سودانايل:
2025-05-16@17:21:30 GMT

حميدتي: نحن ذاتو عندنا شارع (2-2)

تاريخ النشر: 7th, October 2024 GMT

عرضنا في الحلقة الأولى من هذه الكلمة لمقال نشره سلمان محمد سلمان خبير المياه السابق بالبنك الدولي رئيس مجلس جامعة الخرطوم السابق على الوسائط أخيراً ملخصاً وافياً لكتابه "الدعم السريع: النشأة والتمدد والطريق إلى حرب أبريل 2023"، وأراد من المقال بيان لماذا كانت لقوات "الدعم السريع" هذه المتانة العسكرية التي تجلت في الحرب القائمة.

ومد أصبع الاتهام للفريق أول البرهان كونه المسؤول الأول والأساس عن توسع هذه القوات وتمددها. وبينما أحسن المقال في تبيان دور البرهان المركزي في تمكين "الدعم السريع"، إلا أنه انشغل بتذنيبه انشغالاً حال دونه واستثمار سرديته حسنة التوثيق لفهم أفضل للحرب.
تركيز على جانب واحد

ولو لم ينشغل سلمان بإدانة البرهان لتفريطه السياسي والمهني حتى أخرج هذا الوحش الذي يصارعه ليومنا لكان نصه الأوفر حظاً في إلقاء الضوء على دور "الدعم السريع" في الحرب من فوق وقائع ثابتة لا لغواً بالتراشق.
فلم يكن بذل البرهان "الدعم السريع" اعتباطياً. فكان اجتمع مع حميدتي في حلف بعد انقلابهما على الرئيس المخلوع عمر حسن البشير خلال الـ11 من أبريل 2019 في ما يعرف بـ"انقلاب الفيتو"، وهو ما تضطر له دوائر في النظام القديم بعد أن تغلب حيلة في لجم الثورة والقضاء عليها. فيخرج العسكريون مكرهين على النظام القديم باسم الانحياز للثورة يتربصون بها لتجميدها عند حد معلوم، أو القضاء عليها. وكانت تلك الأدوار في العمل ضد الثورة ما بوسع "الدعم السريع" القيام بها جزافاً من دون الجيش. وما يوم "الدعم السريع" في فض اعتصام الثوار عند القيادة العامة للجيش بالخرطوم أثناء ليلة وقفة عيد الفطر خلال الثالث من يونيو (حزيران) 2019 بسر. فاستباح "الدعم السريع" المعتصمين بعد ساعات من سحب المجلس العسكري الانتقالي قوات الجيش من حراسة بوابات القيادة العامة. وقال من شهد انتهاكات "الدعم السريع" في دارفور خلال العقد الأول من القرن في تحقيق عن فض الاعتصام صدر عن رابطة المحامين والقانونيين السودانيين، إن بصمتهم في الترويع داخل دارفور هي نفس ما شهده في ساحة الاعتصام، يهاجمون القرى بإطلاق النار، فالقتل والاغتصاب ونهب الممتلكات وحرق الدور.

هدم الثورة
أما أكبر مساهمة لـ"الدعم السريع" في هدم الثورة فكانت في الميدان السياسي. فكان حميدتي طليقاً غير مقيد كالعسكريين من هذه الجهة. فأدار أكبر الحملات في وجه الثورة وجيش فيها زعامات الإدارة الأهلية القبلية وشعبها. فجمعهم أول مرة في معرض الخرطوم الدولي، يوم غادر المجلس العسكري الانتقالي طاولة التفاوض مع "قوى الحرية والتغيير" (قحت) خلال مايو 2019 مستنكراً سقف مطالبها المرتفع. ولما رأى عزة "قحت" بغزارتها بالشارع تفرغ لحشد الناس حول المجلس العسكري الانتقالي ليريها "أنو ذاتنا عندنا شارع" كما قال. ولما دعت "قحت" للعصيان المدني لتعزيز موقفها في التفاوض مع المجلس العسكري هدد حميدتي من موقعه كنائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي كل مضرب بالفصل من الخدمة. وكان حميدتي "دينمو" الاعتصام أمام القصر الجمهوري خلال منتصف أكتوبر 2021 الذي اشتهر باسم "اعتصام الموز" عند عداته. وهكذا نجح أخيراً في امتلاك الشارع الذي سهر على تأليفه منذ قيام الثورة، وبشرعية ذلك الشارع قام العسكريون في الجيش و"الدعم السريع" بانقلابهم على الحكومة الانتقالية خلال الـ25 من أكتوبر 2021، وكان الانقلاب المسمار الأخير في نعش الثورة.
لم يكن البرهان يمطر تلك الهبات على حميدتي سهواً أو اعتباطاً. كان يدفع بعطاياه لو شئت ثمن تلك الخدمات لمشروع القضاء على الثورة، ولم يكن حميدتي يتقبلها كإحسان، بل كدين مستحق له وكانت استقلالية قواته نصب عينه.
ولم يتصالح حميدتي مطلقاً مع فكرة دمج قواته في القوات المسلحة. ولم يسهر على تأمين استقلال قواته دستورياً فحسب، بل لم يكف عن عرضها كجيش ثان. فمن جهة القانون قال سلمان إنه عارض فكرة تبعية قواته للجيش حتى على عهد "حكومة الإنقاذ". فقال إنه ظل طوال شهر يراجع مع قادة النظام مادة التبعية للجيش بقوة. وبدا أن قانون "الدعم السريع" لعام 2017 اعتبر معارضة حميدتي تلك فجعل قيادة قواته بيد رئيس الجمهورية لا قائد القوات المسلحة، ورهن دمجه في الجيش بقرار من رئيس الجمهورية لا أية جهة أخرى في الدولة. واستكمل حميدتي استقلاله عن الجيش بتعديل قانونه خلال أغسطس (آب) 2019 كما تقدم.
ومن جهة أخرى، لا يعرف المرء عدد المرات التي قال فيها حميدتي صراحة إنه لن يخضع للدمج في القوات المسلحة، فعقيدته الراسخة هي أن "الدعم السريع" جاء ليبقى. فخلص في حديث له في تأبين أحد العسكريين عام 2021 إلى أن كلام دمج "الدعم" في الجيش بلا طائل لأن الدعم قام بقانون صادر عن برلمان منتخب، وعليه فهو ليس كتيبة أو سرية تدمجها في الجيش متى شئت. وكان الإعلامي الطاهر حسن التوم سأله عام 2018 أي بعد عام من إجازة قانون "الدعم السريع":
الطاهر: ما مصير "الدعم السريع" بعد انتهاء مهمتها هل تكون جزءاً من الجيش؟
حميدتي: يكون وضعها قوات دعم سريع تتدرب وتتأهل، وهي قوات الآن.
الطاهر: يعني تظل موجودة؟
حميدتي: يعني انتهت المهمة يشيلوها يجدعوها، واللا كيف؟
الطاهر: تنضم إلى الجيش.
حميدتي: هي جيش.
الطاهر: تدمج.
حميدتي: هي ليست ميليشيات كي تدمج، هي أصلها قوات.
وبعد أن وقفنا على عزائم حميدتي أن يظل جيشاً ثانياً صح أن نسأل إن لم يكن الاتفاق الإطاري (الخامس من ديسمبر 2023) الذي دعا إلى دمج "الدعم السريع" في الجيش خطة خرقاء اتفقت لـ"قحت" في حين أن هذا الدمج ما قاومه حميدتي بغير هوادة؟ تزهو "قحت" بعد الحرب بأنها كادت بالاتفاق الإطاري توفق في خلق جيش مهني وطني واحد لولا عداوة الإسلاميين حتى أشعلوا الحرب لكي يعودوا إلى الحكم وجروا الجيش معهم في هذا الطريق الدموي. ولو أدركت "قحت" مقاومة حميدتي الطويلة للحفاظ على استقلالية قواته مما جاء كثيراً في سردية سليمان لربما توقفوا عن دفعه في طريق الدمج جزافاً، فكثيراً ما قال حميدتي عن الثوريين أنفسهم إنهم "يسنون سكينهم" لذبحهم وأنه لن يسكت على ذلك. لقد قبل بالتوقيع على الاتفاق الإطاري مكاء وتصدية وما في القلب في القلب. وحين سئل عن المدة التي سيستغرقها ذلك الدمج قال "20 سنة". وهذا كلام زول قنعان كما نقول. "ما بتبايع"
وهل كسب حميدتي استقلال قواته من الحرب؟
نعم، فإذا طالعت الوثيقة التي وقعها مع تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) في أديس أبابا (يناير 2024) ستجدها خلت من دمج قواته في الجيش. وخلافاً لذلك، دعا عهد أديس أبابا لقيام جيش مهني وطني تنحل فيه القوات المسلحة و"الدعم السريع" والحركات المسلحة. وعليَّ وعلى أعدائي.
جاء سلمان بسردية حسنة التوثيق عن منشأ "الدعم السريع" مما كنا انتفعنا منها في تحليل محيط للحرب ودوره فيها، ولكنه اختار لها أن تكون عريضة اتهام بوجه البرهان. وهكذا تسرب من بين أيدينا مورد معرفي كنا امتلكنا به ناصية مهمة من الحرب.

وليه ما خرجت الحرب من رحم الاتفاق الإطاري الفطير؟ (1-2)

حين قنع الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة ظاهراً وباطناً من خير في المجتمع الدولي حيال حرب السودان، قال إن الخروج منها إلى بر السلامة سيكون بـ"الملكية الوطنية للحلول" أي بالعون الذاتي. ولا أظنه طرأت له الموارد الفكرية ضمن هذه الملكية الوطنية للحلول.
وذكر البرهان هذه الموارد أو لم يذكرها فهي في حال "بيات وطني" منقطعة لعقود في صراع بين يمينها وحلف الوسط واليسار فيها. صراع بمثابة "فش غبينة" مرضية كان الإمام الصادق المهدي زعيم جماعة الأنصار يعظ الناس من شرورها بكلمة لجده الإمام محمد أحمد المهدي (1843-1885) القائل "من فش غبينته خرب مدينته". فلا ترى قوى الصفوة السياسة في الحرب القائمة ليومنا سوى نزاعاتها بطريق آخر. فتتراشق الجماعتان الاتهامات حول من أشعل الحرب منهما. فيرى الإسلاميون أنصار نظام الإنقاذ الذي قضت عليه ثورة ديسمبر 2018 أن من أشعل الحرب هي "قوى الحرية والتغيير" (قحت) ليعودوا إلى الحكم الذي نزعهم عنه انقلاب العسكريين عليهم خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2021. وتذيع "قحت" أن "الفلول" أي أنصار نظام الإنقاذ هم من أشعلوا الحرب للعودة لسدة الحكم وأوعزوا للقوات المسلحة بشنها.
وعليه، فليس منتظراً أن تكون الأدبيات الكأداء لهذه الحرب الصفوية مورداً صالحاً للنهوض باستحقاق "الملكية الوطنية للحلول" للحرب القائمة، فنصوص هذه الأدبيات مصممة للتشهير لا الإحاطة بالمسألة والقبض على زمامها.
وفي هذا السياق نشر سلمان محمد سلمان خبير المياه السابق بالبنك الدولي رئيس مجلس جامعة الخرطوم السابق على الوسائط أخيراً ملخصاً وافياً لكتابه "الدعم السريع: النشأة والتمدد والطريق إلى حرب أبريل 2023"، وأراد من المقال بيان لماذا كانت لقوات "الدعم السريع" هذه المتانة العسكرية التي تجلت في الحرب القائمة. ومد أصبع الاتهام للفريق أول البرهان كونه المسؤول الأول والأساس عن توسع هذه القوات وتمددها. وبينما أحسن المقال في تبيان دور البرهان المركزي في تمكين "الدعم السريع" كما سنرى، إلا أنه انشغل بتذنيبه انشغالاً حال دونه واستثمار سرديته حسنة التوثيق لفهم أفضل للحرب.

نهابون وقطاع طرق

وقال سلمان إن "الدعم السريع" بدأ كعصبة "جنجويد" (نهابون قطاع طرق) حاربت حركات دارفور المسلحة إلى جانب القوات المسلحة، ولكنها سرعان ما كسبت صيتاً عالمياً سيئاً من فرط جرائمها في تلك الحرب مما استدعى قيام "دولة الإنقاذ"، وقد بلغ قوام الجنجويد 10 آلاف منتسب، لإعادة تنظيمها تحت مسمى "حرس الحدود". ثم غيرت الاسم إلى "الدعم السريع" خلال عام 2013 لتصبح قوة شبه عسكرية تابعة لجهاز الأمن والاستخبارات. وقفز عدد منسوبيها إلى 30 ألفاً. وشرّعت عملها بقانون خلال عام 2017 أجازه المجلس الوطني.
وعرّفها هذا القانون في المادة السابعة منه بوصفها "قوات عسكرية قومية التكوين تهدف إلى إعلاء قيم الولاء لله والوطن". وعددت تلك المادة مهامها لتشمل "دعم ومعاونة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى في أداء مهامها". وعلى قول القانون إنها قوة عسكرية إلا أن المادة السادسة منه رفعت عنها الخضوع للقائد العام للجيش. فبالرغم من تبعيتها للجيش فإنها ليست مأمورة منه لأنها تحت إمرة القائد الأعلى (والذي هو رئيس الجمهورية حسب تعريف القانون). وسمى سليمان ما بين المادتين، أي تبعية الدعم للجيش إلا أنه تحت قيادة رئيس الجمهورية اختلافاً إن لم يكن تناقضاً. إلا أنه عاد ليقول إن تلك الصيغة المتناقضة ضمنت لـ"الدعم السريع" "استقلالاً" من الجيش إلا في حالات استثنائية بذاتها. وجاءت تلك الحالات الاستثنائية في المادة الخامسة والمادة الثانية من القانون. فقالت المادة الخامسة (1) إن "عند إعلان حالة الطوارئ أو عند الحرب بمناطق العمليات الحربية تخضع قوات ’الدعم السريع‘ لأحكام قانون القوات المسلحة لسنة 2007 وتكون تحت إمرته". أما المادة الثانية فخولت لرئيس الجمهورية خلال أي وقت "أن يدمج قوات ’الدعم السريع‘ مع القوات المسلحة وفقاً للدستور والقانون وتخضع عندئذ لأحكام قانون القوات المسلحة لعام 2007".

"الخيط الناظم"

ونبه سلمان باكراً إلى ما سماه "الخيط الناظم" في مفهوم محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد "الدعم السريع" وممارسته السياسية منذ صدور قانون 2017 إلى الاتفاق الإطاري عام 2023، وهو تمسكه باستقلالية "الدعم" عن الجيش. ونجح حميدتي في تحقيق هذه الاستقلالية لـ"الدعم السريع" عن الجيش في تعديلات أجراها البرهان على قانون "الدعم السريع" خلال أغسطس 2019، ألغى فيها حتى تلك الحالات الاستثنائية التي قلنا إن المشرع احتفظ للجيش فيها بما يمكن وصفه بـ"شعرة معاوية" مع "الدعم السريع". فألغى التعديل المادة الخامسة من قانون قوات "الدعم السريع" لعام 2017 التي حددت الحالات الاستثنائية التي تخضع فيها "الدعم السريع" لقانون القوات المسلحة، وأعطت رئيس الجمهورية صلاحيات دمج تلك القوات في القوات المسلحة السودانية، فوقع بذلك الإلغاء طلاق البينونة بين "الدعم السريع" والجيش.
وأعرض سلمان في مقاله عن أمرين مهمين لا يستقيم من دونهما فهم "وزر" البرهان في رعرعة "الدعم السريع"، كما قال محقاً. فلم يتطرق أبداً لدوافعه من إغداق الإمكانات والمزايا التي أحسن سلمان رصدها. وصور حميدتي من الجهة الأخرى طرفاً سالباً يتلقى تلك المكرمات حامداً شاكراً ولا دور له البتة في جعلها ممكنة. فلم ينفذ سلمان إلى سرديته عن ميلاد "الدعم السريع" على يد البرهان، وهي واقعة سياسية، بسلطان التفكيك فيقف على التدافع بين قواها ومراميها. فغلب عليه هنا تدريبه كمحام صارت به السردية "حجة" بين مدع ومدع عليه يأخذ المحامي فيها جانب موكله، وهو هنا "تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية" (تقدم) التي حملت البرهان خطيئة رعايته "الدعم السريع" بعد الثورة حتى انقلب السحر على الساحر. وتغاضى كمحام عما سواها لأنه موكل بتجريم من اشتكى منه موكله. فلم يتخذ حتى سمة التحقيق النيابي الذي يتربص بالدوافع من وراء الجريمة، ويتحرى الفرص التي سنحت للمجرم بارتكابها، ويستوثق من وسائله في ارتكابها.

ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المجلس العسکری الانتقالی الاتفاق الإطاری رئیس الجمهوریة القوات المسلحة الدعم السریع فی الجیش فی الحرب إلا أنه لم یکن إلا أن

إقرأ أيضاً:

ما وراء التسريب المفاجئ لقائد سابق في الدعم السريع

لقد خلّف المشهد الذي ارتسم في بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة في السودان، حيث جلس اللواء أبو عاقلة كيكل قائد ما يعرف بقوات درع السودان المتحالفة مع الجيش السوداني، وهو محاط بنخبة منتقاة من الصحفيين، موجةً من الاستياء العارم في أوساط الشعب السوداني.

لم يكن مجرد انعقاد هذا اللقاء الصحفي هو المستفز، بل تحديدًا ما تضمنه من تصريحات بالغة الغرابة وربما السطحية، والتي وصفها البعض بأنها محاولة باهتة لاستخفاف بوعي الشعب السوداني وذاكرته المضرجة بدماء لا تزال تنزف.

لقد خرج كيكل، الذي لم يمضِ وقت طويل على كونه جزءًا لا يتجزأ من منظومة مليشيا الدعم السريع، ليقدم شهادة "إنسانية" مفاجئة ومثيرة للدهشة في حق قائد التمرد، محمد حمدان دقلو "حميدتي". إذ وصفه بأنه كان "رقيق القلب"، و"كثير الصيام"، بل وذهب إلى أبعد من ذلك زاعمًا أنه "كان يذرف الدموع عند سماع أخبار الجرائم التي ترتكبها قواته"!

وكان واضحًا من خلال ردود الفعل الشعبية والنخبوية الرفض الشديد لهذا النوع من المحاولات الذي اعتبر على نطاق واسع بأنه نوع من التلاعب المستفز بمشاعر الشعب السوداني، الذي اكتوى بنيران هذه الحرب وشاهد بأم عينيه فظائعها. حيث إنه سعْي لتجميل صورة شخص تلطخت يداه بدماء الأبرياء التي أُزهقت بلا ذنب. فهل تحول التعبير العاطفي إلى بديل مقبول للعدالة الغائبة؟

إعلان

الأمر الأكثر إثارة للقلق والانتباه، ألا يكون حديث كيكل مجرد كلام عابر أو انطباعات شخصية عفوية، بل قد يكون جزءًا من محاولة مُحكمة لإعادة تدوير صورة حميدتي، وتقديمها في سياق جديد. هذا السياق يبدو مرتبطًا بشكل وثيق بمساعي تسوية سياسية يجري الحديث عنها وتم تداولها في الخفاء والعلن، على المستويين؛ الإقليمي، والدولي.

متى ما تحوّل العسكري فجأة إلى راوٍ عاطفي، يسرد قصصًا مؤثرة عن خصمه، فلنعلم يقينًا أن هناك جهة ما تحاول أن تقول لك بصوت خفيض: "انظر، لا يزال بإمكانك أن تصدّق هذا الوجه الآخر من القسوة".

هل كان كيكل "صنيعة استخباراتية" للجيش؟

في محاولة لفهم أعمق للدوافع الكامنة وراء تصريحات اللواء كيكل، وتداعياتها المحتملة على المشهد السياسي السوداني، يمكن طرح سؤالين محوريين: إلى أي مدى يمكن اعتبار تصريحات اللواء كيكل "تسريبات مدروسة" أو "اعترافات تلقائية"؟ وهل كانت هذه الإفادات تهدف حقًا إلى تبييض صورة حميدتي المشوهة، أم إنها جزء من إستراتيجية أوسع لإعادة تشكيل صورته بما يخدم مصلحة طرف أو أطراف معينة في هذه الحرب؟

على الرغم من النبرة التي بدت في ظاهرها عفوية للواء كيكل، وهو يسرد بعض التفاصيل المتعلقة بقائد التمرّد حميدتي، فإن السياق العام الذي أدلى فيه بهذه التصريحات، والتوقيت الحسّاس الذي يمر به السودان، والمنبر الإعلامي الذي اختير بعناية لنقل هذه "الاعترافات"، كلها عوامل تجعل من الصعب تصديق أنها مجرد "اعترافات تلقائية" أو انطباعات شخصية عابرة.

إن اللغة المُنمّقة التي استخدمها كيكل في تصوير الجانب "الإنساني" لحميدتي تحمل في طياتها دلالات أعمق بكثير مما تبديه كلماتها السطحية. إنها إفادات تبدو مشحونة بدلالات ناعمة ومُعدّة بعناية فائقة، ويبدو أنها تهدف إلى إعادة تركيب الصورة الذهنية لقائد باتت صورته مشوهة تمامًا في أذهان السودانيين والعالم أجمع، وذلك بفعل جرائم الحرب والانتهاكات الموثقة التي ارتكبتها قواته.

إعلان

إن الطرح الذي يتردد في بعض الأوساط، والذي يفترض أن كيكل كان في الأصل "صنيعة استخباراتية" لصالح الجيش السوداني، وأن وجوده السابق في مليشيا الدعم السريع كان جزءًا من مهمة اختراق أو مراقبة مُخطط لها بعناية، هو سيناريو مثير للاهتمام بلا شك. لكن في الوقت نفسه، يتطلب التعامل مع هذا السيناريو قدرًا كبيرًا من الحذر والتحليل الواقعي الذي يستند إلى السياقات والمعطيات المتاحة.

فمن الضروري أن نتذكر أن كيكل لم يكن مجرد ضابط عادي أو عنصر هامشي في مليشيا الدعم السريع، بل شغل موقعًا حساسًا ومهمًا داخلها، وكان مقربًا من الدائرة الضيقة المحيطة بقائد التمرد. وهذا يشير بوضوح إلى أنه كان يتمتع بثقة عالية من قبل حميدتي شخصيًا- وهو أمر لا يُمنح عادةً لأي شخص يُشتم منه أدنى شك في ولائه أو ارتباطه بجهات أخرى. لكن في المقابل، يجب أن نأخذ في الاعتبار النقاط التالية:

إن وجود ضباط من الجيش أو الأجهزة الأمنية داخل تشكيلات عسكرية غير نظامية أو خارجة عن القانون، لأغراض الرصد وجمع المعلومات أو حتى محاولة التأثير، ليس سابقة جديدة في تاريخ السودان، أو في تاريخ الدول الأخرى التي شهدت صراعات مماثلة. لقد شهد تاريخ الانقلابات والتحولات الأمنية في مختلف دول العالم العديد من الشخصيات التي لعبت أدوار "الاختراق" المعقدة تحت غطاء من الولاء الظاهري للطرف الآخر.

إن ما أدلى به كيكل مؤخرًا من إفادات وتصريحات، من الصعب وصفه بالعفوي تمامًا أو مجرد "اعتراف إنساني" عفوي، بل يبدو منسقًا ومُدارًا بقدر كافٍ يسمح له بالظهور دون أن يتعرض للمساءلة أو المنع، ويُسمع دون أن يتم تجاهل كلامه. وهذا الأمر يعزز بشكل كبير نظرية مفادها أنه إما:

عاد إلى صفوف الجيش بغطاء كامل ودعم من المؤسسة العسكرية، بعد أن أدى مهمة معينة داخل الدعم السريع (إذا كان بالفعل جزءًا من خطة استخباراتية). تمت إعادة توجيهه بشكل إستراتيجي من قبل جهات معينة ليخدم السردية العسكرية الجديدة، أو على الأقل ليقدم رواية بديلة تخدم مصالح الجيش وحلفائه. تم "إطلاقه" في هذا التوقيت تحديدًا كجزء من عملية "إعادة كسب" للرأي العام السوداني الذي بات يكنّ كراهية شديدة لمليشيا الدعم السريع وقادتها، أو كجزء من إستراتيجية أوسع لتفكيك صورة العدو من الداخل وزعزعة ثقة عناصره في قيادتهم. إعلان

إذا صحّت الفرضية بأن كيكل كان بالفعل "عينًا استخباراتية" في قلب المليشيا طوال الفترة الماضية، فإن ما يفعله الآن قد يكون بمثابة كشف للفصل الأخير من مهمة طويلة ومعقّدة.

إن السؤال المُلحّ هو: هل يمكن ربط "التسريبات" التي أدلى بها كيكل بما يدور في الكواليس من حديث متزايد عن وجود ترتيبات سياسية وتفاوضات محتملة لإنهاء الحرب الدّائرة في السودان؟

في هذا السياق، يمكن طرح عدّة سيناريوهات محتملة: هل تصرّف كيكل بمبادرة شخصية وبشكل منفرد، محاولًا اللحاق بـ "بازار التسوية" المحتمل، وتلافيًا لغضب حميدتي بسبب انشقاقه عنه وانضمامه إلى الجيش؟ أم هل يمكن أن تكون هذه "التسريبات" قد تمت باتفاق وتنسيق مسبق مع قيادة الجيش بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان، بهدف تمهيد الرأي العام السوداني تدريجيًا لقبول فكرة مشاركة حميدتي في أي تسوية سياسية مستقبلية، وذلك بعد حالة الغضب الشعبي العارم ضده بسبب الجرائم التي ارتكبتها قواته؟

في ضوء ذلك، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

السيناريو الأول: مبادرة فردية للنجاة: هل تصرف كيكل بمفرده، مدفوعًا برغبة شخصية في تجميل صورته بعد انشقاقه عن الدعم السريع وانضمامه إلى الجيش، ومحاولةً منه للعودة إلى حظيرة حميدتي أو على الأقل تخفيف حدة الغضب تجاهه، إذا شعر بأن هناك صفقة سياسية قادمة لا محالة سيتم فيها تجاهل موقفه الحالي؟ السيناريو الثاني: تنسيق مع الجيش لـ "تلميع" صورة حميدتي في أذهان الرأي العام السوداني، بهدف تمهيد الطريق لقبوله طرفًا في تسوية سياسية قادمة، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة لإنهاء الحرب بأي ثمن. السيناريو الثالث: بالون اختبار سياسي: هل كانت تصريحات كيكل بمثابة "بالون اختبار" سياسي أطلقته جهة ما (ربما إقليمية أو دولية) لقياس رد فعل الرأي العام السوداني تجاه أي محاولة لإعادة دمج حميدتي في المشهد السياسي المستقبلي، أو على الأقل تخفيف حدة العداء تجاهه؟ إعلان كيف يقنع البرهان شعبًا موجوعًا بتسوية مع الجلاد؟

إن التحدي الأخطر الذي سيواجه البرهان إذا ما أقدم فعلًا على الدخول في تسوية سياسية تشمل مليشيا الدعم السريع وقادتها، إذ كيف يمكنه أن يقنع شعبًا بأكمله موجوعًا ومثخنًا بالجراح، وقوات نظامية ومستنفرين يقاتلون ببسالة ويقدمون أرواحهم فداءً للوطن، بأن يجلسوا إلى طاولة واحدة مع أولئك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم والانتهاكات بحق المدنيين والأرض؟

إن هذا التحدي يتطلب إستراتيجية سياسية وإعلامية وأخلاقية متكاملة ومحكمة تتمثل في وجوب أن يؤسس البرهان خطابه بشكل واضح وصريح على قاعدة أخلاقية متينة لا تقبل الشك أو التأويل، بحيث تُقدم أي تسوية محتملة للرأي العام السوداني ليس باعتبارها مكافأة للمليشيا المتمردة أو تبرئة لجرائمها، بل كآلية ضرورية لوقف نزيف المدنيين الأبرياء، ومنع تفكك الدولة السودانية وانهيار مؤسساتها، مع التأكيد في الوقت نفسه على أن ملف المحاسبة سيظلّ مفتوحًا، وسيتم التعامل معه لاحقًا عبر آليات عدلية وقضائية مستقلة، سواء كانت وطنية أو دولية، تضمن تحقيق العدالة الناجزة لجميع الضحايا.

يجب على البرهان أن يتوجّه بخطاب مباشر وقوي إلى القوات النظامية والمستنفرين الذين يسطرون أروع ملاحم البطولة في ساحات القتال، قائلًا لهم بصدق وتقدير: "إنكم لم تقاتلوا عبثًا ولم تُرق دماؤكم هدرًا، بل قاتلتم بشرف وبسالة دفاعًا عن عزة وكرامة الوطن، وعن أرواح وممتلكات أهلكم. ولولا صمودكم الأسطوري وتضحياتكم الجسام، لما كان هناك أي حديث عن تسوية في الأساس.. أنتم من فرضتم بشجاعتكم شروط أي حل سياسي مشرف".

كذلك لا يمكن تصور أي تسوية سياسية مستدامة دون تقديم ضمانات أمنية قوية وواضحة تمنع تكرار الكارثة تتمثل في:

إعادة هيكلة (الدعم السريع) بشكل كامل ودمجها تحت إشراف صارم من الجيش، بما يضمن ولاءها الكامل للدولة ومؤسساتها. إبعاد القيادات المتورطة في ارتكاب الجرائم والانتهاكات بشكل نهائي من المشهد العسكري والسياسي، وتقديمهم للعدالة. سيكون هناك جدول زمني واضح ومُلزم للانتقال التدريجي من مرحلة حمل السلاح إلى مرحلة بناء الدولة المدنية الديمقراطية والمؤسسات القوية. إعلان

أيضًا لضمان قبول أي تسوية محتملة من قبل القوات المسلحة والقوات المتحالفة معها، لا بدّ من إشراك قيادات هذه القوات وممثلين عنهم في عملية صنع القرار وصياغة أي وثيقة للتسوية. يجب أن يشعر هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم أن ما قاتلوا من أجله يتم الحفاظ عليه ولا يتم التنازل عنه في غرف مغلقة أو تحت ضغوط خارجية.

خلاصة القول: إذا كان الجنرال البرهان يسعى حقًا إلى تحقيق تسوية سياسية تحظى بقبول شعبي وعسكري واسع، فعليه أن يقدم هذه التسوية للشعب السوداني باعتبارها ضرورة مؤقتة وملحة لحماية الكيان الوطني من الانهيار الكامل، وليس باعتبارها ترضية سياسية لطرف دولي أو إقليمي.

يجب أن تكون أي تسوية مصحوبة بوضوح تام في ملف المحاسبة، وشفافية كاملة في الترتيبات الأمنية والسياسية المستقبلية، وصدق مطلق في الخطاب الموجّه للشعب.

الجروح التي أحدثتها هذه الحرب لا تزال مفتوحة ونازفة، ولن تلتئم إلا بالحقيقة والعدالة، وليس بالصفقات المشبوهة أو محاولات تجميل صورة من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • مسيرات “الدعم السريع” تقطع الكهرباء عن الخرطوم وعدد من الولايات
  • ما وراء التسريب المفاجئ لقائد سابق في الدعم السريع
  • رصاصة قناص تحول فرحة جندي في الدعم السريع الى كارثة “فيديو”
  • مسؤولون أمريكيون: الجيش اليمني كان على وشك إسقاط طائرة F-35
  • الجيش السوداني يقتحم آخر معاقل الدعم السريع في أم درمان
  • عاصفة من الجدل بالسودان بعد تسريبات كيكل عن حميدتي
  • شاهد.. الفنانة إنصاف مدني تثير ضحكات الجمهور بعد مطالبتها البرهان بــ(ختان) النساء المتخصصات في الإساءة على السوشيال ميديا وتهاجم المليشيا: (انعل أبو الدعم السريع وأبو حميدتي وأبو الحرب)
  • ينتمي لوطنه فقط.. طارق حجي يكشف عن سر قوة ووحدة الجيش المصري|شاهد
  • من يقرر مستقبل الدعم السريع ؟
  • بالنسبة للشعب السوداني فإن حميدتي مات وشبع موتاً