مؤتمرات الفلسفة والاغتراب الفلسفيّ
تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT
عاشت الفلسفة ردحًا من الزمن في اغتراب ما ورائي، شغلت الإنسان عن واقعه وسنن الطبيعة، فكانت علة الوجود الأولى أخذت حيزًا كبيرًا من رؤيته وتفلسفه، ثم الإغراق في كشف صفاته وعلاقته بالمتناهي، وهل هو خارج عنه أو فيه أو هو ذات سننه ووجوده، حينها كان التفلسف في معرفة الذات والآخر والوجود ثم اللامتناهي ما يبرره، حتى جاء عصر الأنوار، فنقل الإنسان إلى البحث في الذات والطبيعة من خلال ما يصلح الإنسان في هذا الوجود، ومن خلال علوم مختلفة نشأت عنها، كالأخلاق والدولة والدستور وحقوق الإنسان والجمال والنظام وقيمه الكبرى، فلم يعد العدل مثلا في اغترابه الماورائي، بل أصبح لصيقًا بالإنسان كقيمة كبرى في علاقته مع ذاته والآخر، من الأسرة إلى نظام العمل والدولة.
ومن يحضر بعض مؤتمرات الفلسفة في عالمنا العربي يجد عناوين كبرى تلامس الواقع المعيش، وهذا شيء حسن، بيد أنه يجد العديد من ورقات المؤتمر لا تريدك أن تخرج من اغترابات اليونان أو العهد الوسيط، أو حتى اغترابات المصطلحات المعاصرة، فتعيش في اغتراب آخر يماثل الاغتراب الماورائي، وبعض الأوراق أشبه بقاموس أسماء الفلاسفة، وكأنه يستحضر أنه يحفظ عشرات الأسماء وطرقهم الفلسفية، وبعض الأوراق لا تتجاوز «تهافت الفلسفة» «وتهافت التهافت»، فأصبحت الفلسفة أقرب إلى جدليات يربط الواقع بها لا أن تربط بالواقع، ويرهن الحاضر بظرفيتها لا أن ترهن بظرفية الواقع، فهناك من يلبس لباس الفلسفة المعاصرة، لكنه لا يتجاوز اغترابات المصطلحات الفلسفية وعلماء الفلسفة والجدليات العللية البعيدة عن الواقع المعيش.
لست هنا في موقع الحجر في دراسة المباحث الفلسفية الماضوية والمعاصرة، ولكني أجد عناوين كبرى في مؤتمرات فلسفية ترتبط بواقع الإنسان المعاصر، من الذات والمجتمع وحتى العلاقات الدولية، ومن البيئة والحدود القطرية إلى الطبيعة والعالم الأوسع، لتبحث في مشكلاته، وتسعى لإحداث حلول لواقعه، في شيء من التفلسف والتعقل والبحث والنظر، لكنك لا تخرج في الجملة عن نسخ ولصق ما يقال في هذا المؤتمر، هو ذاته ما سيقال في مؤتمر آخر، من جدليات المشائين والوراقين، إلى جدليات العصر الوسيط، مع ربطها بنظريات فلسفية معاصرة، أكثر من كونها إبداعا ذاتيا، فتضعف التجربة الذاتية في محاولة علاج القضايا البشرية والطبيعية والوجودية المعاصرة، بشيء من الإبداع والتفلسف الذاتي، وليس الاغتراب في المصطلحات والرموز والعلل الفلسفية التي تجدها بسهولة في قواميس وكتب الفلسفة، خاصة عن طريق التقنيات المعاصرة.
ومثيل هذا ما تجده في بعض المؤتمرات الفقهية، فتضع عناوين معاصرة، لقضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية في واقعنا الراهن، بتعقده وفلسفاته، وبتداخل نظرياته، ولكن أوراقها أو بعضها لا تتجاوز تفكير عهد السلف بنصوصه ومروياته، وإن تجاوزت إلى عصر المقاصد بكلياته الخمس أو الست، فتكون رهين تلك اللحظات التأريخية، وتريد أن تضيق العالم الواسع وتختزله في تفكير ماضوي له ظروفه وأسبابه ومشاكله الزمكانية الخاصة به، فيرتفع الإبداع في مناقشة قضايا الواقع الراهن.
ومقصدي هذا أنني لست ضد دراسة المباحث الفلسفية الماضوية والمعاصرة، في جوها الموضوعي والتقني البحت، فهذه حالة ليست سيئة، كما أنني لست ضد دراسة المفاهيم الفقهية والأصولية والكلامية في جوها المعرفي الموضوعي والتقني الخاص بها، ولكن أن نضع عناوين معاصرة لمناقشة وتحليل مشكلات الإنسان المعاصر، بينما تجد الأوراق المطروحة لا تريد أن نتجاوز ذات الاغترابات التي جاءت الفلسفة لتفكيكها، والبحث عن الإنسان وصلاح وجوده في الحياة، وتحقيق قيمه الكبرى في الوجود، فتجعلك مثل هذه الأوراق إما نسخا ولصقا لقضايا قتلت بحثا، أو تعيش اغترابا مصطلحيا أكثر منه إبداعا فلسفيا ومعرفيا، وقد تصبح بعض الأوراق المقدمة أقرب إلى الطلاسم، هدفها إظهار العضلات، وبأنه يحفظ رموزا فلسفية ماضوية ومعاصرة، أكثر منه إبداعا ذاتيا، يظهر فيها رؤية الباحث، واستقلال تفكيره، ونتاج دراسته وتأمله، ونقد واقعه، واستلهام مستقبلة، بحيث يقدم رؤية فلسفية إصلاحية واقعية، توجد حلولا لقضايا الإنسان الكبرى، وواقعه المعيش.
نعم، قد تكون من المؤتمرات أو الملتقيات التي أعدت سلفا في مناقشة القضايا الفلسفية في جوها التأريخي والموضوعي والتقني، في أوراق علمية محكمة، شأنها كشأن المجلات المحكمة، والتي تركز على القضايا الفلسفية البحتة، فهذا شأن آخر تماما يختلف عن مقصدنا، فهو حالة صحية بذاته، لا يمكن بحال الاستغناء عنه، ولا يمكن اليوم مثلا ترك المعارف في العهد الوسيط مثلا، فنحن بحاجة إلى إعادة قراءتها من خلال الذات، أو من خلال المعارف المعاصرة، لكن أن نعيش في اغترابها، مقابل عناوين معاصرة، أو نرهن الواقع بظرفيتها، فهذا موضع الإشكال، إذا لن يختلف العقل الفلسفي هنا عن العقل الفقهي، فكلاهما عقل سلفي تقليدي، الاختلاف فقط في اللباس، فهذا يلبس لباس الفلسفة، وذاك يلبس لباس الفقه، بيد أن التفكير واحد بينهما، تفكير نتاجات القرون الأولى، ونسخ لإبداعهم في ظرفية مختلفة تماما، مع رهن الواقع المعاصر بها.
أتصور أننا بحاجة أن نخرج المؤتمرات أو الملتقيات الفلسفية أو حتى الفقهية والأصولية والكلامية، وعموم الدراسات الإنسانية، من جوها الماضوي والتكراري، إلى جو آخر من النقد والإبداع وظهور رؤية الباحث ونظريته الخاصة، خصوصا إذا كانت القضايا المراد علاجها متعلقة بالواقع المعيش، وبقضايا الإنسان الكبرى، وبرهان مستقبله في ضوء المتغيرات المعاصرة، حتى لا ندور في دائرة الاغتراب الذي جئنا لتفكيكه من حيث الابتداء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
هروب من الواقع وصدمة في الزمن.. تفاصيل الحلقة الثانية من حكاية «فلاش باك».. صور
تواصل حكاية «فلاش باك» من مسلسل «ما تراه، ليس كما يبدو» تصاعدها الدرامي، حيث تأخذ الحلقة الثانية المشاهد إلى مساحة مشوّشة بين الذاكرة والواقع، وتضع البطل زياد الكردي في مواجهة مباشرة مع المستحيل، بعد أن عاد حساب زوجته المتوفاة للظهور فجأة.
هل مريم عادت من الموت؟تبدأ الحلقة الثانية من حيث انتهت الأولى، على وقع صدمة زياد الكردي «أحمد خالد صالح» من ظهور حساب زوجته الراحلة مريم «مريم الجندي» على فيسبوك كـ «أونلاين»، رغم مرور عامين على وفاتها.
زياد يبدأ في البحث عن هاتفها المهشم إثر الحادث، ويحاول فتحه عبثًا، ثم يتواصل مع شقيقتها المقيمة في ألمانيا، وصديقتها المقربة، لكن كلتاهما تؤكدان أنهن لا يملكن أي كلمات مرور لحسابها.
يلجأ زياد إلى أحد محال الصيانة لفتح الهاتف، وبعد عناء، يتمكن من الدخول، لكنه لا يجد إلا الرسالة الأخيرة المتبادلة بينهما، الحيرة تتضاعف، والواقع يزداد غموضًا.
«انت مين؟».. الرسالة التي قلبت كل شيءيقرر زياد أخذ المهدئ والنوم، لكن في صباح اليوم التالي، تصله مكالمة من ليلى آية عبد الرازق التي ترغب في لقائه لتمنحه هدية. يوافق، لكنه يتلقى في اللحظة ذاتها رسالة جديدة من حساب مريم تسأله: انت مين؟.
يرتبك زياد ويحاول تجاهلها، لكنه لا يستطيع طرد الشكوك من عقله.
في اللقاء مع ليلى، تهديه «لينس كاميرا» كهدية رمزية، لكنه يناديها بـ «مريم» دون قصد، مما يثير غضبها قبل أن يعتذر.
يتواصل زياد مع صديقه خالد المتخصص في السوشيال ميديا، والذي يفحص الحساب ويؤكد له أن الحساب مغلق منذ وفاتها ولم يُفعّل منذ عامين، ما يزيد ارتباك زياد، ويدفعه للانسحاب من موعده مع ليلى.
الصوت نفسه.. فهل هي مريم؟يبدأ زياد في مراسلة حساب مريم، ويحاول معرفة هويته، فيسألها: "انت مين؟" فترد: "انت اللي مين وعايز إيه؟".
يتصل بها عبر ماسنجر، لكنها ترفض الرد، ثم فجأة ترد، ويُصدم زياد عندما يسمع صوت مريم الحقيقي!
يغلق المكالمة في رعب، وتبدأ الذكريات المؤلمة في محاصرته.
الذكاء الاصطناعي.. هل هو الفاعل؟في محاولته لفهم ما يحدث، يبدأ زياد في مشاهدة فيديوهات عن الذكاء الاصطناعي (AI) والتقنيات التي تسمح بتقليد الأصوات. يخبره صديقه خالد أن "الصوت لا يمكن تقليده بدقة 100%"، ويطلب منه الاستمرار في الحديث مع الطرف الغامض.
عودة إلى الماضي: أول لقاء بين زياد ومريمفي "فلاش باك" جميل، نعود إلى أول لقاء بين زياد ومريم، حيث تتأمل مريم لوحة مؤثرة لأب يحمل ابنته الناجية من حريق، ويُخبرها زياد بأنه المصوّر، لتبدأ بينهما أولى لحظات التواصل والتقارب.
مريم لا تتذكره.. أم أن هذه ليست مريم؟يعود زياد للتواصل مع "مريم" عبر ماسنجر، فيسألها: "أنتي مريم زيدان الرسامة؟" فتجيب: "أه"، لكنه يكتشف أنها لا تعرفه إطلاقًا.
يطلب منها رسم صورة الفتاة الناجية من الحريق كـ"بورتريه"، فتوافق مقابل مبلغ مالي، وترسل له عنوان مكتبة في مصر الجديدة للقاء وتسليم اللوحة.
لكن عندما يذهب في الموعد، يفاجأ أن المكتبة مغلقة منذ سنوات، يتصل بها، فترسل له موقع مطعم تقيم فيه عيد ميلاد، لكنه لا يجدها، ويؤكد له الشيف أن الحفل انتهى.
يتصل زياد بـ"مريم" لتخبره أنها انتظرته طويلاً، وتمنحه رقم هاتفها للتواصل بدلًا من الماسنجر.
في النهاية، تدعوه للقاء في كافيه. عند وصوله، يرى فتاة تشبهها من الخلف تحمل علم الزمالك، لكن يتبين أنها ليست هي.
ثم يسمع صوتها تقول: "صلاح اتصاب.. راموس كسر صلاح!"
يندهش زياد ويقول: "هو صلاح راح الزمالك؟".
يفتش في هاتفه، فيكتشف أن الحادثة التي تتحدث عنها وقعت عام 2018، بينما هو في 2024.. .
تتصل به مريم فيديو كول، فيراها في نفس المكان الذي يتواجد فيه، لكنها غير موجودة في واقعه، الصدمة تكون عنيفة، ويُغمى على زياد.
يتكون مسلسل «ماتراه، ليس كما يبدو» من 7 حكايات مستقلة، يمتد كل منها على مدار خمس حلقات، ويُقدَّم في كل حكاية فريق عمل مختلف على مستوى الإخراج والكتابة والتمثيل، ما يجعله تجربة درامية متنوعة وغير تقليدية، حيث يجمع بين الحكايات الإنسانية والتشويق واللحظات النفسية المشوّشة التي تترك المشاهد في حالة تساؤل دائم عن الحقيقة.