا أنه لا يمكن لجنوب إفريقيا أن تكون حرّة إلى أن تصبح فلسطين حرّة، وأنّ حرية جنوب إفريقيا لن تكون مكتملة من دون حرية الشعب الفلسطيني، وأنّ العالم اليوم لا يمكن أن يكون حرّاً إلا أن تكون فلسطين حرّة، والإنسان اليوم، حيثما كان ومهما كان موقعه، لا يمكن أن يكون حرّاً إذا لم يتخذ موقفاً واضحاً ومؤيداً لحقّ الشعب الفلسطيني في الحياة والحرية والكرامة.
إنّ ما تقوم به جنوب إفريقيا اليوم من رفع دعوى إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية ضدّ الصهاينة المجرمين هو أول الغيث، وإنّ محاكم كثيرة في العالم سوف تنشأ وتُدين الصهاينة المجرمين وكلّ من وقف معهم أو أيّدهم أو مارس الصمت عن جرائمهم وإبادتهم وتطهيرهم العرقي.
جرائم بهذا الحجم لا تنتهي آثارها مع دفن الشهداء، بل ستبقى تتفاعل في ضمائر البشر إلى أن تغيّر الواقع الذي سمح بارتكابها، وإلى أن تتعزّز المسيرة الإنسانية لخلق روادع في وجه المجرمين، وكل من تسوّل له نفسه الاستهانة بحياة البشر، أو مدّ يد العون للقَتَلة والمجرمين كما يفعل الغرب اليوم. وينطبق على الصهاينة فيما ارتكبوه من جرائم قول اللـه عزّ وجلّ: «فسَوَّلتْ له نفسُه قتْلَ أخيه فَقَتَلَه فكان من الخاسرين». أي إن القاتل هو الخاسر وليس الشهيد المقتول ظلماً، وأوجه الخسارة هذه سوف تتضح وتتفاعل بأشكال وطرائق وارتدادات ونتائج مهيبة خلال الأشهر والسنوات القادمة، وستُثبت أن القَتَلَة هم الذين سوف يدفعون ثمناً باهظاً لما ارتكبوه من جرائم وليس الشهداء المظلومين الذين سوف يكونون في أعلى عليين مع الأنبياء والصّديقين والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
إنّ الدماء الطاهرة، دماء الأطفال والنساء والجرحى والنازحين والكوادر الطبية والإعلامية، التي نذرت نفسها لخدمة أخواتها في الإنسانية سوف تشعل أنوار دروب التخلّص من الهيمنة الغربية، وسوف تسرّع من ولادة عالم متعدّد الأقطاب، قائم على الأساس الإنساني الرائد الذي طرحه الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو «بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية الذي يتمثّل في التنمية المشتركة والأمن والأمان الدائمين، والاستفادة المتبادلة بين الحضارات، ورفض جميع التصرّفات من سياسة القوّة والتنمّر، وتأسيس التعدّدية القطبية المتّسمة بالالتزام بالمساواة بين جميع الدول بغضّ النظر عن حجمها ورفض الهيمنة وسياسة القوّة وتعزيز ديمقراطية العلاقات الدولية بخطوات ملموسة».
إنّ الغضب الذي يتمثّل في نفوس آلاف الملايين من البشر في كلّ القارات من سفك الصهاينة بدم عنصريّ بارد كل هذه الدماء الطاهرة في فلسطين، والاصطفاف الغربيّ الأعمى والمخزي إلى جانب القَتَلة، وعجز المنظومة الدولية عن فعل إجراء ملموس يوقف القتل والدمار، سوف يجد طريقه وسوف تتمّ ترجمته إلى إجراءات ملموسة وواضحة وبنّاءة بعد أن انكشفت الحقائق بوضوح ما بعده وضوح، وسوف تستمرّ صرخات الأطفال ونداءات المرضى والجوعى في غزّة وفلسطين بصمّ آذان أجيال قادمة تتحرّك قُدماً لتحقيق الحرّية والكرامة ليس لفلسطين فقط، وإنما للنفس البشرية في كلّ مكان.
فلسطين سوف تكون منارة لتحرير الإرادة الإنسانية من ربقة الاستعمار والوحشية والجهل والاستشراق الغربيّ، وسيكون الداعمون للحقّ والعدل في فلسطين هم أصحاب الحظّ الكبير لأنهم سوف يكونون منارة التغيير الجريء والشريف، والذي لا شكّ بأنه قادم لأن مؤشّراته أصبحت واضحة تماماً في الأفق؛ فمن يقف مع فلسطين يقف مع نفسه ومع إنسانية الإنسان، ومن يدافع عن الأقصى وكنيسة القيامة يُدافع عن نفسه وعن القيم الإنسانية النبيلة، ولن تُفيد حينئذ السّرديات الغربية المنافقة الجاهلة، التي بدأت تتساقط كأوراق خريف صفراء. إذا كان الصهاينة اليوم يتلقّون جزءاً من ثمن دعمهم لنظام الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا منذ ثلاثين عاماً فهم لا يعلمون ما ينتظرهم من جميعّ البشر الأحرار على سطح هذا الكوكب في السنوات والعقود القادمة.
جريدة الوطن السورية
أ. د. بثينة شعبان 2024-01-15ruaaسابق يوم جديد من عملية طوفان الأقصى.. أبرز التطورات انظر ايضاً مسافـة صفر..بقلم: أ. د. بثينة شعبانمسافة صفر مصطلح سياسي وعسكري جديد دخل إلى سردية اليوم بعد أن صاغته دماء مقاتلين …
آخر الأخبار 2024-01-15الحرارة إلى انخفاض وتحذير من تشكل الضباب والصقيع في بعض المناطق 2024-01-15مراسل سانا في الحسكة: خروج محطة تحويل كهرباء الدرباسية عن الخدمة جراء تعرضها لاعتداءات من قبل مسيرات الاحتلال التركي 2024-01-15الجيش الروسي يدمر 3 صواريخ أوكرانية استهدفت كورسك 2024-01-15إصابة فلسطينيين اثنين واعتقال آخرين في الضفة الغربية 2024-01-15مصرع 11 شخصاً على الأقل جراء أمطار غزيرة في ريو دي جانيرو بالبرازيل 2024-01-15هطولات مطرية متفرقة أغزرها 27 مم في مشتى الحلو بريف طرطوس 2024-01-15كوريا الديمقراطية تنجح في اختبار إطلاق صاروخ باليستي يعمل بالوقود الصلب 2024-01-15زاخاروفا: على الغرب وقف تسليح نظام كييف إذا رغب بحل أزمة أوكرانيا 2024-01-14المقاومة الفلسطينية تواصل تصديها لقوات الاحتلال في قطاع غزة 2024-01-14استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص قوات الاحتلال في البيرة
مراسيم وقوانين الرئيس الأسد يصدر مرسوماً تشريعياً بإحداث الشركة العامة لصناعة وتسويق الإسمنت ومواد البناء 2024-01-06 الرئيس الأسد يصدر القانون رقم (1) الخاص بتنظيم عمل الاتحاد الوطني لطلبة سورية 2024-01-06 مرسوم يسمح بدورة امتحانية واحدة فقط للشهادة الثانوية بدءاً من العام الدراسي 2024-2025 2024-01-04الأحداث على حقيقتها خروج عدد من محطات تحويل الكهرباء في الحسكة عن الخدمة جراء اعتداء تركي 2024-01-14 أهالي قرية طاش حواس بريف الحسكة يتصدون لرتل للاحتلال الأمريكي 2024-01-06صور من سورية منوعات كوريا الديمقراطية تنجح في اختبار إطلاق صاروخ باليستي يعمل بالوقود الصلب 2024-01-15 روبوت لتنظيف ألواح الطاقة الشمسية بأياد طلابية وطنية 2024-01-14فرص عمل الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد تعلن عن حاجتها للتعاقد مع 39 مواطناً بعقود عمل سنوية 2024-01-07 الخارجية تعلن أسماء الناجحين في مسابقة تعيين عدد من العاملين الدبلوماسيين 2023-12-17الصحافة معركة في الإعلام والأخلاق بقلم: أ. د. بثينة شعبان 2024-01-15 موقع أمريكي: (إسرائيل) تهدف إلى جعل غزة مكاناً لا يمكن العيش فيه 2024-01-14حدث في مثل هذا اليوم 2024-01-1515 كانون الثاني 1971- الاحتفال بمصر بمناسبة إتمام بناء السد العالي 2024-01-1414 كانون الثاني 1814 – انفصال الدنمارك عن النرويج 2024-01-1313 كانون الثاني 1958 – 9000 عالم من 43 دولة يطالبون الأمم المتحدة بحظر التجارب النووية 2024-01-1212 كانون الثاني 1976- مجلس الأمن الدولي يصوت بأغلبية 11 صوتاً لصالح السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بحضور جلساته 2024-01-1111 كانون الثاني1922- استخدام الأنسولين أول مرة لعلاج داء السكري 2024-01-1010 كانون الثاني 1863- بدء العمل في لندن بأول خط قطار أنفاق في العالم
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |
المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء
كلمات دلالية: جنوب إفریقیا کانون الثانی فی الإعلام لا یمکن أن تکون إلى أن
إقرأ أيضاً:
مختصان لـ"اليوم": مبالغ المشاهير الخرافية تشوّه مفهوم النجاح وتربك وعي الشباب
أكد مختصون في علم النفس والتربية أن اهتمام الجمهور المتزايد بأرقام دخل المشاهير ليس أمرًا عابرًا، بل يعكس دوافع نفسية متجذرة أبرزها الفضول والمقارنة الاجتماعية، والتي تبدأ منذ الطفولة وتستمر مدى الحياة.
وأوضحوا في حديثهم لـ"اليوم" أن هذا الفضول الفطري يدفع الأفراد لمتابعة تفاصيل حياة المشاهير، فيما تسهم المقارنة الاجتماعية في تغذية شعور داخلي بعدم الرضا، خاصة عندما تُطرح أرقام خيالية تُربط بالنجاح والثروة. كما حذروا من خطورة هذا المحتوى على الشباب، لما له من آثار نفسية وسلوكية تمتد إلى تشكيل قناعات خاطئة وتقليد أنماط غير واقعية، داعين إلى دور توعوي أكبر من الإعلام والمجتمع لتوجيه البوصلة نحو نماذج حقيقية أكثر قيمة وصدقًا.
أخبار متعلقة حج 1446هـ .. وصول أولى رحلات ضيوف الرحمن من الجزائرالقبض على 7 مهربي ومروجي مخدرات في منطقتينالفضول وحب الاستطلاع
وأكد أستاذ علم النفس البروفيسور محمد بن مترك القحطاني، أن اهتمام الجمهور بالأرقام التي تُنشر حول دخل المشاهير يعود إلى دافع نفسي متجذر في الإنسان يُعرف بـ"دافع الفضول وحب الاستطلاع"، مشيرًا إلى أنه دافع يظهر منذ مرحلة الطفولة ويستمر طيلة حياة الفرد.د .محمد بن مترك القحطانيالقحطاني
وأوضح أن هذا الدافع يدفع الأشخاص للسعي إلى معرفة تفاصيل حياة الآخرين، خاصة المشاهير، من باب إشباع حاجة داخلية فطرية للمعرفة.
ولفت القحطاني إلى أن هذا الفضول يبدأ مبكرًا؛ فالطفل يركض نحو الباب لمجرد سماع صوت طرقه، أو يرفع سماعة الهاتف دون طلب من أحد، وهو السلوك ذاته الذي يفسر انجذاب البالغين لمتابعة حياة المشاهير وتفاصيل دخولهم ونمط معيشتهم.
وأشار إلى أن هذه الممارسات تنبع من الرغبة في الفهم والاطلاع، وهي حاجة نفسية يشارك فيها الجميع بدرجات متفاوتة. وأضاف أن "المقارنة الاجتماعية" تعد أحد المحركات الرئيسة لهذا الاهتمام، إذ يميل الفرد بطبيعته إلى قياس وضعه مقارنة بالآخرين، وخاصة أولئك الذين يعيشون حياة الرفاهية والشهرة.
المشاهير وسيلة ترفيه
وبين أن بعض الأفراد ينظرون إلى المشاهير كوسيلة للترفيه، بينما يرى آخرون فيهم نماذج مثالية يسعون لمحاكاتها، سواء في الشكل أو السلوك أو أسلوب الحياة.
وحذر القحطاني من أن نشر أرقام خيالية عن دخول المشاهير يخلق تصورات مشوشة وغير واقعية حول مفهومي النجاح والثروة، موضحًا أن بعض الشباب قد يشعر بالإحباط أو حتى الانكسار عندما يدرك صعوبة تحقيق تلك النجاحات، مما يؤثر على سلامته النفسية وثقته بذاته.
وبيّن أن النفس البشرية تنجذب بطبعها إلى الأمور غير المألوفة، سواء كانت أصواتًا مرتفعة أو أحداثًا مفاجئة، وهذا ما يفسر انجذاب الجمهور للأرقام الفلكية المتداولة حول المشاهير، حيث تثير هذه الأرقام الخيال وتغذي روح المغامرة الكامنة في الإنسان.
التأثر بالمشاهير يغير سلوك المستهلك
وأشار إلى أن سلوك المستهلك يتأثر مباشرة بتصوراته عن المشاهير، موضحًا أن ظهور أحدهم وهو يروّج لمنتج معين يمنح المتابعين انطباعًا ضمنيًا بجودة المنتج. وأضاف أن كثيرًا من القرارات الشرائية، خصوصًا بين الشباب، تنطلق من هذا الارتباط النفسي بين شهرة المروج وقيمة ما يقدمه.
وشدد البروفيسور القحطاني على أهمية الدور التوعوي الذي يجب أن تضطلع به وسائل الإعلام، بمختلف أشكالها، إلى جانب المؤسسات التعليمية وأولياء الأمور، في تعزيز التفكير النقدي لدى النشء، وتحصينهم من تصديق كل ما يُعرض في الإعلام أو عبر المنصات الرقمية على أنه واقع مسلم به.
مسؤولية أخلاقية
وأشار إلى أن المسؤولية الأخلاقية تقع أيضًا على عاتق المشاهير أنفسهم، من خلالرباب أبو سيف رباب أبو سيفالطريقة التي يقدّمون بها ثرواتهم وحياتهم للجمهور، مؤكدًا أن الأجيال الصغيرة تكتسب سلوكياتها من خلال ما يُعرف في علم النفس بـ"التعلم بالنمذجة"، حيث يتأثر الفرد بالنموذج الذي يشاهده ويعيد إنتاجه في حياته الخاصة.
وأوضح أن هذا التقليد قد لا يتوقف عند المظاهر السطحية مثل قصة الشعر أو أسلوب اللباس، بل يمتد إلى تبني قناعات وسلوكيات معينة، ما يعزز الحاجة إلى أن يكون النموذج قدوة حقيقية في القيم والمبادئ. ووجّه القحطاني دعوة صادقة إلى الشباب والمراهقين، بل وإلى الكبار أيضًا، لاختيار نماذج إيجابية يحتذون بها.
وأشار "القحطاني" إلى أن الإسلام يزخر بشخصيات عظيمة يُمكن أن تُشكّل مصدر إلهام حقيقي، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، والسلف الصالح.
وأكد أن هذه النماذج تقدم دروسًا إنسانية رفيعة في الصدق، والكرم، والاحترام، والعطاء، وهي القيم التي يجب أن تُزرع في نفوس الجيل الجديد لتشكل درعًا واقيًا من التأثر السلبي بالمحتوى الإعلامي المضلل.
أزمة المقارنة الاجتماعية
من جهتها قالت أكدت أخصائية التربية الخاصة رباب أبو سيف أن الاهتمام المتزايد بأرقام دخول المشاهير على منصات التواصل الاجتماعي ليس محض فضول عابر، بل يرتبط بآليات نفسية عميقة، أبرزها "المقارنة الاجتماعية"، التي تدفع الأفراد إلى قياس مكانتهم بناءً على نجاحات الآخرين، خاصة من نالوا الشهرة والثروة.
وأوضحت أن هذا النمط المتكرر من المحتوى قد يُحدث تشويشًا في المفاهيم، حيث يصبح المال هو المعيار الوحيد للنجاح، ويُغفل جانب الاجتهاد والعمل الحقيقي، ما ينعكس سلبًا على الرضا الذاتي، لا سيما عند مقارنة الأفراد لدخولهم المحدودة بأرقام خيالية يتم تداولها على نطاق واسع.
وأضافت أن هذه الظاهرة لا تقتصر آثارها على الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى السلوك الاستهلاكي، إذ ينجذب الكثيرون لاقتناء المنتجات التي يروج لها المشاهير في محاولة لمحاكاة نمط حياتهم، وهو ما تستغله الحملات التسويقية التي تصنع صورة زائفة للنجاح السهل.
وحذّرت أبو سيف من التأثيرات السلبية لهذه الرسائل على فئة الشباب، ومنها الشعور بالإحباط، وضياع القيم، وتقليد أنماط حياتية تفوق إمكاناتهم، مشددة على أهمية بناء محتوى توعوي حقيقي يكشف زيف هذه الأرقام، ويعيد تصويب البوصلة نحو نماذج نجاح أكثر واقعية ومصداقية.
واختتمت حديثها بالتأكيد على أن بعض الأفراد قد يقعون في فخ تصديق الأرقام المبالغ فيها تحت تأثير الجماعة أو للهروب من الواقع، مطالبة المشاهير بتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والشفافية مع جمهورهم، خاصة من فئة المراهقين، لأن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالأموال فحسب، بل بالأثر الإيجابي والتميز الحقيقي.
التوصيات
تعزيز التفكير النقدي لدى النشء عبر المناهج التعليمية والإعلام التوعوي.
توجيه الإعلام لصناعة محتوى واقعي ومتوازن بعيدًا عن تضخيم الثروات.
دعوة المشاهير للتحلي بالشفافية وتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه جمهورهم.
تحفيز الشباب على اختيار قدوات إيجابية من التاريخ والدين والمجتمع.
توعية الأهل والمعلمين بأهمية توجيه الأبناء نحو قيم العمل والاجتهاد.
ربط مفاهيم النجاح بمعايير جوهرية مثل الإنجاز والأثر المجتمعي لا الثروة فقط.
تحذير الجمهور من الوقوع في فخ الدعاية المضللة المربوطة بالمشاهير.
دعم مبادرات الإعلام الهادف التي تسلط الضوء على نماذج نجاح حقيقية.
تنظيم حملات توعوية للكشف عن زيف بعض الأرقام المتداولة.
تشجيع الشباب على بناء هويتهم بعيدًا عن تقليد أنماط لا تناسب واقعهم.