هل سيفكر باقي العالم غير الغربي في تأسيس منظمة بديلة للأمم المتحدة بعيدا عن هيمنة الغرب بزعامة الولايات المتحدة، بعدما أظهرت التجارب في حل النزاعات غلبة الكيل بمكيالين في قضايا متعددة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؟ أمر وارد خلال العقدين المقبلين، إذا لم يتم تحقيق توازن واحترام للقانون الدولي في منهجية تعاطي العلاقات الدولية، لاسيما في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة.
إذ منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، وكلما سنحت له الفرصة، يحذّر وزير خارجية فرنسا الأسبق دومينيك دو فيلبان من الشرخ القائم بين الغرب وباقي العالم في القضايا الدولية. وينسب بداية الشرخ إلى ما وقع في حرب العراق حيث جرى قتل أكثر من مليون شخص وتشريد الملايين بخدعة وجود أسلحة كيماوية ونووية في حوزة العراق، إبان حقبة الرئيس صدام حسين. ويرفع صوته عاليا ومنبها من خطورة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين، مبرزا أن هذه الحرب لخصوصيتها الثقافية والدينية والتاريخية تهدد استقرار العالم، وتزيد من الشرخ بين الغرب وباقي العالم وتهدد الأمم المتحدة.
وتاريخيا، كلما حدث شرخ تترتب عنه نتائج وخيمة للغاية، وفي حالة العلاقات الدولية الحالية، ستمس النتائج الوخيمة استقرار المؤسسات الدولية، التي تحاول لعب دور الوصاية الإيجابية، والحكومة الموجهة لشعوب العالم نحو السلام والاستقرار والتعاون، وعلى رأسها الأمم المتحدة. وخلال السنتين الأخيرتين، يتضح هذا الشرخ بين العالم الغربي الرسمي (نستثني جزءا مهما من الرأي العام الغربي الذي لا يتفق مع سياسة حكوماته) بقيادة الولايات المتحدة وباقي العالم من دون قيادة واضحة، وإن كانت مجموعة البريكس بزعامة الصين تبلور زعامة هادئة وتدريجية لهذا التكتل. فشل الغرب في حشد العالم ضد روسيا في حربها ضد أوكرانيا، ثم فشل الغرب في فرض تصور الإرهاب في وصفه للمقاومة الفلسطينية في مواجهة الاستعمار الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول «عملية طوفان الأقصى». وقراءة قرارات مجلس الأمن الدولي حول النزاعات الدولية، يتضح من دون الحاجة إلى حل تشفير مدى الانحياز الأعمى، وبشكل سافر لكل ما يمس قضية تهم الغرب، وتدخل في صميم أمنه القومي مثل حالة إسرائيل.
وتهيمن القضية الفلسطينية على الأجندة العالمية، على الرغم من وجود ملفات أخرى، ربما أخطر، وهذا يعود للطابع التاريخي والروحي والثقافي لهذه القضية. وتقف غالبية العالم متعجبة سلبا من موقف الغرب الرسمي الذي يساند حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، ما دفع بدولة مثل جنوب افريقيا إلى رفع دعوى ضد إسرائيل بتهم حرب الإبادة. ويخلف موقف الغرب الرسمي مرارة لدى معظم دول العالم. ومن نتائجه، ترتفع أصوات الدول وأصوات الاتحادات القارية والتجمعات الإقليمية وأصوات الخبراء، بأنه حانت ساعة تطوير الأمم المتحدة على أسس جديدة، وذلك لسببين: الأول ويتجلى في الشيخوخة التي أصابت هندسة وقوانين الأمم المتحدة، التي جاء إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية، وفي سياق مختلف عن الفترات الزمنية اللاحقة ومنها الوقت الراهن. ويتمثل السبب الثاني في هيمنة تصورات ومصالح القوى الكبرى، خاصة الغربية منها على حساب استقرار العالم وعلى حساب باقي الشعوب، وكأن العالم مقسم بين شعوب الله المختارة، التي تتمتع بحقوقها وتدوس على حقوق الغير، وشعوب مطالبة بثقل الإهانة والمهانة التاريخية. الحديث عن هيئة أمم بديلة والتخلي عن الحالية، وارد خلال العقد المقبل، وقد تنتهي الأمم المتحدة مثل سابقتها عصبة الأمم التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تنجح في احتواء الصراعات، لأن هندستها القانونية وقتها كانت تشهد خللا من الصعب مواكبة التطورات التي كانت تحدث، وأدت إلى الحرب العالمية الثانية. وعند الحديث عن حدوث هذه الفرضية، يكون الحديث عن وجود عوامل رئيسية قد تؤدي لها وهي:
في المقام الأول، كانت الأمم المتحدة تاريخيا تحت هيمنة الغرب الرسمي، خاصة في ظل وجود ثلاثة أصوات فيتو مقابل صوتين في مجلس الأمن لصالح الغرب، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في مواجهة الصين وروسيا. غير أن هذه الهيمنة بدأت تتراجع بشكل كبير، بسبب اكتساب دول من حجم تركيا والبرازيل وجنوب افريقيا وإيران، حضورا دوليا في تشكيل قرارات المنتظم الدولي.
في المقام الثاني، هيمنة الغرب الرسمي دبلوماسيا على الأمم المتحدة، وتوظيفها لأغراضه نابع من القوة العسكرية والاقتصادية للغرب بزعامة الولايات المتحدة. وعلى الرغم من استمرار الغرب الاحتفاظ بقوته، إلا أن ظهور قوى أخرى مثل روسيا والصين ومجموعة البريكس، جعل الغرب الرسمي يفقد الركيزة الاقتصادية والعسكرية لفرض أجندة في العالم. ومن ضمن الأمثلة، فشل الغرب في فرض حل لحرب روسيا – أوكرانيا، ويقف عاجزا أمام تطورات البحر الأحمر، بعدما قررت حركة الحوثيين في بلد منهك مثل اليمن فرض واقع جديد في الملاحة الدولية.
في المقام الثالث، وارتباطا بالسبب الثاني، لا يمكن في عالم يتشكل جيوسياسيا في قطاعات ومجالات حساسة مثل التجارة العالمية، والاستثمار، والقوة العسكرية بقيادة الصين مدعومة بروسيا وعشرات الدول، أن يبقى حبيس الأمم المتحدة الحالية.
يمر النقاش حول الأمم المتحدة بمراحل وهي: التشكيك في دور الأمم المتحدة بعدما فشلت في حل النزاعات وساهمت مؤسسات مرتبطة بها مثل، صندوق النقد الدولي في إفقار الشعوب، وانتقلت إلى مرحلة ضرورة إجراء تغيير جوهري على القوانين المنظمة لهذه المنظمة، لكي تتكيف مع الواقع الجيوسياسي العالمي الآخذ في التبلور، وأخيرا ستكون مرحلة البحث عن بديل إذا لم يتم حدوث الإصلاح.
إن توظيف الغرب للأمم المتحدة لعرقلة حل القضية الفلسطينية، على الرغم من عشرات القرارات المنصفة، خاصة في القضية ذات الجذور الدينية والثقافية التي تمس استقرار العلاقات الدولية، سيكون من العناصر الرئيسية نحو إصلاح جذري لهذه المنظمة أو إيجاد بديل لها مستقبلا.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينية احتلال فلسطين غزة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الأمم المتحدة
إقرأ أيضاً:
فايننشال تايمز: صمت الغرب وسماحه لائتلاف نتنياهو المتطرف بقتل سكان غزة مخز
وصفت صحيفة فايننشال تايمز صمت الغرب والولايات المتحدة، على ما يفعله الاحتلال بسكان قطاع غزة، بـ"المخزي"، وقالت إن كارثة جديدة ستحل بالسكان، بسبب ائتلاف نتنياهو المتطرف.
وأوضحت هيئة تحرير الصحفية، في مقال ترجمته "عربي21"، أن الهجمات المتتالية على سكان غزة الذين يعانون من كارثة، تجعل من الصعب عدم الظن أن الهدف النهائي لائتلاف نتنياهو المتطرف، هو ضمان أن تصبح غزة غير قابلة للحياة، وإخراج الفلسطينيين من أرضهم عنوة.
وأضافت: "مع ذلك فإن الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية التي تتخذ من إسرائيل حليفا لها، وتزعم أنها تشترك معها في القيم، لم تصدر عنها عبارة تنديد واحدة. عليهم أن يخجلوا من صمتهم، ويجب عليهم الكف عن تمكين نتنياهو من التصرف في مأمن من العقاب".
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
بعد تسعة عشر شهرا من الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين ونجم عنه توجيه اتهامات لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب، ها هو بنيامين نتنياهو يعد العدة مرة أخرى لتصعيد هجوم إسرائيل في غزة. تضع الخطة الأخيرة إسرائيل على مسار الاحتلال الكامل للأرض الفلسطينية، ومن شأنها أن تدفع بأهل غزة نحو جيوب أضيق فأضيق من القطاع المدمر. ولسوف تؤدي إلى المزيد من القصف المكثف وإلى قيام القوات الإسرائيلية بإخلاء المنطقة التي تحتلها بينما تدمر ما تبقى في غزة من منشآت قليلة.
سوف تكون تلك كارثة أخرى تحل بسكان غزة الذين يعدون 2.2 مليون نسمة، والذين ما لبثوا يخضعون لما لا يمكن وصفه من المعاناة. كل هجوم جديد يجعل من الصعب عدم الظن بأن الهدف النهائي لائتلاف نتنياهو اليميني المتطرف هو ضمان أن تصبح غزة غير قابلة للحياة وإخراج الفلسطينيين عنوة من أرضهم. لقد سدت إسرائيل على مدى شهرين السبل في وجه جميع المساعدات وحالت دون وصولها إلى القطاع، وباتت معدلات سوء التغذية بين الأطفال في ارتفاع مضطرد، وتكاد المستشفيات القليلة التي مازالت تعمل تخلو تماما من الأدوية، بينما ترتفع الأصوات محذرة من المجاعة وانتشار الأمراض.
ومع ذلك فإن الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية التي تتخذ من إسرائيل حليفا لها، وتزعم أنها تشترك معها في القيم، لم تصدر عنها عبارة تنديد واحدة. عليهم أن يخجلوا من صمتهم، ويجب عليهم الكف عن تمكين نتنياهو من التصرف في مأمن من العقاب.
في عبارات مقتضبة يوم الأحد، أقر دونالد ترامب بأن أهل غزة "يتضورون جوعا"، واقترح بأن تقوم الولايات المتحدة بالمساعدة في إيصال الطعام إلى القطاع. ولكن لم يصدر حتى الآن عن رئيس الولايات المتحدة إلا ما يشجع نتنياهو ويجرئه.
عاد ترامب إلى البيت الأبيض متعهدا بإنهاء الحرب في غزة بعد أن ساعد فريقه في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في يناير (كانون الثاني). وافقت حماس بموجب الصفقة على إطلاق سراح الرهائن على مرحلتين، بينما كان يفترض أن تنسحب إسرائيل من غزة، وأن يتوصل الخصمان إلى وقف إطلاق دائم.
ولكن خلال أسابيع من بدء سريان وقف إطلاق النار، أعلن ترامب خطته المثيرة للعجب لإخلاء غزة من الفلسطينيين تمهيدا لوضع الولايات المتحدة يدها عليها. ثم في شهر مارس (آذار) أسقطت إسرائيل وقف إطلاق النار وراحت بدعم من واشنطن تسعى إلى تغيير بنود الاتفاق.
صرح كبار المسؤولين الإسرائيليين منذ ذلك الوقت بأنهم ينفذون خطة نتنياهو لنقل الفلسطينيين من غزة. ويوم الإثنين قال وزير المالية اليميني المتطرف بيزاليل سموتريتش: "وأخيرا سوف نقوم باحتلال قطاع غزة."
يصر نتنياهو على أن الهجوم الموسع بات ضروريا من أجل تدمير حماس وتحرير 59 رهينة. والحقيقة هي أن رئيس الوزراء لم يخرج بخطة واضحة المعالم منذ بدء الحرب التي أشعلها هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 والذي قتل فيه 1200 شخص. بدلا من ذلك، لا تراه يكف عن تكرار شعاره الذي لا يتنازل عنه، ألا وهو "النصر التام"، بينما يسعى لإرضاء حلفائه المتطرفين من أجل ضمان بقاء ائتلافه الحكومي.
ولكن إسرائيل أيضا تدفع ثمنا مقابل أفعاله. فالهجوم الموسع من شأنه أن يخاطر بحياة الرهائن، ويزيد من تقويض سمعة إسرائيل الملوثة أصلا، ويعمق الانقسامات الداخلية.
صرحت إسرائيل بأن العملية الموسعة لن تبدأ إلا بعد زيارة ترامب إلى منطقة الخليج الأسبوع المقبل، وقالت إن ثمة "نافذة" أمام حماس لإطلاق سراح الرهائن مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار. يشتاط الزعماء العرب غضبا إزاء إصرار نتنياهو على الاستمرار في شن الحرب بلا هوادة على غزة، ومع ذلك فسوف يرحبون بترامب ويقيمون له الاحتفالات الباذخة، ويقدمون له التعهدات بإنفاق مليارات الدولارات على الاستثمار وعلى صفقات السلاح.
حينما يتحدث ترامب مع مضيفيه الخليجيين سوف يضع اللوم على حماس. فالهجوم القاتل الذي شنته المجموعة يوم السابع من أكتوبر هو الذي أطلق العنان للهجوم الإسرائيلي. توافق دول الخليج على أن استمرار حماس في الإمساك بمقاليد الأمور في غزة عامل من العوامل التي تطيل أمد الحرب. ولكن يجب عليهم أن يتصدوا لترامب وأن يقنعوه بأن يضغط على نتنياهو حتى يوقف القتل ويرفع الحصار ويعود إلى المحادثات.
لا ريب في أن حالة الارتباك العالمي التي أثارها ترامب قد شغلت الناس عن الانتباه إلى النكبة التي تحل بغزة. ولكن كلما طال أمد هذه النكبة، كلما زاد تواطؤ الصامتين أو الذين يُجبرون على السكوت.