بمضي الـ15 من أبريل الجاري يكون مر عام على اندلاع الحرب في السودان بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع”، وهو عام ليس طويلاً كما لا تكون الأعوام في غير مثله فحسب، بل مضرجاً مضنياً أيضاً. واحتاج منا إلى وقفة نحيط بها بهذه الحرب لمعرفة بواعثها واللواحق منها على بناء الدولة في السودان.

ومن الصعب التفاؤل مع ذلك إن كان فكرنا السياسي يتمتع بالمروءة التي سينهض بها بمثل هذه الوقفة المستحقة.

وكان ألكس دي وال، الأكاديمي البريطاني من دارسي السودان الحاذقين، نعاه في كلمة له في 2009 فوصفه بأنه مرهق. وخلت به السياسة من فكرة كبيرة سوى من تكتيكات تخدم أصحابها لمجرد البقاء في الميدان السياسي.

فجرب السودان، في قول ألكس، حكومات للاستبداد الممركز، والديمقراطية البرلمانية، ودولة الحزب الواحد، والثورة الاشتراكية، والثورة الإسلامية، والحكم الإقليمي والذاتي، والفيدرالية، ولكنها فشلت الواحدة إثر الأخرى وترامت خرائبها تسد الرؤية عن كل طريق سياسي آخر.
وهذا الإفلاس في الفكر مما استعان عليه باحث آخر بقوله تعالى “بئر معطلة وقصر مشيد” عن جفاف الفكر في مواعيننا الحزبية. فكل أبنية الأحزاب، التي هي بنات عقود الأربعينيات إلى الستينيات، استقت من عيون الفكر الجاريات في العالم حيناً، ثم تلاشى الظرف، وهمد دفقه، وبقيت أبنية العقائد لا تريم. وأكثر ما عطل بئر فكر الصفوة السودانية خبو نار مصر الثقافي. فلم تشق هذه الصفوة تاريخياً طريقاً مستقلاً للفكر العربي الإسلامي أو الغربي لا يمر بمصر. فتوزعت في جيلها الأول “عقاديين” و”رافعيين” بالاسم. ورضعت الأجيال اللاحقة لها الماركسية والإسلامية والقومية العربية من ثدي مصر مباشرة.

ولما لم تعد مصر تضخ ما كانت تضخه على السودان من ثقافة الشرق والغرب انحسر الفكر في عروق أحزابنا. ولم يعوض ذلك هجرة أعداد مرموقة من هذه الصفوة للغرب وغيره هجرة أدنتهم من مشاربه, ولكن حال دون الأخذ منها غلبة المعارضة السياسية المحض للنظم الديكتاتورية التي كانت غادرت البلاد غبينة بسببها. وهي غبينة ألهتم عن وصل ما انقطع من وصلهم مع مصادرهم الغربية.

وزاد طين الآبار المعطلة بلة غلب الاشمئزاز من الحرب في أوساط الحداثيين، الذين يجتمعون في تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم)، على طلب المعرفة عنها. فلا يذكرها الواحد منهم إلا واكتفى بوصفها بـ”الملعونة” أو “الخبيثة” ونادى بوقفها معجلاً. وهذه شهامة روحية مقدرة. ولكنهم أطفأوا بها تلمسهم النور للمعرفة بفقه الحرب التي تهلك الحرث والنسل. فمن خطايا الحرب الذميمة في نظرهم التضحية بالسودانيين جمعاء لـ”طموح جنرالين”، كما جرت العبارة، للحكم. فهما يجران البلاد للخراب في حرب تأذى منها المواطنون، الذين لا ناقة لهم ولا بعير، بزعازع احتلال البيوت ونهبها، والتهجير القسري الذي يقارب التطهير العرقي، والقصف المدفعي والجوي.

وبدا هنا أن الحداثيين يخلطون بين “المواطنين” و”المدنيين” في استنكارهم لما يتكبده الناس من ويلات الحرب. فمن غير الواقعي القول إنه ليس للمواطنين دخل في الحرب. فهم، على طرفي الحرب، شركاء فيها متى أحسنا تحليلها في سياق صراع سوداني طويل لبناء دولة وطنية مدنية حديثة. فكثير منهم مثلاً لا يرغب في العيش في كنف دولة، أو لا دولة، مما يرونه ليومنا من “الدعم السريع” في قرى الجزيرة مثلاً.

أما متى تحدثنا عن المواطنين كمدنيين فحقهم في الحياة والتملك مما صانه القانون الدولي الإنسانين وعليه فالضرر الواقع على المواطنين من الحرب ليس حجة على عبثية الحرب، بل على إدارة حرب استهدفت المواطن في ماله وعرضه ربما بأكثر مما قصدت العسكريين. وصح بالنتيجة التداول في ما يتكبده المواطن من الحرب كمدني توفر له الأطراف المتحاربة الوقاية من الأذى لا كمواطن الحرب عنده هي السياسة بطريق آخر.

وتبطل مع ذلك صفة الحرب بالعبثية عند صفوة الحداثيين متى ما جاءوا لتعيين من بعث الحرب ذميمة. فجميعهم على الاتفاق أن الفلول – الكيزان هم من أشعل الحرب، بل هم من حملوا القوات المسلحة حملاً لخوضها تجرجر رجليها. والخطة من وراء إثارة الفلول للحرب، في قولهم، هو العودة للحكم بالقضاء على ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أطاحت بدولتهم وشرعت في التحول الديمقراطي.

ربما رأى الحداثيون في مساعي الفلول العودة عبثاً، أو حتى نكتة من فرط شطط مطلبهم، ولكنها مساع في طلب الحكم، أو استعادته، تجعل من الحرب جداً لا عبثاً. وما ينفي العبثية عن هذه الحرب، من الجهة الأخرى، عزيمة الحداثيين في مثل تقدم ألا يسمحوا بعودة الفلول للحكم. فمن أين يأتي العبث لحرب أراد من بعثها ذميمة الاستيلاء على الحكم في البلاد وتعاقد خصومه في “تقدم” و”الدعم السريع” على ألا يعود له إلا على جثثهم؟

ومن جانب آخر فإنك متى عينت الطرف المعتدي في الحرب، وهم الفلول، خضت في فقه الحرب. وأول هذا الفقه هو تحديد من المعتدي في الحرب. فمبدأ الحرب العادلة مأذون للمعتدى عليه حق الرد وأن يستعين بمن شاء لرد العدوان.
ونواصل

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: من الحرب فی الحرب

إقرأ أيضاً:

حوار مع صديقي المصري عاشق السودان

ليس كلُّ مصري يعرف أىَّ شئ عن السودان، واِنْ كان معظمهم يزعمون ذلك خاصةً سائقي سيارات الأُجرة!! ولعل مردّ ذلك ناتج من كثرة مخالطتهم (لاخواتهم) السودانيين ولكثافة وجود أبناء السودان منذ زمن بعيد في مصر، لكن صديقي المصري عاشق السودان يعرف بلادنا عن قرب ومعايشة لصيقة بأهله، ذلكم هو الدكتور عبدالعاطي المناعي الطبيب الانسان رائد السياحة العلاجية، ومن المفارقات أنه لم يدخل السودان أولَ مرةٍ بصفته طبيباً- إنَّما زاره بصفته مديراً لأعمال المحسن الكبير الشيخ الحاج سعيد لوتاه، لينفذ مشروعاً له في ولاية الجزيرة حيث توطدت صلته بالأستاذ عبد المنعم الدمياطي، والبروفسير الزبير بشير طه، والفريق أول عبد الرحمن سرالختم، والأستاذ عبد الباسط عبد الماجد، وغيرهم كثير، ومن ثم انداحت علاقاته مع أهل السودان، الذي زاره لأكثر من خمسين مرة، وأقام فيه السنوات ذوات العدد وأسس فرعاً لمركز ترافيكير، وشهد لحظة اندلاع الحرب، وعاش في قلب المعارك بالخرطوم لمدة تزيد عن شهرين متتاليين وانتقل لمدني ثم بورتسودان قبل أن يغادر إلى جوبا عاصمة جنوب السودان، وكتب كتاباً- تحت الطبع- وثَّق فيه بعضاً من شهادته على الحرب!!

د.المناعي قال لي وهو في حالٍ من الدهشة عن ما يجري من بعض ضيوف مصر من أهل السودان الذين وصلوا بعد الحرب إذ لم يجد فيهم مثل من عرفهم من قبل!!
قال: شهدت مصر لجوء كثيرٍ من العرب من دول مختلفة، ولكنها لا تعتبر السودانيين لاجئين، فأهل مصر يعتبرون أهل السودان أشقاء بحق وحقيقة، هذه هي القاعدة، وإن كان لكل قاعدة شواذ!!
لكن ما تُظهره بعض فئات السودانيين من سلوكيات غير مناسِبة لأناسٍ وطنهم فى حالة حرب وجودية يكون بعدها أو لا يكون .. شئ يجعل الحكيم حيران!!

حفلات ساهرة ورقص خليع، نحن لم نَرَ مثل ذلك من جنسيات أخرى سبق وصولها لمصر وصول السودانيين بعد الحرب!!

صحيح أن معظم السودانيين فى حالة ذهول وحزن شديدين، ويتحرَّقون شوقاً للعودة لبلادهم، لكن تفشي ظاهرة هذه السهرات طغىٰ على ما سواه من ما يعانيه أهل السودان في مصر من آلام مع قسوة الحياة خارج أرضهم وديارهم !!

والناشطون من السودانيين على وسائل التواصل الإجتماعي، وهو الإعلام الأكثر تأثيراً والأسرع وصولاً للمتلقي، مشغول بسفاسف الأمور ومحاربة طواحين الهواء أما الإعلام الرسمي فمحصلته صفر كبير مع شديد الأسف.

وعلى ذكر الإعلام يقول د.المَنَّاعى لماذا لا نلحظ اهتماماً من إعلام سائر الدول العربية تجاه ما يدور فى السودان، ومصر ليست أستثناءً ؟؟
فى الوقت الذي نجد فيه إعلاماً سالباً تنشط فيه دولة الإمارات مع دورها المعروف في هذه الحرب، لدى كل دول العالم !!

ويختم د.المناعى هذه التساؤلات الحيرىٰ بتأكيده أن السياسة ليست من اهتمامته، لكن الوضع الماثل قد اضْطَره لطرح هذا الموضوع على كل سوداني يلتقي به، فهو عاشق للسودان ولكل ماهو سوداني!!!

وهكذا لم يَدَعْ صديقي المصري عاشق السودان، لِىَ ما أقول!! فالحقُّ أًنطَقه وأخْرَسَني، وبدا الحوار وكأنه من طرفٍ واحد.

والحقيقة أن ماتنضح به مجالس السودانيين في مصر أو بالأحرىٰ في القاهرة عن مثل هذه الممارسات الشائنة شئ لا يمكن الدفاع عنه، بل هى أشياءَ لا يمكن السكوت عليها، ولكن ما باليد حيلة، اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يشعرون، ولا أقول لا يعلمون، فالأمر لا يحتاج إلى علمٍ أو كثير بيان، ومع كون أن التعميم ظالم، فهنا في مصر الكثير جداً من الأسر الكريمة المتعففة التي تعانى من شظف العيش في بلد ليس له فيها مصدر رزق ولا قريب قادر على التخفيف من وطأة الحياة اليومية فهم فى بلد [مافيهاش يامَّه أرحمينى] !!

ولربما وجد بعضاً من المطربين والمطربات وفِرَقَهم العذر في أن ما يفعلونه هو لجني المال لأنهم في بلد القول المأثور فيها [معاك قرش تساوي قرش، ما معاكش ما تسواش] !! لعن الله الفقر فإنه يذل أعناق الرجال، ولربما امتثلوا للمقولة الشعبية السودانية [بلداً ما بلدك أمشي فيها عريان] !!
لكن تلك المقولة -على عوارها- كانت مبلوعة قبل أن يصبح العالم كقرية واحدة يُرى فيها العريان أين ما كان !!

عفواً صديقي الفاضل فإن ما تراه هو من عقابيل الحرب التي لم تكن في الحسبان، أو على الأقل ليست بمثل هذه الصورة البشعة، عسىٰ أن تكون خيراً لنا،قال تعالى:-
﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ شَرࣱّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾

جزىٰ اللهُ الشدائدَ كلَّ خيرٍ عرفت بها عدوِّى من صديقى ، ياصديقى.

محجوب فضل بدري

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/11 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة نسمع ضجيجاً ولا نرى2025/12/11 إبراهيم شقلاوي يكتب: العودة للخرطوم ورسائل مفضل2025/12/11 إسحق أحمد فضل الله يكتب: (يا أيها القبر… كم أنت حلو)2025/12/11 هذه المقالة حِصراً لغير المتزوجين2025/12/10 قصة السرير !!2025/12/10 الجيش والمليشيات: لكن الدعم السريع وحش آخر2025/12/10شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات آلهة “تقدم” تعاقبنا بحمل صخرة الكيزان صعوداً وهبوطاً إلى قيام الساعة 2025/12/10

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • “أن تكون مع بوتين أفضل من الحرب”
  • بيتكوفيتش: “نحن المرشحون ولكن علينا أن نُظهر ذلك”
  • صديق المهدي .. المشروع المدني الديمقراطي هو الوحيد القادر على إيقاف الحرب
  • وقفات جماهيرية في القبيطة تحت شعار “جهوزية واستعداد .. والتعبئة مستمرة”
  • أمانة العاصمة تشهد وقفات شعبية حاشدة تحت شعار “جهوزية واستعداد.. والتعبئة مستمرة”
  • حوار مع صديقي المصري عاشق السودان
  • عطاف: الحركية التي تطبع العلاقات “الجزائرية-التونسية” تقوم على ثلاثة أبعاد أساسية
  • الجيش الإيراني يزيح الستار عن منظومة الحرب الإلكترونية “صياد 4”
  • السيّد: هل تكفي الدولارات القليلة التي تحال على القطاع العام ليومين في لبنان ؟
  • حل لغز القراءات الغريبة التي سجلتها مركبة “فوياجر 2” لأورانوس عام 1986